من غزة
ميلاد ولجوء: عن المخيم ومساكن الموت البطيء
محمود زُغْبر
"رائحتكم تُمحى"، يقول صديق يقبع تحت القصف، مخاطباً مجموعة الصداقة التي عشنا سنواتها الطويلة في غزة، ومن ثم فرّقها الحصار.
اليوم، في خضم الإبادة الجماعية التي تتعرض لها مدينتي، أتمم ثلاثين عاماً. مثل هذا اليوم أيضاً، قبل ثمانين عاماً وُلد أبي في مدينة المجدل المحتلة، أي قبل أن يكون هناك شيء اسمه إسرائيل بعد. في كل عام تمنحني تلك الصدفة أزيد من حاجتي من مشاعر الانتماء لربط قلبي بفلسطين. شكراً أبي. كنت مزيجاً رائعاً من عمل الفلسطيني السويّ لديمومة الهوية والحفاظ على استمرارية الحياة. من القاهرة، كما المجدل وغزة، في الرحلة ذاتها التي لا زالت تنتقل فصولها بين الهوية والتاريخ.
***
من مصر
مصر التي كسرت خاطري وتقيّد فمي
منى سليم
هل يأتي يوم تُحرِّرنا فيه مصر من وجعنا المكلوم منها وبها وعليها، فأجد نفسي على حين غرة ملتحمة بملايين أعرفها ولا تعرفني؟ هل ترضى عنا الأيام؟ وهل سنمتلك حينها القدرة على التخلص من كل أصحاب الأحذية الثقيلة محلياً ودولياً في آن؟
هذه كتابة شبه ذاتية، شبه موضوعية، تأتي على وقع ألتَماس على مدى أكثر من شهر مع الحياة العامة في جمهورية مصر العربية. أربعون يوماً تقل أو تزيد، بدأتْ مع مصطلحٍ لمع كالبرق ثم خبا من قلب القاهرة هو "معركة توكيلات الانتخابات الرئاسية". وقبل أن ينسحب طيفه، أضاءت السماء بكامل وميضها وتألق جل وهجها من داخل قلب غزة مع انطلاق "طوفان الأقصى"، ثم انهال الوجع.
***
من العراق
هل تعرف الجثة؟
فؤاد حسن
أطفال غزة هم أطفال المخيم الذي أسكن فيه منذ عشر سنوات، والأمهات الثكلى هناك هنّ أنفسهن هنا. أنا أعرف ماذا يعني جريمة أن تولد في المكان الذي يحاول العالم إجبارك على اعتباره "خاطئاً" واعتبارك "مجرماً" لأنّك وُلدت بهوية معينة. فأنا نفسي، وأهلي كلهم، حدث معنا الشيء ذاته*.
تسأل أباك وهو يحبس دموعه، هل تعرفني أبي؟ قالوا: اكتبوا أسماءكم على أيديكم كي نعرفكم. كتبته، لكن القصف كان أقوى من يدي وحوَّلها إلى فحمٍ يبدو كجزء مقطوع من قلب الليل، الليل الذي نعرفه ولا نعرفه. تعرفت إليها بعد النبش تحت بقايا البناية، هل تعرفت إليها؟ إنها تُلوّح لك، اليد التي أمسكت بها لتساعدني على السير، اليد التي رسمتك أنت وأمي وأخوتي، تلوح لك من تحت الأنقاض، فهل تعرفت إليها؟
***
ماذا سيحدث لو جمعنا ما القته اسرائيل على غزة في قنبلة واحدة؟
إذا جمعنا ما ألقته إسرائيل من متفجرات على غزة في قنبلة واحدة، فسنحصل على قنبلة نووية بقوة 30 كيلوطن. وإذا فجرنا هذه القنبلة النووية في مدينة غزة، وفقا لأداة "نيوك ماب" (NUKEMAP) وبحسب تأثير قنبلة نووية عندما تلقى على مدينة معينة، فسيحدث التالي...
