وعد بلفور في سياقه وتفاصيله

"إن حكومة صاحب الجلالة تنظر بعين العطف إلى إقامة وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين، وستبذل غاية جهدها لتسهيل تحقيق هذه الغاية، على أن يُفهم جلياً أنه لن يؤتى بعمل من شأنه أن ينتقص من الحقوق المدنية والدينية التي تتمتع بها الطوائف غير اليهودية المقيمة في فلسطين، ولا الحقوق أو الوضع السياسي الذي يتمتع به اليهود في أي بلد آخر".
2016-11-17

كوثر قديري

أستاذة جامعية مختصة بتاريخ نشوء الحركة الصهيونية، من تونس


شارك
| en

بعد "مراسلات الحسين ـ مكماهون، عملية التجزئة في طورها الأوّل"، ثم "اتفاقيات سايكس بيكو، الطور الثاني من عملية التجزئة"، هذه تتمة جولة الأفق تلك، بتقديم "وعد بلفور" في سياقاته وتفاصيله على السواء.

"إن حكومة صاحب الجلالة تنظر بعين العطف إلى إقامة وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين، وستبذل غاية جهدها لتسهيل تحقيق هذه الغاية، على أن يُفهم جلياً أنه لن يؤتى بعمل من شأنه أن ينتقص من الحقوق المدنية والدينية التي تتمتع بها الطوائف غير اليهودية المقيمة في فلسطين، ولا الحقوق أو الوضع السياسي الذي يتمتع به اليهود في أي بلد آخر".

كان هذا الإعلان القصير الذي بعث به وزير الدولة البريطانية للشؤون الخارجية، آرثر ج. بلفور إلى اللورد روتشيلد، أول بيان علني رسمي يصدر عن دولة ليدعم المطامح الصهيونية. وكان القصد من وراء الإعلان تأمين وطن قومي لليهود وسيطرة بريطانيا على فلسطين في منطقة وضعتها اتفاقية سايكس بيكو تحت الإدارة الدولية، وعلى قناة السويس.

لكن بريطانيا، بربطها فلسطين باليهود من دون أن تتشاور مع العرب خلال هذه العملية، فصلت مصير فلسطين عن بقية سوريا، ووضعت بذلك اللمسات الأخيرة لتجزئتها على أسس إقليمية وديموغرافية. وأكّد هذا العملية التي كانت بدأت مع مراسلات حسين - مكماهون وكرّست الفصل والعداء بين اليهود والعرب.

نتفحص هنا السياق الذي جاء به وعد بلفور، فضلاً عن الحجج التي أثارتها معارضة الدعم البريطاني للصهيونية، وهي حجج تسلّط الضوء على النزعات التقسيمية والإقصائية لدى الإمبريالية الغربية كما لدى الصهيونية بوصفها حركة استعمار استيطاني.

الإمبريالية والمشيحانيّة (messianism) ومعاداة السامية

في عام 1916، كانت بريطانيا قد وعدت بأن تعترف باستقلال العرب (مراسلات حسين - مكماهون) من جهة، وكانت من جهة أخرى قد عقدت اتفاقية مع فرنسا (اتفاقية سايكس بيكو)، منحتها فيها أجزاء من الأراضي العثمانية.

لكنّ فاعلاً آخر برز في الصورة. والحقيقة أنّ المصالح الصهيونية كانت قيد نقاش بين أعضاء الحكومة البريطانية منذ مطلع القرن العشرين. بل إنَّ نقاشاً جرى في أوائل العقد الأول من القرن العشرين بين ثيودور هرتسل وجوزيف تشامبرلين - وزير المستعمرات آنئذٍ - حول إمكانية إقامة مستوطنات يهودية في أوغندا التي كانت جزءاً من الإمبراطورية البريطانية. ورفض المؤتمر الصهيوني السادس في عام 1905 الخيار الأوغندي، لكن آرثر بلفور وونستون تشرشل اللذين كانا كلاهما نائبين عن دائرة مانشستر، لم يكفّا في عام 1906 عن التعبير عن دعمهما للصهيونية ولـ "وطن محدَّد" لليهود. بل إنَّ بلفور التقى مع وايزمان الذي كان آنذاك يحاضر في الكيمياء في جامعة مانشستر، وسوف يصبح واحداً من قادة الحركة الصهيونية. أمّا تشرشل فاعتمد فكرة "دولة يهودية قوية وحرة تكون مثل جسر يربط أوروبا وأفريقيا" في فلسطين. ولم تمضِ بضع سنوات حتى أقام وايزمان صلةً مع اللورد بلفور، ويبدو أنّ صلةً دائمةً كانت تربطه بأعضاء من الحكومة البريطانية، ولا سيما ديفيد لويد جورج الذي كان رئيس وزراء من 7 كانون الأول/ ديسمبر 1916 إلى 22 تشرين الأول/ أكتوبر 1922. وكان هذا الأخير شديد التعاطف مع تطلعات الحركة الصهيونية، ربما انطلاقاً من احتقاره للعرب. وسوف يوضح، بعد نحو عشرين عاماً، أنَّ وقوفه في صفّ الصهيونية كان تحالف مصلحة مع منظمة سياسية نافذة.

