مرَّ شهران على فوز "حزب العدالة والتنمية" الإسلامي في الانتخابات التشريعية، ولم يتمكن زعيمه بنكيران من تشكيل الحكومة. واضح مدى عُسر ولادة الحكومة الإسلامية الثانية بعد الربيع العربي / الأمازيغي. بيولوجياً، تكون الولادة الأولى هي العسيرة، لكن في السياسة الأمر مختلف، لأن الخوف من شعبية الإسلاميين تجعل جنين السلطة يعتصم بالرحم العميق. لم يتعوّد المغاربة انتظار حكوماتهم طويلاً، بل من الرائج عن حكومة المغرب في 2007 أن الوزير الأول تلقى في اتصال هاتفي ودفعة واحدة أسماء أعضائها. أما حكومة الإسلاميين الأولى في 2011 فقد تطلبت وقتاً، لكنه بقي معقولاً.
في الأسبوع الأول بعد الفوز، خرج "خنيبرة" (تحريف شعبي ساخر لصفة خبير ومحلل سياسي ويقال أيضا "مخلل") وأعلن أن النتائج لم تكن متوقعة. وللهروب إلى الأمام، رفض تشكيل حكومة منبثقة من صناديق الاقتراع، وطالب بحكومة وحدة وطنية، لأن البلاد في خطر. كثرت الأفواه والأقلام التي ترى الخطر وتبارك "حكومة الوحدة".
هكذا يلغي المخلل - خنيبرة كل فارق بين الأحزاب. وقد تساءل أحد الرفاق غاضباً: هل تعلمين ما هي الخيانة يا صفية؟ الخيانة هي أنه قبل الانتخابات يقولون لكَ صَوِّتْ على برنامج الحزب وبعد الانتخابات يقولون لكَ سنطبق برنامج الملك.
هل هناك فعلا خطر؟ لا. لماذا؟
لسببين: الأول هو أن قادة جلّ الأحزاب زاروا بنكيران في مقره، مبتهجين بالمشاركة في الحكومة. والثاني أنه لم يسبق للوضع الجيوستراتيجي للمغرب أن كان أقوى مما هو عليه اليوم.
العمق الأفريقي يترسخ. بعد زيارة أفريقيا الفرانكوفونية، انتقل الملك إلى أفريقيا الأنغلوفونية لتوقيع اتفاقيات في الطاقة الشمسية والفلاحة والاتصالات وقطاع البنوك. روسيا تريد المزيد من الخضار المغربية. النفط رخيص وخزينة الدولة تستفيد منه بضرائب باهظة. الوزن الأوروبي للمغرب يزداد أمنياً وتجارياً وسكانياً. إسبانيا مشلولة ومرعوبة من استفتاء كاتالونيا وبالتالي لا يمكنها أن تنصح المغرب بتنظيم استفتاء في الصحراء. في الحكومة الفرنسية ثلاث مغربيات، وفي المعارضة الفرنسية مغربية، وتوجّه ساركوزي من موسم سيدي عبد الله أمغار جنوب الدار البيضاء. الجزائر تنتظر شفاء بوتفليقة. البرتغالي أمين عام الأمم المتحدة الجديد يعرف المغرب، والبرتغالي الآخر رونالدو يبني فندقاً في مراكش. قمة المناخ العالمية 22 عُقدت في المغرب. وسائل الإعلام العالمية تشيد بالاستثناء المغربي، لذا لا تحتاج السفارات المغربية أن تنفق الكثير في العلاقات العامة. دول الخليج بين مصر السيسي من الغرب وحروب اليمن والشام، والمغرب هو سند دول الخليج وهذا يدر البترودولار. المغرب يقدم نموذجاً سياسياً إذ يدبر الوضع دون قطرة دم. وآخر ثمرة هي توقيع الملك ورئيس نيجيريا اتفاقية لإنجاز أنبوب غاز يربط نيجيريا بالمغرب وينقل الغاز لأوروبا على امتداد 4000 كلم، وذلك بعد توقيع اتفاقية لينشئ المغرب مصنعا للأسمدة بمليارين ونصف مليار دولار بإثيوبيا. هذه معطيات ستضاعف من قوة المغرب. فمن أين جاء "خنيبرة" بالخطر؟
بعد فشل مناورة حكومة وطنية شرع المخلل - خنيبرة وجوقته يطالبون بتعديل الدستور، بل ويحررون مذكرات إلى الملك لتغيير قواعد اللعبة. كل هذه المضاربات لها معنى واحد: احتقار الناس. والناس لا ينسون، وسيسوي الناس الحساب في أقرب فرصة مع السياسيين "الخنيبرات" ومستشاريهم مدراء مراكز الدراسات الوهمية.
