غزة 1847: رحلة من خان يونس إلى أسدود

بعد مغادرة العريش، أول مكان نصل إليه في سوريا هو بلدة خان يونس الرابضة على سفح تل صغير، تحيط بها بساتين المشمش والرمان والتين والبرتقال والليمون والتوت والجوز والصنوبر وكروم العنب. خضار النباتات البرية الكثيفة المنتشرة حولها يخلِّف في النفس شعوراً رائعاً بعد اجتيازنا سهب سيناء الرملية الجدباء التي غادرناها للتو، فحلّ على النفس الرضى والسرور.
2023-10-22

عماد الدين رائف

كاتب وصحافي من لبنان


شارك
غزة بعدسة فرانسيس فريث نحو 1862

قلة من الرحالة الروس قصدوا غزة في القرن التاسع عشر. فعلى الرغم من آلاف رحلات الحج إلى الديار المقدسة في فلسطين وعشرات الوثائق الأدبية والعلمية التي تركها الرحالة والعلماء، إلا أن نصيب غزة منها كان ضئيلاً فلم يزرها إلا من قصدها أو عَبَرها، ولم تُخصص دراسة منفصلة لها، بل أتى ذكرها في تقارير مختلفة لعل أهمها يعود إلى المرحلة التي تبعت انسحاب جيش إبراهيم باشا المصري من سوريا وفلسطين، أواخر النصف الأول من القرن التاسع عشر. ترسم المدونات التي وصلتنا، على قلتها، بعض معالم مدينة غزة ومنطقتها من خان يونس جنوباً حتى قرية أسدود شمالاً.

ومن هذه الوثائق تقارير الطبيب الروسي أرتيمي ألكسيفيتش رافالوفيتش (1816-1851)، الذي وصل إلى مدينة غزة عبر العريش، في العشرين من نيسان/ أبريل 1847، ودَوّن انطباعاته عن هذه الرحلة في تقرير، يعتبر التقرير الأول المنشور له عن رحلته العلمية، وكان تحت عنوان "رحلة من القاهرة إلى فلسطين: العريش، غزة، يافا، القدس". نشرته "مجلة وزارة الشؤون الداخلية" الروسية في سان بطرسبورغ، إثر استلامها إياه، سنة 1847. وينتمي هذا التقرير إلى مجموعة "تقارير طبيب روسي أُرسل إلى الشرق"، التي نشرتها الدورية تباعاً.

 تكمن أهمية نص رفالوفيتش بأنه تخطى المهمة الطبية التي أُرسل من روسيا لإتمامها، فقد قدم لنا مشهدية كاملة تضمنت كل ما رآه وسمعه في طريقه بالإضافة إلى انطباعاته الشخصية كشاهد عيان، وهذا ما لا نجده لدى من كتب عن غزة وتاريخها، ومثال ذلك أن الشيخ عثمان مصطفى الطبّاع لم يعرِّج على مرحلة ما بعد انسحاب الجيش المصري من بلاد الشام في كتابه "إتحاف الأعزة في تاريخ غزة"، كما أن أقدم وثيقة عالجها محقق المخطوطات عبد اللطيف أبو هاشم في كتابه المرجعي "غزة العثمانية" تعود إلى سنة 1856، أي بعد مرور رفالوفيتش في المدينة ومنطقتها بتسع سنوات.

من خان يونس إلى أسدود

مما جاء في تقرير رفالوفيتش، المنشور إثر رحلته عام 1847:

"... بعد مغادرة العريش، أول مكان نصل إليه في سوريا هو بلدة خان يونس الرابضة على سفح تل صغير، تحيط بها بساتين المشمش والرمان والتين والبرتقال والليمون والتوت والجوز والصنوبر وكروم العنب. خضار النباتات البرية الكثيفة المنتشرة حولها يخلِّف في النفس شعوراً رائعاً بعد اجتيازنا سهب سيناء الرملية الجدباء التي غادرناها للتو، فحلّ على النفس الرضى والسرور. يتعزز هذا الشعور الجميل بعدما أسرحُ بناظري في البساتين المثمرة المسيّجة بالصبّار ذي الألواح العريضة المغطاة بالزهر الأصفر. بعض البساتين مسوّر بالحجارة ومفصول عن البساتين المجاورة، وهو دليل على الملكية الخاصة للفلاحين. أتفرج على أراضي الفلاحين البسطاء الذين يأكلون خبزهم بعرق جبينهم، أقارن أوضاعهم بفلاحي مصر، التي تعود ملكية منتوجات أرضها وحيواناتها وحتى عرَق فلاحيها وحصادها بأسره للباشا وأولاده ومحاسيبه... الناس هنا لا تقيّد أيديهم قيود الفقر الرهيب، ولا تبدو عليهم مظاهر فوضى الأسمال كما هي حال الفلاح على ضفتي النيل دليل على الاستعباد المذل.