تجدر الإشارة إلى أنّ المناخ السياسي والديني والثقافي كان مواتياً إلى حدّ ما، نظراً إلى تنامي الإنجيلية ومعها المشيحانية في بريطانيا. كانت العقيدة المشيحانية، وما يقترن بها من فكرة عودة الشعب اليهودي إلى فلسطين موجودةً منذ القرن السّادس عشر، لكنّها كانت لا تزال تتطور في الأوساط الأدبية. ولذلك، كان ثمّة عودة إلى أفكار عن فتح فلسطين من جديد، مباشرة بأيدي المسيحيين أو غير مباشر بأيدي اليهود. وبحسب الألفيّة البروتستانتية، كان يُفترض بعودة اليهود إلى فلسطين أن تمثّل تحقق النبوءات، ما ساق اليهود غير الصهاينة إلى اعتبار الصهيونية مشيحانية زائفة. وكان بلفور ولويد جورج قد ترعرعا في أسرتين مسيحيتين إنجيليتين، ولا شك بأنَّ خلفيتهما الدينيّة هذه لعبت دوراً ما إلى جانب معتقداتهما المعادية للسّامية. وعلى سبيل المثال، فإنَّ بلفور دعم التشريع الرامي إلى الحدّ من الهجرة اليهودية إلى بريطانيا في الوقت نفسه الذي كان يعمل فيه لإطلاق وعده.

ترتبط بما سبق واحدة من أقوى الحجج في دعم الصهيونية، هي تلك الحجة التي تقوم على الاعتقاد بأنَّ اليهود يحوزون نوعاً من القوة المالية والسياسية - وبذلك بعض النفوذ - في روسيا والولايات المتحدة، ويمكنهم مساعدة بريطانيا في الحصول على دعم هذين البلدين لـلمجهود الحربي. وهي حجّة غالباً ما ساقها وايزمان وكذلك بلفور أيضاً، لا سيما خلال اجتماعات مجلس وزراء الحرب التي سبقت اعتماد الوعد. كان بلفور قلقاً من أنّ ألمانيا تبذل قصارى جهدها لجذب تعاطف الحركة الصهيونية التي كان يعتقد أنها تتمتع بدعم غالبية اليهود في روسيا والولايات المتحدةعلى الأقل.

لكن حجج بلفور كانت تستند في معظمها إلى أساطير وخيالات ملطخة بمعاداة السامية، وقدّمت مزيجاً من السياسة الإثنية والقومية المعروفة جيداً لديه والمستخدمة من قبله نظراً إلى خبرته بالوضع في إيرلندا. ولقد ساعدت بلفور في مهمته المتمثلة بالدفاع عن الصهيونية، حقيقة وقوف كلّ من الحكومة الفرنسية والرئيس ويلسون في صفّها.

معارضةُ الصهيونية ومعاداة السامية والإقصاء والتقسيم

كان المناخ مواتياً للتطلعات الصهيونية. غير أنَّ المشاورات قبيل إطلاق الوعد كانت سريعة نوعاً ما، ويبدو أنّه لم يكن ثمّة أثر للاتصالات السابقة على الوعد على الرغم من وجودها منذ وقت طويل.