من "الجزيرة.نت" وهذا الرابط المختصر: http://bit.ly/3FKGDFE
تتمة نص "ميلاد ولجوء: عن المخيم ومساكن الموت البطيء"
اليوم، في خضم الإبادة الجماعية التي تتعرض لها مدينتي، أتمم ثلاثين عاماً. مثل هذا اليوم أيضاً، قبل ثمانين عاماً وُلد أبي في مدينة المجدل المحتلة، أي قبل أن يكون هناك شيء اسمه إسرائيل بعد. في كل عام تمنحني تلك الصدفة أزيد من حاجتي من مشاعر الانتماء لربط قلبي بفلسطين. شكراً أبي. كنت مزيجاً رائعاً من عمل الفلسطيني السويّ لديمومة الهوية والحفاظ على استمرارية الحياة. من القاهرة، كما المجدل وغزة، في الرحلة ذاتها التي لا زالت تنتقل فصولها بين الهوية والتاريخ.
رحل أبي عن عالمنا خلال هجوم إسرائيل على غزة في 2008 ولم أكن قادراً على امتصاص رحيله آنذاك، لأن القنابل كانت تسقط في كل بقعة من مدينتنا. رحل بهدوء وسكينة في صالون بيتنا على ضوء شمعة خافتة تحت زخات القصف، لأن إسرائيل أحكمت حصار المدينة ولم يستطع السفر لإكمال رحلة علاجه من السرطان.
اليوم ككل يوم منذ الذكرى الأولى لميلادنا سوية بعد رحيلك، تمر المناسبة منقوصة بروح الغائب الحاضر، ولكنني لن أحتفل بشمعة كما اعتدت في كل عام من حياتي السابقة في غزة، حيث التقاط الفرح المفاجئ بين جولة القصف والأخرى، كحاجة اضطرارية للإنعاش بعد الانفجار ووقوع المجزرة، ولأن الأهل والأحباء في غزة، معزولون ومحتجزون لدى إسرائيل بلا ماء ولا وكهرباء ولا غذاء ولا وقود، ولا دواء، تحت قصف بري وبحري وجوي مستمر منذ ثلاثة وعشرين يوماً. وكذلك ليس بإمكانهم الرد على اتصالاتي التي لا تتمكن من تجاوز التشويش الإسرائيلي، ليس للاحتفال بالذكرى، بل للتأكد من بقائهم على قيد الحياة كلما وصل خبر مقتضَب بقصف منطقة يقطن فيها أحد الأحبة. وكأي يوم عادي من أيام الحرب، أحاول إتمام المهمة اليومية والتأكد من نجاتهم من نيران قصف الليلة السابقة.
صحيح أن والدتي حكت لنا كل تلك القصص في عشرات الجلسات التي خصصنا مسارها لتقفّي الأثر، كشاهد على تاريخ فلسطين الحديث، حتى صارت كتمائم للإرشاد والحكمة، ومعها عدد لا يحصى من التساؤلات تطول الرغبة بالغوص في تأملاتها، بحثاً عن استمرارٍ للمسار ذاته في الحياة وديمومتها.
كان يتحضر لإتمام السنة الخامسة بكلية الطب في جامعة عين شمس، عندما استيقظ العالم على ضربة تلقاها العرب في الرابع من حزيران/ يونيو من عام 1967. ذهبت اختبارات ما قبل التخرج أدراج الرياح مع كل ما ذهب جراء العاصفة المزلزلة، غادر مقاعد عين شمس كطبيب أناط بنفسه مهمة إنسانية لشعب منكوب، بل وذهب إلى مكتب منظمة التحرير في القاهرة طالباً الانتساب إلى صفوف الثورة. جاء الرد: "بدنا اياك دكتور، وما تقلق على الثورة"، قالوا له ببساطة، فكان المطب الثاني في رحلته بكلية الطب، الذي وجه حماسه للتصوف قبل أن يعتكف في غرفة صغيرة في "امبابة" سبقت الاعتكاف الطويل في غيط الفيوم.