لم تثمر المضاربات شيئاً، بينما عسر ولادة الحكومة يزداد والشعب ينتظر. بيولوجياً يؤدي عسر الولادة لوفاة الأم أو الجنين، بينما في المغرب قد تموت التجربة الديموقراطية، خاصة أن القياديين الحزبيين كشّروا كلهم فجأة، ورفضوا المشاركة في الحكومة التي سيشكّلها الإسلاميون. يقول المنجمون أن التكشيرة ناتجة من اتصالات هاتفية من غرفة واحدة.
كثر التنديد بالتكشيرة، لكن طول فترة التدجين منعت قادة الأحزاب من ملاحظة سلوكهم. لولا الرعاية الداجنة من السلطة لما أمكن لجل هذه الأحزاب أن تستمر إلى الآن.
إليكم حلقات الإخراج المسرحي للتغيير الحزبي للدفع بلاعب جديد إلى الملعب:
صدر بيان واضح: زعيم حزب "التجمع الوطني للأحرار" يستقيل لأن الحزب خسر سبعة عشر مقعداً في الانتخابات التشريعية تشرين الأول/ أكتوبر 2016. وبعد ساعة بيان آخر: مكتب الحزب يرفض الاستقالة وبالإجماع بعد نقاشات عميقة ومستفيضة.
سخرت المواقع الإلكترونية التي تتجدد على مدار الساعة من قلة الفارق الزمني بين البيانين. يبدو أن بلاغ الاستقالة كتب أثناء الاجتماع أو لم يكن هناك اجتماع أصلا. الحل؟ أعلن الحزب عن اجتماع. لا يمكن لحزب تجاهل ما يُكتب عنه. وقد صار الحزب مثل مواقع للتواصل الاجتماعي، يتفاعل وينشر الردود فوراً.
ومن جهة أخرى لا صلة لها، أعلن حزب "الاتحاد الدستوري" - الذي أسسه شخص بعد وصوله رئاسة الحكومة - نيته التحالف مع الحزب الذي رُفضت استقالة زعيمه. للإشارة زعيم الاتحاد الدستوري حاليا هو رجل أعمال كبير.
هنا الوضع مستقر. لدينا حزبان تآلفا.
ثم أعلن عن اجتماع مكتب "التجمع الوطني للأحرار". وقبله أعلنت برلمانية من الحزب فايسبوكياً أن وزير الفلاحة، الملياردير، غير العضو في الحزب، سيصير زعيماً للحزب الذي أسسه صهر الملك الراحل منذ أربعين سنة.
هنا بدأ التشويق.
للإشارة، انضمّ الملياردير الذي سبق لمجلة "فوربس" أن صنفته ضمن أغنى أغنياء المغرب، إلى حزب "التجمع الوطني للأحرار" في تشرين الأول / أكتوبر 2007 ليصير وزيراً، واستقال منه في كانون الثاني / يناير 2012 ليصير وزيراً تكنوقراطياً.
تساءل المعلقون: كيف يصير شخص غير عضو في حزب زعيما له؟
سهلة. صدر بيان يقول إن الحزب يدعو عضوه السابق للعودة للحزب وسينظم مؤتمراً استثنائياً. وأما عن المشاركة في الحكومة التي يسعى عبد الإله بنكيران لتشكيلها، فالحزب "قرر عدم المشاركة إلا إذا توفرت الشروط اللازمة".
تجربة غير مسبوقة في التاريخ. الخاسرون في الانتخابات يضعون الشروط ويطالبون باحترام نتائج الاقتراع.
الخاسرون يبتزون الفائزين. ليس لدى الحزب المدجّن مذهب فكري يربط بين الأفعال ونقاط الضعف والفرص ويخرج بخطة... وقبل المؤتمر الاستثنائي، صار الملياردير زعيماً بالإجماع، ثم انعقد اجتماع جديد. وأعلن حزب "الحركة الشعبية" - الحزب الذي يزعم تمثيل الفلاحين والذي كان حليف بنكيران في الحكومة السابقة - أنه لن يشارك في الحكومة إلا إذا شارك فيها الملياردير.
نهاية المسرحية: الملياردير يصير رأس حربة لشغل الفراغ الذي تركه تراجع حزب "الأصالة والمعاصرة". أفكاره تثير الاعتراضات، بينما المال والنفوذ يدكان الاعتراضات دكاً. المصيبة أن المال لا يُسكِت مواقع التواصل الاجتماعي.
حالياً يُصدم الملياردير من "قلة أدب" المعلقين الذين يشيرون إلى شركاته وامتيازاته وأهمها تزويد منطقة الصحراء كاملة وحصرياً بالوقود. ولم ينتبه إلى أن المعلقين ليسوا زبائنه.
إليكم الوضع الآن: يقود الملياردير كتيبة من ثلاثة أحزاب. قال بنكيران: "المشاورات تتم مع كل حزب على حدة، وليس مع مجموعة أحزاب".