لم تمرّ جهود الصهاينة للحصول على دعم بريطانيا مرور الكرام. ونشبت، في وقت مبكر، معركة ضارية بين الصهاينة وخصومهم على الجبهة الديبلوماسية جرّاء سعي الصهاينة وراء الاهتمام الرسمي، ثمّ على الجبهة الإعلامية مع نشر مقالات في كثير من الصحف. وظهرت انتقادات لافتة من داخل الحكومة. إدوين مونتاجو الذي انضم حديثاً إلى مجلس الوزراء البريطاني، كان في الواقع معادياً للصهيونية. وفي مذكرة بعنوان "معاداة الحكومة الحالية للسامية" بتاريخ 23 آب/ أغسطس 1917، انتقد "وزير الدولة لشؤون الهند" الصهيونية معتبراً إيّاها مشيحانية زائفة، إذ كان من المفترض بإعادة اليهود إلى فلسطين أن تحتاج تدخلاً إلهياً، وما كان بلفور ولا اللورد روتشيلد المشيح المنتظر.

صوّر مونتاجو الصهيونية على أنّها "عقيدة سياسية خبيثة، لا يمكن أن يدافع عنها أي مواطن وطني من مواطني المملكة المتحدة"، وكان يخشى أن تغذّي السياسة البريطانية معاداة السامية بدعمها الحركة الصهيونية، خصوصاً أنَّ "أحداً لا يمكنه أن يدّعي معرفة ما تعتقده الغالبية العظمى من اليهود البريطانيين حيال الصهيونية". وحارب مونتاجو الفكرة القائلة بوجود أمة يهودية مميّزة. ورأى أنّ "القول بانتماء الإنكليزي اليهودي والمغربي اليهودي إلى الأمة ذاتها لا يحوز من الصحة إلا بقدر ما يحوز القول بانتماء الإنكليزي المسيحي والفرنسي المسيحي إلى الأمة ذاتها". علاوة على ذلك، أنكر مونتاجو على اليهود أيّ حقّ في فلسطين، معتبراً أنها تمثّل للمسيحيين والمسلمين بقدر ما تمثّل لليهود.

لكن حجته الألفت للانتباه كانت أنّ الوعد ينطوي على إقصاء مرجّح. ذلك أنّ وعد اليهود بوطن قومي في فلسطين لن يقتصر على إعطاء المعادين للسامية في جميع أنحاء العالم مبرراً للدعوة إلى إقصاء اليهود باعتبارهم مواطني بلد آخر، بل سيكون من شأنه أيضاً أن يوفر للمستوطنين اليهود في فلسطين أساساً لطرد سكانها الحاليين. أخيرا، كان مونتاجو قلقاً من أن تغدو الحكومة البريطانية "أداةً بيد منظمة صهيونية يديرها إلى حدّ بعيد رجال [...] وجهوا ضربة قاسية لحريات مواطنيهم اليهود ومواقعهم وفرصهم في نيل الخدمات". وكان البديل الذي اقترحه أن تفعل الحكومة "كل ما في وسعها كي تنال لليهود في فلسطين الحرية الكاملة في الاستقرار والعيش على قدم المساواة مع سكان تلك البلاد الذين يؤمنون بمعتقدات دينية أخرى".

نوقش الموضوع في اجتماع حكومة الحرب في 4 تشرين الأول 1917. وكانت تلك فرصة أخرى لإدوين مونتاجو كي يُعبّر من جديد عن موقفه ويقدّم حججاً أخرى مثل الأصول الأجنبية للحركة الصهيونية - إذ كان يدعم الصهيونية يهود مولودون في الخارج - وعدم ملاءمتها وضع "البريطانيين اليهود" الذين قامت الحكومة حيالهم بواجبها الأوّل. يُضاف إلى كلّ ذلك أنَّ ويلسون عارض إعطاء مثل هذا الوعد. حظي مونتاجو بشيء من دعم وزير آخر، هو جورج كرزون الذي كان حينئذ زعيم مجلس اللوردات. وتجربة هذا الأخير في ميدان السياسة الاستعمارية وتقسيم البنغال الفاشل في عام 1905، ساقته إلى الاعتقاد بأنّ الوعد يمكن أن تكون له آثار خطيرة على مصالح بريطانيا كما على السّكّان الموجودين في فلسطين، إذ يفسح المجال أمام إحلال سكّان يهود محلّ السكان العرب.

