الأستاذ سيلارز كان معروفاً بمناهضته الحكومات الأميركية وإصراره على "الحديث عن الفلسطينيين" الغائبين تماماً عن نقاشات المسرح الأميركي، حتى وُسم إثر إحدى مسرحياته بالصفة المعلّبة الجاهزة: "معاداة السامية".
استعدتُ اللقاء مع سيلارز فوراً عندما قرأتُ عن مسرح "خبز ودمى"، الذي يسمّونه مسرحاً راديكالياً. كثر لا يحبونه بالتأكيد، لكن عدداً أكبر منهم يحبّونه. هو باختصار مسرح يدفعه الهمّ الاجتماعي والسياسي ويستمر بالدعم المجتمعي ويسعى أن يكون متاحاً لكل الأفراد والمجموعات..
جاء في "مانيفستو" المسرح:
"لقد اعتقد الناس لوقت طويل أن الفنّ حكر على المتاحف والأغنياء. الفن ليس "بيزنس". إنه لا ينتمي إلى البنوك أو المستثمرين الكبار. الفن هو طعامنا. إننا لا نأكله، لكنه يُطعمنا. يجب أن يكون منخفض الثمن ومتاحاً للجميع. يجب أن يكون في كل مكان، لأنه قلب العالم. الفن يبلسم الألم، يوقظ النيام، يقاوم الحرب والغباء، يُغنّي هلليلويا! الفن للمطابخ. الفن كالخبز الجيّد. الفن كالشجر الأخضر. الفن غيم أبيض في سماء زرقاء...".
مسرح "خبز ودمى" الذي أسسه في نيويورك الراقص والنحات بيتر شومان (من أصل ألماني) عام 1963، يشبه ما تحدّث عنه سيلارز الذي ينتمي إلى مسرح آخر تماماً. هو مسرح يؤمن أنه يشارك كلّ من في الأرض همومهم وآلامهم وثوراتهم وأفراحهم وأحزانهم ومقاوماتهم. إنه مسرح "الهواء المشترك"، بل هو مسرح "الخبز المشترك"، إذ درج على توزيع الخبز منزليّ الصنع على الحضور في كل العروض المسرحية التي يقيمها، رمزاً للتشارك والغذاء الحيّ في الجسد والروح.. أما اختصاصه الآخر فالدمى بالطبع، كما يدل اسمه، والضخمة منها بالتحديد.
"آمل أن يكون مسرحنا صادقاً بما يكفي، وأن يقول دائماً ما يجب أن يُقال، ويضيف شيئاً من المتعة والبصيرة في آن.."، قال بيتر شومان عن مسرحه.
انتقل المسرح إلى مزرعة غلوفر في فيرمونت بكندا عام 1974، وما زالت مقراً له إلى اليوم.
نزلت الدمى إلى الشارع أثناء حرب فييتنام، شارك المسرح بأعضائه ودُماه في المظاهرات المناهضة للحرب، ونظّم مسيرات على امتداد شوارع كبرى في عروض خاصة شارك بها المئات.
هو مسرح سياسي، لا بمعنى السياسة البليد.. تفاعلي، حيّ، يُعرَض داخل قاعة أو في الهواء الطلق، في الشوارع وفي المظاهرات، وعند اللحظات المفصلية والمحطات الأساسية لشعوب العالم، ولا يخشى المواقف غير المواربة.
من نيكاراغوا إلى حركة "زاباتيستا"، من مواضيع العنصرية إلى البيئة والمناخ، من مناهضة التسلّح النووي إلى مناهضة منظمة التجارة الدولية، ومن فييتنام إلى فلسطين، شارك المسرح بثقله في قول كلمته. الخبز الطازج يُوزّع، الدمى تنزل إلى الشارع، الأصوات والموسيقى ترتفع.
في العام 2003 تصدّر "خبز ودمى" مظاهرة ضد الغزو الأميركي للعراق في مونتريال، ووقفت دمى لنساء العراق الحاملات دمى تمثل جثث العراقيين، في الصفوف الأمامية للحشد المتظاهِر. الدمى صارت لاحقاً جزءاً من المعرض الدائم الذي أسسه المسرح في مقرّه بفيرمونت، ويضمّ دمى أخرى من عروض مختلفة على مدى مسيرته.
عام 2014، أعيد إحياء عرض "نار" الذي قُدّم في الأصل من أجل فييتنام، مرة أخرى لكن من أجل غزّة، إثر العدوان الإسرائيلي عليها. دمى بحجم بشري تمثّل أمهات متشحات بالسواد، يندبن أطفالهنّ في منتصف الزقاق. "إلى متى؟"، "كم واحداً بعد؟"، "بمال من؟"، كُتب على لوحات مرسومة باليد. "كان هذا عرضاً طارئاً من أجل غزّة"، يرتفع الصوت..
ماذا يفعل هؤلاء الفنانون، شباباً وشيباً وأطفالاً، بخبزهم ودُماهم، في مزرعة في آخر الأرض، لا ربح لهم ولا غاية، سوى السعي لعالم أكثر إنسانية؟ لعلّهم فقط انتبهوا إلى أنّ ما يستحق العناء، كفنانين هو أن يشاركوا الآخرين الهواء.