هكذا تشكل "كارتل" حزبي عاجل مكون من برلمانيين انتخبتهم قبائل فيها فلاحون يحرثون بالحمير ويقودهم مُتَبَرْجِزَانِ يسكنان حياً فخماً في الدار البيضاء، ويتاجران بالبورصة. كارتل رأسمالي يشكل كارتيلاً سياسياً. إنه التوحيد الإكراهي الحزبي.
مصيبة: أحزاب اليمين الإدارية تتوحّد وأحزاب اليسار تتوالد وعليها تحديد النسل الحزبي.
قبل الانتخابات، تم تخفيض العتبة لتشتيت الأصوات، ويتم الآن تجميع الأحزاب لتقوية كتلة الصد لملء الشغور الذي خلّفه تراجع حزب الأصالة والمعاصرة الذي كان يعرف بأنه "حزب صديق الملك".
بعد نهاية المسرحية اتضح الوضع: يجري التفاوض لتشكيل حكومة ائتلافية، بالعرض البطيء لتفريغ الغضب والضغط. يرجع عسر ولادة الحكومة الثانية للإسلاميين، لكون السياق تبدل والدولة العميقة تسترجع مواقعها، لكنها تخاف إعادة الانتخابات. المهمّ، كلما طالت المدة بين إعلان نتائج الانتخابات وتنصيب الحكومة نسي الناس الصلة بين الاثنين.
ثم أعلن زعيم حزب "الاتحاد الاشتراكي" الذي حصل على خمسة في المئة من المقاعد أنه يريد خمسة وعشرين في المئة من المناصب الوزارية للمشاركة في الحكومة. لا يريد علاقة بين سعره وعدد مقاعده. وخوفاً من الاستجابة لطلبه زاد: يشترط مشاركة الملياردير في الحكومة.
التمطيط جار، وقد شرع الملياردير في تعلم السياسة في دروس قاسية منذ البداية.
جاء الملياردير للتفاوض - وفي جيبه أربعة أحزاب - مع بنكيران، وطالب برفع الدعم عن السلع الأساسية وعدم دعم الفقراء مباشرة، وبإبعاد "حزب الاستقلال".
الدرس الأول القاسي هو أن الملياردير افترض المفاوضات الحكومية سرية، ولم يقل له أحد مستشاريه ("خنيبرة" مثلاً) أنه في التنافس الديموقراطي تعتبر العلنية نقطة قوة. لذلك حين نشر بنكيران محتوى المفاوضات، وجد الملياردير نفسه في ورطة، وشرع يتصل بالمواقع الإلكترونية لينفي، ويؤكد أن حزبه الليبرالي مع دعم الفقراء.
الدرس الثاني وهو الخطير، حين سيطرح بنكيران مستقبلاً دفع مئة دولار لكل أسرة فقيرة شهرياً، سيكون على الملياردير أن يصفق، وإلا سيناقض نفسه.
قاعدة سياسية: كل مقلب أو سهم من عشر سنتمترات ترسله للخصم ولا يصيب يرتد عليك بمئة سنتمتر تخوزقك.
لقد صار الملياردير وزيراً محترماً لكفاءته التدبيرية لثروته، وبالتالي للقطاع الذي يشرف عليه. وإلى هنا لم يتعرض للهجوم قط. وكان قد أعلن قرب اعتزاله السياسة. لكن فجأة زُج به في معمعة بلا قعر. وفي كل مرة يتناقض قوله مع فعله، سيفترسه المعلقون على المواقع الإلكترونية، ويُسمَون هنا "الكتائب". مالياً، الملياردير يمكنه صرف ملايين الدولارات لشراء كتائب تحميه، لكن المعلقين المفترسين على مواقع التواصل ليسوا للبيع. لذلك يمكن للملياردير أن يفعل ما يشاء. لكن المعلقين يدعون لمقاطعة منتجات شركاته وينزعون أية شرعية سياسية عن سلوكه السياسي.
الآن: الشعب ينتظر، الملك في جولة أفريقية طويلة، رئيس الوزراء جالس في بيته، الملياردير يرافق الملك وتشكيل الحكومة في ثلاجة على الرغم من البرد. وهي الحكومة التي وضع لها عراب الإسلاميين المغاربة العلوي المدغري في كتابه "الحكومة الملتحية" 2006 المعادلة التالية: "شعب مسلم + ديموقراطية وانتخابات نزيهة = حكومة إسلامية".
ستصبح:
شعب مسلم + انتخابات نزيهة = أزمة سياسية.
عاد المخلل خنيبرة لنقطة الصفر: يطالب بتدخل الملك ويلعن الأحزاب ويمجد حكمة الدولة العميقة.