لكن حجج مونتاجو كانت أيضاً حجج شخصيات يهودية، مثل وزير البرلمان فيليب ماغنوس، وك. غ. مونتيفيور (رئيس الجمعية البريطانية - اليهودية) ول. ل. كوهين (مجلس الأوصياء اليهودي). كان هؤلاء يخشون من أن يعني القول بأنّ اليهود أمّة أو عرق أنّهم "كيانات منفصلة"، وكانوا يرفضون ما ينطوي عليه هذا الطرح من انفصال. بل إنَّ بعضهم كان يخشى أن يمنح الوعد اليهود في فلسطين امتيازات لا يقاسمهم إيّاها جميع المواطنين في تلك البلاد.

خاتمة

لم تستطع حجج مونتاجو وغيره من معارضي الوعد أن تقف في وجهه، وكل ما تمكّن المعادون للصهيونية من الحصول عليه كان جملة حول حماية الحقوق المدنية والدينية للطوائف غير اليهودية في فلسطين، وجملة أخرى عن حقوق اليهود في البلدان الأخرى غير فلسطين. لم تكن لدى المعادين للصهيونية في الواقع أي فرصة للوقوف في وجه رئيس الوزراء لويد جورج، ووزير الشؤون الخارجية آرثر بلفور، واللورد ميلنر، وجميعهم دعموا الوعد بقوة.

هكذا جاء وعد بلفور كي يضع اللمسات الأخيرة لعملية كانت قد بدأت منذ وقت طويل، وأخذت طابعاً رسمياً مع مراسلات حسين - مكماهون واتفاقية سايكس بيكو. كانت تلك عملية تجزئة وتقسيم في ثلاثة فصول، وسوف تبلغ خاتمتها مع الانتداب بعد ذلك بخمس سنوات.

ولم تمض سنوات ثلاث، حتى كانت القوى الاستعمارية التقليدية أعادت رسم الشرق الأوسط، حيث أدخلت إلى المنطقة استعماراً استيطانياً، علاوةً على تقسيم الأرض وفرز السكان، موفِّرةً بذلك الظروف الملائمة لاستقطاب المجتمعَين ولإقصاء السكان الأصليين بمعاملتها الحركة الصهيونية كشريك في مشروع، بالسماح لها بإنشاء مؤسساتها وفشلها في وقف تطورها المستقل بعد ذلك.

ترجمه عن الإنجليزية: ثائر ديب

مقالات من فلسطين

لا شيء سوى الصمود!

2024-10-03

قبل الصواريخ الإيرانية وبعدها، استمر الاحتلال بارتكاب الفظاعات، ثمّ توعّد بالمزيد. إنها أيام المتغيرات السريعة والخطيرة والصعبة، لكن يبدو أنه في كل هذا، ليس سوى ثابتٍ وحيد: صمود شعوبنا المقهورة.

إعادة تكوين العقل الغزّي

أجيالٌ بأكملها تفقدُ حياتها وسنواتها. وأطفالٌ صغار يستيقظون على واقعٍ غير بشري. هذا هو كيّ الوعي الجديد الذي تقوم به إسرائيل، ويوافق عليه العرب. العرب الذين يُريد "نتنياهو" مُساعدتهم في...

للكاتب نفسه

يوم الأرض: تذكيرٌ بما هو مفصلي في فلسطين

كوثر قديري 2019-04-27

اثنتان وأربعون سنة تفصل يوم الأرض عن مسيرة العودة الكبرى في غزّة، وهما كلاهما احتجاجاً على الأسس الاستعمارية الاستيطانية للصهيونية، كما هو أي استعمارٍ استيطاني، تتركّز معانيه في بعدَين: الأرض...

المعارضة اليهودية للصهيونية بين مناهضة العنصرية ومناهضة الاستعمار

كوثر قديري 2018-04-28

هناك حركات يهودية مناهضة للصهيونية منذ نشوئها، لبعضها منطلقات دينية وبعضها الآخر يساري وعلماني. للاتحاد اليهودي الفرنسي للسلام، الذي ادلى اعضاءه بشهاداتهم على امتداد الاسابيع العشرة الماضية، "أجدادٌ" لا يقلون...