أصيب أبي بمرض السرطان مثل كثير من أبناء جيله والأجيال التي عاشت النكبة والسنوات التالية لها، بسبب التلوث الناتج عن مادة الاسبستوس المحرّمة دولياً، التي استخدمتها وكالة أونروا الأممية في تغطية أسقف الغرف التي بنتها للاجئين في مخيمات اللجوء الفلسطينية. أبي وجدي وشقيقه الوحيد، وجدتي، عاشوا تحت ظلال تلك الغرف عشرات السنوات في المخيم على أمل العودة إلى البيت الذي ولدوا فيه ولا زال قائماً في مدينتنا المحتلة جنوب الساحل الفلسطيني. ليست صدفة أن رحلوا بالداء ذاته. أواصل البحث في كل ما هو ممكن رغبة في الوصول إلى ما يؤكد فرضية ما تؤول إليه نظريات الحصار الإسرائيلي وحرب الوجود والإبادة الجماعية طويلة المدى. حصلت على ما يثبت صحة ما أفترض. وماذا بعد؟
أخبرني أبي ذات مرة، عندما سألته بطفولة تحاول خلق صورة واقعية عن النكبة الفلسطينية التي عاش تفاصيلها مع أسرته التي لجأت إلى مدينة غزة. قلت له: كيف حدثت النكبة؟ كان برميلاً متفجراً سقط على منزل الجيران وأوقع مجزرة دامية، أجبر سكان الحارة على مغادرتها بعد اشتداد القصف الجوي والمدفعي وتكرار وقوع المجازر في بقية الحارات. هل نشهد نكبة ثانية؟
عن بعد: يوميات الحرب في غزة
كان قرار إسرائيل بقطع ما تبقى من الاتصالات المتاحة بين كل عدد طويل من الساعات والآخر، نتيجة تضرر شبكات الإرسال والاتصالات من القصف الكثيف على مدار 23 يوماً. وكانت متابعة الأخبار وقوائم الشهداء ومواقع القصف الإسرائيلي على مدار الساعة هي الوسيلة الوحيدة التي أتمكن من خلالها معرفة أن من هم لي هناك، لم يموتوا بعد خلال اليومين الأخيرين. مات بعضهم خلال الحرب صحيح، ولكن من هم على قيد الحياة، نطلب من الله في كل الخواطر أن يسلمهم لنا، كي لا نصاب بالجنون.
في العادة، اعتدتُ العمل وزملائي في غرف الأخبار في غزة على التغطيات الصحافية المركزة في أيام العدوان العسكري الإسرائيلي، ولكن هذه المرة بحسب شهادات الأصدقاء والزملاء هناك، فآثار الحرب تطال الجميع والجميع هناك يشعر أنه الضحية القادم. أشهد ذلك بشعور كبير بالذنب وتأنيب الضمير لاستمرار شعورنا بالعجز أمام مشاهد تقلص المساحة في كل الجهات نتيجة الأحزمة النارية والكم الهائل من المواد المتفجرة الملقاة من الجو، وعدم القدرة على التأثير لإنقاذ من هم بحاجة إلى المساعدة في غزة ويعيشون ظروفاً مأساوية في مراكز وخيام إيواء النازحين.
بعد تجاوز الأشهر الستة الأولى المطلوبة للاعتياد على مدينة تعيش خارج الحصار، بدأ الحنين مداهماته المفاجِئة في لحظات السكون التي سبقت الحرب. كانت أوقاتاً مملوءة بالخطط الطويلة والقلق الليلي الذي أصاب أنسجة عقلي، على مدى حياة عشتها داخل حصار غزة. شيئاً فشيئاً بدأت العزلة النفسية والخوف الكبير نتيجة انقطاع الاتصال وغياب وسيلة تساعد على تهدئة القلق ومعرفة ما يدور في عالمي السابق الذي لا يزال مشيداً في مخيلتي كما تركته.
غادرت غزة إلى القاهرة قبل ستة أشهر في رحلة الغرض منها هو البحث عن فرص التطوير المهني. أعرف تماماً ماذا تعني الحرب لمن يعيشونها الآن في غزة، لأنني عشتها لمرات عديدة في السابق، ولكن ما يزيد القلق والمخاوف في داخلي هو عدد الأصدقاء والأهالي المتضررين من الحرب، الذي يدلل على تعرض السكان لعقاب جماعي واسع النطاق.
الفكرة لن تمر في حياة الناس بتلك البساطة. الخوارزمية الجديدة للحياة تحت أزمة التشريد والنزوح من منازلهم التي بالكاد استطاعوا بناءها في ظل شح المواد التي تسمح إسرائيل بإدخالها إلى المدينة، وإجبارهم على عيش حياة لا تليق بالبشر في مدارس وكالة أونروا، حيث يستخدم كل أربعة آلاف من الناس، مرافقاً صحية واحدة، كما يعد الحصول على الطعام والماء بمثابة فرصة حياة أو موت!
"رائحتكم تُمحى"، يقول صديق يقبع تحت القصف، مخاطباً مجموعة الصداقة التي عشنا سنواتها الطويلة في غزة، ومن ثم فرّقها الحصار.