بين خان يونس وغزة خمس ساعات من السفر. تمتد الطريق عبر سهول أفقية شاسعة لا يحتويها البصر... يغطي القمح الناضج السهول وفي بقاع منها نرى فلاحين يهمون بحصاده. يمسك الحصادون شمائل السنابل بيد ويقطعونها بمناجل حادة طويلة مربوطة إلى أحزمتهم. وما تبقّى من السنابل في الحقل يُستخدم علفاً لقطعان الماشية الوفيرة هنا... على مسافة ساعة من غزة، تمر الطريق عبر مجرى نهر واسع كان أن يكون جافاً أثناء مرورنا، لكنه يغدو هادراً عميقاً بعد أمطار الشتاء، كما يحدث في عدد كبير من أنهار سوريا البارزة، فمن نيسان/ أبريل إلى تشرين الأول/ أكتوبر، أي خلال سبعة أشهر، لا يرى السكان قطرة ماء واحدة تهطل من السماء. 

كان علي أن أمكث يومين في محجر غزة الصحي. تقع المدينة في جزء منها على قمة تلة منخفضة وفي جزئها الآخر على المنحدرات حتى أسفلها، على بعد فرستين (نحو كيلومترين) من البحر. تحيط بها بساتين الفاكهة الرائعة ومزارع الزيتون. يصعب تحديد عدد سكان المدينة بدقة، كما هي الحال في مدن الشرق، حيث لا يُسجّل المواليد الجدد ولا عقود الزواج. أما المتوفون فلا يُسجَّلون إلا في حالات نادرة إذ يتجنب الناس الإحصاءات والتسجيلات على أنواعها. وإذا ما أخذنا بأرقام طبيب المحجر الصحي الفرنسي السيد درومين، فإن عدد الذكور والإناث في المدينة بقسميها العلوي والسفلي، يصل إلى خمسة عشر ألفاً. يبدو أن هذا الرقم مضخم ومبالغ فيه.

عزة نحو 1880 من الشرق

منازل المدينة حجرية ذات سقوف مستوية، بعضها تعلوه قباب، فوق غرفة أو غرفتين من المنزل. الشرفات والمساطب كما هي الحال في عموم سوريا محاطة بأسيجة من الأعمدة الطينية المثبتة بالكلس. أظن أن غيرة الرجال وفضول النساء يشكلان معاً عاملاً لحجب النساء عن عيون المارة من الرجال، ما يتيح للنساء التفرج على المارة من وراء أباجورات الشبابيك. شوارع القسم العلوي من المدينة ضيقة ومتعرجة، والمياه المنسابة من ينابيع أسفل التلة نظيفة وعذبة.

أتفرج على أراضي الفلاحين البسطاء الذين يأكلون خبزهم بعرق جبينهم، أقارن أوضاعهم بفلاحي مصر، التي تعود ملكية منتوجات أرضها وحيواناتها وحتى عرَق فلاحيها وحصادها بأسره للباشا وأولاده ومحاسيبه... الناس هنا لا تقيّد أيديهم قيود الفقر الرهيب، ولا تبدو عليهم مظاهر فوضى الأسمال كما هي حال الفلاح على ضفتي النيل دليل على الاستعباد المذل. 

الطريق من غزة إلى يافا تسير إلى الشمال في خط مستقيم ولمسافة تصل إلى 16 ساعة. أول ثلاث ساعات منها عبر بساتين واسعة من أشجار الزيتون المعمِّرة. بعض الحقول بين البساتين مزروع بالقمح الشبيه بالقمح المصري ذي السنابل الكبيرة الحجم الوافرة الحبوب. تمر الطريق قرب قرية بيت حانون، ثم دير سنيد، والخريبة وغيرها من القرى القابعة على مرتفعات رائعة الجمال محاطة ببساتين الفاكهة.

أتاح موقع المدينة الواقعة على الطريق بين مصر وسوريا لها أن يتعامل أبناؤها بالتجارة. أما الحرف الوحيدة فيها فتمثلت في صناعة بعض الخزفيات والأباريق الكبيرة والجرار من الطين الداكن، ويصدّرها الحرفيون إلى دمياط وباقي المناطق. الأمراض التي لاحظها الطبيب السيد درومين تشبه الأمراض المزمنة المنتشرة في شمال مصر، أبرزها التهاب العيون في الصيف والإسهال. أما حالات الحمى الدورية فهي نادرة جداً...

