صعوبات العيش في الأرياف بالمغرب

لم يُذكر مطلب التوزيع العادل للأرض في برنامج أي من الأحزاب التي فازت أو خسرت في الانتخابات التشريعية في مطلع تشرين الأول/ أكتوبر المنصرم. بفضل عمل الفلاحين المضني، لا يستورد المغرب كلّ ما يأكله، ولا يعرف الجوع لخصوبة أرضه وقلّة سكانه. الحقل المغربي يُنتج ويُصدِّر
2016-11-23

محمد بنعزيز

كاتب وسينمائي من المغرب


شارك
حليم قارة بيبان - تونس

انتهت الانتخابات فالتفت الناس للفلاحة. لقد تأخر المطر وبقي الطقس حاراً حتى منتصف تشرين الأول/ أكتوبر. وفجأة هطلت أمطار متفرّقة وظهر طير البقر يتسابق مع الزرّاع على الحبوب وعلى دود الأرض. لكن الحصاد بعيد، لذلك فالمغرب مضطر لاستيراد مليوني طن قمح هذا العام. وقد بلغ سعر العدس أكثر من ثلاثة دولارات للكيلوغرام الواحد. يشتد الغلاء في المواسم الفِلاحية السيئة. إنه رزق تحت رحمة الطقس. لكن ليس للطقس الأثر نفسه على كل الفلاحين، ذلك أن 70 في المئة منهم يملكون 24 في المئة من الأرض، و1 في المئة من الفلاحين يملك 15 في المئة من الأرض، وتزيد مساحات ضيعات هؤلاء عن 122 هكتارا. تحتاج ماشية الفلاح الصغير وقتا لتكبر، بينما تكبر وتسمن عجول الفلاح الكبير بسرعة شديدة، وهو يملك وسائل رعاية مجدية كالزراعات المروية المربِحة.. يعرف الفلاح الكبير كيف يدبر أموره، لذا لا يحتاج أن يكتب عنه أحد. للإشارة، لم يُذكر مطلب التوزيع العادل للأرض في برنامج أي من الأحزاب التي فازت أو خسرت في الانتخابات التشريعية في مطلع تشرين الأول/ أكتوبر المنصرم.
تنحصر ثروة 70 في المئة من فلاحي المغرب في قطعة أرض لا تزيد مساحتها عن خمسة هكتارات وبضع بقرات ونعاج ودجاج وديك هندي، وبغل وحمار وعدة كلاب لصدّ اللصوص. والأصعب هو تدبير هذه الأملاك يومياً دون التخلّي عن أي منها. خدمة الأرض ورعاية الحيوانات في موسم جاف أمر صعب ومرهق.. لكن تنويع الأنشطة بين زراعة وتربية ماشية أمر ضروري لتجنب الخسارة في ظل تآكل هامش الربح بسبب تقلبات الطقس وغلاء الأعلاف وأمراض الخضار التي صارت مثل البشر، تحتاج أدوية كثيرة لتبقى حيّة وتثمر.
حين لا يكفي المحصول يبيع الفلاح كبشاً لتغطية مصاريفه ويبيع عجلاً لحرث الأرض.. ومع الزمن يحول العمل الفِلاحي البدني الحياة إلى صراع منهك من اجل البقاء. يتجنب الفلاح كل مظاهر البذخ لأنه يراكم الديون ويؤدي للإفلاس، لذلك يكرر المغاربة "التدبير نصف المعيشة".

العمل البدني

التطبيق اليومي لهذا التدبير هو عمل أكثر وإنفاق أقل، ولكي يحافظ الفلاح على نقوده يبذل بدنه. يعمل أكثر من ست عشرة ساعة يومياً، يتجنب تشغيل عمال زراعيين لكي لا يضر ذلك بدخله. يزرع برسيماً ويحصده بمنجله كي لا يشتري علفاً، ويشغل زوجته معه في حصد البرسيم.
في بوادي اليوم تغيّر المشهد: لم يعد آدم يحرث وحواء تغزل وتطبخ، صار تشغيل النساء في الحقول يتزايد باستمرار، صارت الشاحنات تجلب العاملات من القرى وحتى من ضواحي المدن الصغرى للعمل في الحقول، وقد فرضن توقيتهن وهو العمل من الثامنة صباحا حتى الرابعة بعد الظهر مع تسديد الأجر في الحين ويبلغ ثمانية دولارات لليوم. وتشعر هؤلاء النسوة بأن الشغل حررهن من الحاجة، وغالباً ما تجدهن مساء في المدينة متزينات برفقة أولادهن وأزواجهن يتجولن ويشترين..