ولكن عندما تتحول الوحشية الصهيونية إلى فعل محفوف بكثير من النار في معنى الإبادة الجماعية، ليس بيدك أن تقرّر كيف تنتهي الحرب، ولا كيف تبدأ، أو حتّى لماذا. التاريخ كفيل بالإجابة عن كل الأسئلة المعروفة. ولكن توريةً ليست صريحة تتسرّب إلى سيل الكلمات، وأنت تستعد لما هو بعد. يقول صديق نزح إلى مدارس وكالة الغوث متدنية الخدمات الإنسانية: "لو بموت ما بطلع من غزة" قاطعاً الطريق عما سوف تبقيه الحرب من احتمالات التهجير والتشريد طويل الأمد كما يحاك ويكشف عن محاولات تدبيره، وما ستعجّل بمحوه الحرب.
تتمة نص "مصر التي كسرت خاطري وتقيّد فمي"
أربعون يوماً، تقل أو تزيد، تقول إني لست وحدي، على الأقل حينما يتعلق الأمر بالوجع، فهذه الأيام كفيلة بأن تغير معنى الحياة في قلب وفم كل من يعيش الحياة الآن على وجه الأرض..
أربعون يوماً تقل أو تزيد، أتممت في منتصفها عامي الأربعين. وفي تلك الليلة، وفي ظل اضطراري للارتكاز إلى حائط في أحد شوارع وسط القاهرة بينما تمتزج دموعي بأضوائها المبهجة الغائمة، سألت نفسي:
لماذا أنا هنا؟ وما معنى البقاء على قيد الحياة في تلك اللحظة من عمر الأمة إذا لم يكن لكل منا دور محدد في إزاحة هذه الغمة؟ وكيف يعينني دوري على إعادة تعريف نفسي وحدود حلمي وعجزي وقدرتي ـ مثلهم ـ على المقاومة؟
ما معنى أن أبلغ هذه السن المرتبطة في ثقافتنا بالنضج واكتمال الشكر وتلقي النبوة، بينما لا يتحمل قلبي استمرارية متابعة النشرة الإخبارية؟ وكيف يمكن الاستفراد بالنفس والتحدث معها في أي شيء بينما النشرة قد تحولت إلى بث مباشر من قلب الجرح المفتوح من حدود يافا إلى خان يونس وعودةً إلى الناصرة؟ وكيف أنني على بعد خطوة من المكان الأقرب لقلبي وذاكرة عقلي ووجدان أحرار شعبي ـ "ميدان التحرير" ـ ولكني لا أراه بينما تسمع أذناي أصوات القصف في شوارع غزة التي تبعد 500 كيلومتراً من مدينتي التي كانت باسلة يوماً ما، الإسماعيلية؟
كيف يمكن اعتياد الحياة من الآن وصاعداً؟ وكيف لا تكون، وقد مر من قبل على هذه الأرض آلاف المجازر والأهوال؟ وماذا إذا استمر تعرقل وتعثر الحال؟ هل سيفقد الرفاق وللأبد أثر القوة الجماعية؟ وهل يمكن أن أساهم في إنجاز شيء ما بصورة فردية؟
هل يأتي يوم تُحرِّرنا فيه مصر من وجعنا المكلوم منها وبها وعليها، فأجد نفسي على حين غرة ملتحمة بملايين أعرفها ولا تعرفني؟ هل ترضى عنا الأيام؟ وهل سنمتلك حينها القدرة على التخلص من كل أصحاب الأحذية الثقيلة محلياً ودولياً في آن؟
كيف يمكن أن يأتي كل هذا بينما أفقد في تدهور ملحوظ، أنا وغيري، كل ما يربطنا ببلدنا من علاقة صحية؟ وهل إنْ قمعت نفسي وردّدت كما غيري تلك الكلمة القاسية العصية "للقصة بقية"، هل يمكن أن تغفر لنا الدماء التي تُسفك الآن؟
ثم وأخيراً.. وباتجاه التفكير في المشاركة في صياغة حلٍ ما..