الطريق من غزة إلى يافا تسير إلى الشمال في خط مستقيم ولمسافة تصل إلى 16 ساعة. أول ثلاث ساعات منها عبر بساتين واسعة من أشجار الزيتون المعمِّرة. بعض الحقول بين البساتين مزروع بالقمح الشبيه بالقمح المصري ذي السنابل الكبيرة الحجم الوافرة الحبوب. تمر الطريق قرب قرية بيت حانون، ثم دير سنيد، والخريبة وغيرها من القرى القابعة على مرتفعات رائعة الجمال محاطة ببساتين الفاكهة. وقرب قرية دير سنيد مررنا بجسر حجري كبير فوق نهر كان قد جفّ تماماً قبل أن نعبره. واصلنا سيرنا شمالاً فمررنا بقريتي المجدل وحمامة الواقعتين بين غابات الزيتون وبين أسدود القائمة على تلة مخروطية الشكل تشبه القرى التي مررنا بها. ثم يقلّ عدد القرى، لكن تربة الطريق تظل على حالها خفيفة خصبة داكنة رافقتنا منذ عبورنا خان يونس".

محجر غزة الصحي

‏ومما جاء في تقرير رفالوفيتش "المحاجر الصحية في سوريا"، المنشور عام 1848:

"يعمل فيه مدير عثماني وطبيب أوروبي يتقاضى ألف قرش (200 روبل ورقي) في الشهر، وكاتب حسابات وثمانية حراس وأربعة خيالة من الأرناؤوط. يستقبل الأشخاص والبضائع الواردة عن طريق البر من مصر عبر صحراء سيناء. وهو يقع على مسافة يوم ونصف اليوم سفراً من الحدود المفتوحة من دون أي عقبات أمام القوافل حيث لا وجود لأي مخافر حدودية أو نقاط عبور بين البلدين. فعندما تخرج القوافل من العريش تتجه عادة إلى عمق سوريا عبر طريقين: الأول، طريق خان يونس من جهة البحر غرباً، والثاني هو طريق مدينة الخليل على بعد ‎40‏ فيرست (نحو 42.6 كليومتراً) من القدس صعوداً حتى سهول حوران ودمشق. لذلك تعتبر الخليل وخان يونس نقطتين حدوديتين إلى حد ما، وقد عينت فيهما السلطنة مراقبين صحيين مع عدد من رجال الأرناؤوط المكلفين بتوجيه الأشخاص والبضائع الوافدة من مصر إلى غزة للمرور بالمحجر الصحي. ذلك وفق النصوص القانونية، أما في التطبيق فالأمر مختلف تماماً، وسأروي هنا تجربتي الشخصية على تلك الحدود.

غيرة الرجال وفضول النساء يشكلان معاً عاملاً لحجب النساء عن عيون المارة من الرجال، ما يتيح للنساء التفرج على المارة من وراء أباجورات الشبابيك. شوارع القسم العلوي من المدينة ضيقة ومتعرجة، والمياه المنسابة من ينابيع أسفل التلة نظيفة وعذبة. 

عندما تخرج القوافل من العريش تتجه عادة إلى عمق سوريا عبر طريقين: الأول، طريق خان يونس من جهة البحر غرباً، والثاني هو طريق مدينة الخليل على بعد ‎40‏ فيرست (نحو 42.6 كليومتراً) من القدس صعوداً حتى سهول حوران ودمشق.

دخلتْ القافلة خان يونس، حيث توقفتْ في سوقها لشراء بعض الحاجات، وبعد خروجي من المدينة أوقفت أمام دار المراقب الصحي الذي طلب مني إبراز جواز السفر. نظر إلى الختم الروسي الذي لا يعرفه فهز رأسه، ثم ناولني بطاقة تجيز لي متابعة طريقي إلى غزة من دون أن يسألني عن اسمي أو اسم عائلتي. وطوال هذا الوقت كنا نتبادل الحديث معه بحرية كما فعلنا فيما بعد مع سكان القرى المنتشرة على الطريق من خان يونس إلى غزة خلال خمس ساعات. 