 

لم يُذكر مطلب التوزيع العادل للأرض في برنامج أي من الأحزاب التي فازت أو خسرت في الانتخابات التشريعية في مطلع تشرين الأول/ أكتوبر المنصرم

 

فعلاً، وكما قال ماركس: "لا تبدأ مملكة الحرية إلا بعد الشغل". لكن حين يكون هذا الشغل بدنياً ومستمراً فإن الجسد يُنهك. وهنا تبدأ العبودية مع الشغل المؤبد. هكذا يعي السيوسيولوجي البصاص الوضع باعتباره ابن فلاح أنقذته المدرسة العمومية من العمل الشاق ومن برد وظلام الريف. لقد قرأ في مكان ما عن آثار الإنهاك الجسدي هذه المقولة المهينة: "إنّ التعب يجعلنا جبناء". لذا ليس غريباً أن يصف الثوريون الفلاحين بأنهم رجعيين جبناء وضد التغيير، بل ويجندون أولادهم في أجهزة الأمن لخدمة الدولة القمعية.
قبل أن يتكشف هذا الإنهاك البدني، كانت للسوسيولوجي البصاص نظرة رومانسية عن الفلاحة. ففي المدرسة أعطوه قصة راعية الإوز السعيدة. وفي الإذاعة أسمعوه كل صباح مغنية تحب فلاحاً وترحب بالبساطة. كان التعليم والإعلام يروجان لحياة الفلاحين السعداء. حتى الجنة لها مظهر فِلاحي، ففيها نخل وأعناب..
كان التعليم والإعلام، وما زالا، سطحيان يروجان لنظرة رومانسية عن البادية والفلاح رمز البراءة. لكن الحقائق صادمة، لأن الفِلاحة رمز البؤس لا الرومانسية. وليس صدفة أن يدل الهوس بصفاء البشرة على أمل الانفصال عن طبقة الفلاحين غير المشرِّفة ببشرتها التي لوحتها الشمس. من نفى هذا يكذب على نفسه. في الاقتصاد تجري معاملة احتقارية لمن لا يملك، ولا يحظى من يحلب بقرته بيده بالاحترام. الفلاح الذي يملك قطعة ارض صغيرة وذراعه هو مفلس لأنه لا يملك تمويلاً. فمن يحب المفلسين؟ ولمعرفة شكل الجغرافيا الاقتصادية للبوادي، يكفي النظر لتضاريس وجوه وأيدي الفلاحين الفقراء. للبرد والظلام سلطة رهيبة في البادية، وخاصة في فصل الشتاء. يستحيل شرح هذا لمن لم يعشه.. وكلّما كان المستوى التعليمي للبشر منخفضاً أو منعدماً سهل عليهم تقبل العمل العضلي.

 

أحد أسواق المغرب (تصوير: مصعب الشامي - مصر)

 

وبفضل عمل هؤلاء، لا يستورد المغرب كل ما يأكله. لا يعرف المغرب الجوع لخصوبة أرضه وقلة سكانه. الحقل المغربي ينتج ويُصدِّر. تراجع استيراد الحليب ومشتقاته بنسبة 40 في المئة في 2015. خلال العام الحالي، صدّر المغرب 482 ألف طن من الخضار إلى أوروبا جلبت له 590 مليون يورو. لكن المغرب لا يسدد على شماله فقط، فقد كثر الحديث عن أن مستقبل العالم يوجد في أفريقيا. أدرك المغرب هذا مبكراً، فحاليا تصل الشاحنات المغربية حتى مالي والسنغال وساحل العاج محملة بالبصل والبطاطا.
هنا اقتصاد حقيقي من تراب وفأس وبقرة وحمار وبئر.. لا مكان هنا للأسهم والمؤشرات الحمراء والخضراء والمعاملات الافتراضية على شاشة ملساء. المعاملات هنا تجري بيد خشنة وجبين يعرق.. وعلى الرغم من صعوبة الحياة بسبب بُعد الفلاحين عن المراكز الحضرية، وعلى الرغم من ظلام الليل، وصعوبة الوصول للتمويل، وغياب الخبرة الفِلاحية، وأنّ الاقامة وسط حقل بعيد عن مرافق القرية، دون طريق، يسهل على اللصوص الإغارة على البقر والغنم، وعلى الرغم من وجود فلاحين لا يملكون وثائق الأرض لأن ملكيتهم بالوراثة، فهم يبيعونها بسعر جيد للمصابين بالجوع إلى الأرض، يبيعونها ليهاجروا إلى المدن على أمل تعليم أولادهم ليحصلوا على مستقبل أفضل، لأن التعليم بالبوادي متدهور إن لم يكن معدوماً. وللمقارنة بين البوادي والمدن، فحسب إحصاء 2014 يجد قطاع التعليم الأولي صعوبة في الانفتاح على الأوساط الفقيرة عامة والقروية خاصة. علما أن التعليم الأولي يقلّص الهدر المدرسي بمقدار النصف، ويُحسِّن النجاح بالمقدار نفسه على امتداد المسار التعليمي، ويزيد بصورة ملحوظة من الرأسمال البشري وأمد الحياة الدراسية.
يفتقد تلاميذ البوادي كلّ هذا الرأسمال وهذا الأمد. وللإشارة، هناك 6 أطباء لكل 10 آلاف مغربي كمعدل، لكن جُلّ الأطباء متمركزون بالشمال الغربي للبلاد، على الشريط الساحلي بين مدينتي طنجة والدار البيضاء. لذا يهاجر الفلاحون إلى مدن هذا الشريط.