إذا كانت السلطة المصرية غير قادرة على قيادة صحوة عربية باتجاه حماية رسمية للشعب الفلسطيني عبر قوتها الدبلوماسية والاقتصادية والعسكرية، وإذا كانت المعارضة المصرية غير قادرة على قيادة صحوة ثورية تخترق ميادين مصر باتجاه السعي إلى تعديل سياسات الحكم، وفي القلب منها السياسة الخارجية، وتجاه القضية الفلسطينية أولاً، فهل من الممكن أن تتفق الدفتان المتنافرتان، في تلك اللحظة الاستثنائية، على الرضوخ لهذا النبض الإنساني الضميري، والسماح لمن يريد من شعب مصر بل ومن كل شعوب العالم بالتوجه في مسيرة سلمية لمدنيين غير مسلحين سيراً على الأقدام من أمام معبر رفح المصري إلى داخل قلب غزة؟
هل يمكن إطلاق تلك الصيحة؟ وهل يمكن الاستجابة لها؟
وإن كان لا سبيل للاستماع، ولا منطق يسمح بالاتفاق في ظل سياسات حكم تعتمد وفقط الممارسات الأمنية التي عنوانها التجبر والتعالي والتلفيق والقمع والقبض واستخدام جيش من البلطجية، فما الذي سيبقي في يد كل من لا يملك أن تستمر أيامه بينما الموت هناك على بعد كيلومترات قلائل يحصد الرؤوس بشكل لحظي؟
هل ـ فقط ـ تستمر المبادرات عبر الفضاء الإلكتروني أو السياق السياسي أو عبر ما يتيسر من "شارع" محاط بسياج أمني ومدجج بالسلاح؟
هل تفضي تلك إلى شيء آخر؟ هل نملك التوقف عنها وإن لم نملك أن نسعف بها؟ وهل ينتظرنا الموت؟
ثم..
هل وكيف ولم لا.. يتوقف الموت دون تدخل منا، سواء بقينا جالسين كمداً في بيوتنا أو محمولين قسراً إلى زنازين لا تغيِّر من الواقع شيئاً، بل تزيده عبثاً؟
..
انتهت الأسئلة، ولم ينته التيه، ولن ينتهي غالباً، ولكن لعل الموت ينتهي.
تتمة نص "هل تعرف الجثة؟"
يصلنا دخان تفجيراتكم، الجميع يراقب بصمت، يصلنا صراخكم في الليل، الليل الذي نعرفه، موتاكم كثر لا تستطيع الملائكة حملهم كلهم، هل سنلتقي؟ هل سيقتلونكم في البداية كي تلحقوا بي، أم سيتركون الأمر للنهاية، فلا تستطيع الملائكة حملكم كلكم، وتبقى أرواحكم تحت الأنقاض؟ هل هناك نهاية؟
معي أهل طفل يهلهلون لأنَّهم كتبوا أسماء أولادهم على أيديهم كيلا يضيعوا بعد موتهم. يقولون إنّ اسم العائلة بوصلة للوصول إلى الحياة والهرب من الموت. لكن الموت الذي تستحضره "يو إس إس فورد" من هناك مُدرَّب على ألّا يُبقي على أحد. حتّى الذين رحلوا، يحاولون محو ذكراهم من أذهان الناس.
هل كتبت اسم أمي على يدها؟ أعرف أنَّهم يستعملون الفسفور الأبيض. لو أحرقوا وجوهكم، وقطعوا ألسنتكم، وفجروا رؤوسكم، كيف سأتعرف إليكم؟ وأعرف أنَّهم سيفعلون الأسوأ، لأن لا أحد يرمي بالنار والكبريت من السماء على "الخطّائين" (1).
هنا أطفال ماتوا بلا أكل، ماتوا جوعى كما عاشوا، لا لشيء سوى لأنّهم وُلدوا. ماتوا جوعى كي يعيش رجالات السلطة ببدلاتهم الأنيقة وخطاباتهم الدبلوماسية، وكل منهم يمثل مجموعة منا أمام مجالسهم لمناقشة حقنا في العيش أو عدمه.
أخذوا حصتهم من دمنا ولم ينصرفوا، ولم يتنافخوا شرفاً (2) بل صمتوا، لكن صمتهم لم يكن صمت المقابر، فالمربعات السكنية التي تُقصف وتتحول إلى مقابر لا يلفها الصمت، بل الضجيج والفزع.
*أرسل فؤاد، الكاتب الشاب الذي يقطن في مخيم للاجئين الازيديين في زاخو كردستان، نصه هذا مرفِقاً إياه بهذه الرسالة البليغة في معناها، فقررنا نشرها كمقدمة.
1- اشارة الى الكتب المقدسة حيث أمطر الرب ناراً وكبريتاً على سدوم وعمورة
2- اشارة الى قصيدة مظفر النواب القدس عروس عروبتكم