قبل وصولنا إلى غزة بيفرست واحد (يعادل 1.067 كيلومتراً) اقترب منا خيال أرناؤوطي وهو يصرخ ويشتم. وبعدما فرّق جمعاً من الرجال كانوا قد تحلقوا حول قافلتنا اقتادنا عبر شوارع القسم السفلي من المدينة صعوداً حتى وصلنا إلى قمة التلة التي يقوم عليها القسم الأعلى. فتوقفنا في فناء سرايا قديمة شبه مهدمة، كانت قصراً للحاكم في ما مضى. كانت بعض أقسام طبقتها السفلية لا تزال سليمة وتُستخدم لإيواء المسافرين، وليس فيها مكان لتخزين البضائع. عند البوابة، استقبلني طبيب المحجر السيد درومن وأخبرني أن مدة الحجر هي ستة أيام، لكن نظراً للأوضاع الصحية الجيدة في مصر، سيجعل مدة الحجر يومين فقط. واعتبر أن يوم دخولي المحجر واليوم التالي هما يوما الحجر المقصودين... وعينوا لي حارساً يقف أمام خيمتي التي سمح لي بنصبها في باحة السرايا. وفي اليوم الثالث بعد معاينة لساني ولسان مرافقي سمح لنا بالمغادرة بعد دفع 60 قرشاً، هي عبارة عن أجرة الحارس لستة أيام، وفق التعرفة المحددة، و12 قرشاً دفعتها لملتزم خاص أعد لي بطاقة الخروج. .

يُسجل لأرتيمي رافالوفيتش أنه ضبط أسماء الأماكن في تقريره وفق اللفظ العربي. بفضل إصراره على ذلك، ودقته، أدركتْ الأوساط العلمية الروسية أنه كان على حق، فتشكلت لجنة علمية خاصة في سان بطرسبورغ لهذه الغاية، سنة 1850، وخلصت إلى ضرورة ضبط الأسماء الجغرافية من لفظها بلغة أهل المكان، مع احترام التسميات التاريخية التي ترسخت عبر الزمن.

‎هكذا يفهم العثمانيون وظيفة المحجر الصحي. وكان عليهم أن يبذلوا كل ما في وسعهم كي يجعلوه أقل تضييقاً بنظر الأهالي الذين لا يثقون بالمحاجر الصحية ويعتبرون تدابيرها جائرة ولا بد من مقاومتها. وقد لاحظتُ أن تاجراً عربياً التحق بقافلتي قرب القاهرة وهو يعتمر الطربوش، ثم تركنا في خان يونس وهي موطنه، ولم يمر بأي محجر صحي. وكذلك شاهدت امرأة فقيرة كانت تسير على قدميها من رأس الوادي للقاء زوجها في يافا، وقد التقيت بها في الصحراء بعدما أصابها الإعياء وعلى رأسها سلة تحمل فيها طفلها الرضيع. فأوعزتُ إلى مرافقي أن يسمح بنقلها على ظهر أحد الجمال، ولما دخلت مدينة غزة لم يوقفها أحد".

يُسجل كذلك لأرتيمي رافالوفيتش أنه ضبط أسماء الأماكن في تقريره وفق اللفظ العربي. بفضل إصراره على ذلك ودقته، أدركتْ الأوساط العلمية الروسية أنه كان على حق، فتشكلت لجنة علمية خاصة في سان بطرسبورغ لهذه الغاية، سنة 1850، وخلصت إلى ضرورة ضبط الأسماء الجغرافية من لفظها بلغة أهل المكان، مع احترام التسميات التاريخية التي ترسخت عبر الزمن.

مقالات من فلسطين

خالدة جرار مسجونة في قبر!

2024-11-21

"أنا أموت كل يوم، الزنزانة أشبه بصندوق صغير محكم الإغلاق، لا يدخله الهواء. لا يوجد في الزنزانة إلا دورة مياه ونافذة صغيرة فوقه أغلقوها بعد يوم من نقلي إلى هنا...

اقتصاد البَقاء: الدّلالةُ والمفهوم في ظلّ حرب الإبادة

مسيف جميل 2024-11-17

لا توجد جدوى للصمود، ما لم يرتبط بالتصدي للاحتلال. استخدم المانحون "الصمود" كإطار جديد، يتماشى مع المرحلة الفلسطينية، ويراعي المشاعر الفلسطينية والحس الوطني السياسي، وكأن التنمية تحدث بتسمية وتبنِّي مصطلحات...

كلّ ما يتحدّى اكتمال الإبادة..

صباح جلّول 2024-11-10

شبعت أعين العالم أكلاً في مأساة غزّة. لن تغيِّر صور الموت ما لم يغيّره الموت نفسه. لذلك، فهذه هنا صور لقلبٍ ما زال ينبض، لملمناها من صور شاركها الصحافي يوسف...

للكاتب نفسه