البقاء للأكثر تمويلاً وخبرة

تعب الفلاحون، فتقدّم المقاوِلون القادمون من المدن، خاصة أن القوانين والامتيازات والمساعدات التي تقدمها الحكومة تفيد المقاولين الذين يملكون أراضي مسجلة في الشهر العقاري أكثر من الفلاحين الفقراء. مؤخرا اشترى طبيب قطع أرض من مجموعة من الفلاحين وسيَّجها. غالبا ما يجري تسييج شديد على الأراضي المجاورة للطرق. وكلما كانت الطريق رئيسية وتربط بين مدن مهمة، كانت السياجات أعلى وأغلى ويصعب اختراقها. وهذا يجعل الرعاة في محنة.

 

بفضل عمل الفلاحين المضني، لا يستورد المغرب كلّ ما يأكله، ولا يعرف الجوع لخصوبة أرضه وقلّة سكانه. الحقل المغربي يُنتج ويُصدِّر

 

يدمّر تسييج الأراضي طبقة الفلاحين، وهم أنصار الأحزاب الحداثية الموالية للسلطة في الانتخابات. سباق الفلاح والمقاول مثل سباق سلحفاة وأرنب شكاك غير مغرور. أرض الفلاح تُحرث عاماً وتنام عاماً، مال المقاول لا ينام، يعمل في الليل والنهار. الطبيب المقاول القادم من المدينة يهمه جمال المنظر الرومانسي أكثر من المحصول. يقوم بتجهيز ضيعته بسخاء. يحفر البئر بعناد، لا يهمه العمق والكلفة لكنه سيصل إلى الماء دون قول "إن شاء الله". يحلم الفلاح بشيخوخة في الظل إن شاء الله. لن يصل إليها.
للإشارة، في 1960 كان هناك 833 ألف مغربي فوق سن الستين، في 2014 وصلوا إلى مليونين و400 مئة ألف شخص. لكنّ أمد العمر ليس متساوياً في المدن والبوادي، ففي المدن يبلغ متوسط العمر سبعاً وسبعين سنة بينما يبلغ أثنتين وسبعين سنة في البوادي. الفارق خمس سنوات، لكن هنا أيضا هناك فارق بين الجنسين، ففي البوادي غالبا ما يموت الرجال مبكراً بسبب القهر البدني والاقتصادي. في قريتي، قبيلة آيت واحي ـ 70 كيلومتراً شرق الرباط ـ لا يوجد رجل في السبعين، بينما هناك مئات الأرامل. وهذا يطرح مشكلاً للفلاحين الذين يريدون توثيق ملكيتهم لأراضيهم بالشهود. العدل الموثِّق يرفض شهادة الأصغر سناً لأنهم لم يكونوا في لحظة تقسيم تلك الأرض بين الورثة.
بسبب الهجرة القروية وشيخوخة الفلاحين وضعف النمو الديموغرافي، ستفقد بوادي المغرب وزنها البشري. لكن الحاجة للأكل تتزايد محلياً وعالمياً، وهذا سيزيد الحاجة لمكننة الإنتاج. كلّما زادت الأفواه زادت الحاجة للأكل وزادت الحاجة للفوسفات، وهو سماد للأرض، ولدى المغرب مخزون هائل منه. وكلما تعرّضت الأرض للإنهاك زادت الحاجة للأسمدة. وفي هذه الحالة لن تكفي ملكية قطعة أرض. لن تكون الأرض مهمّة بحد ذاتها، بل ستصير موارد ووسائل استثمارها ضرورية جداً، ومن لا يملك هذا سينقرض، وسيكون البقاء للأكثر تمويلاً وخبرة. لذلك يجلب المقاول نزعة تجارية قاسية إلى البوادي وإلى الفلاحين الذين يعتبرون "الطمع عاراً". المقاول يسمّيه "زيادة الأرباح"، هكذا حاف، دون حمولة أخلاقية.

مقالات من المغرب

للكاتب نفسه