لا تزال السوق النفطية تحتفي بالاتفاق الإطاري الذي أُعلن عنه في الجزائر أواخر الشهر المنصرم، ويقضي بعودة أوبك إلى سياسة خفض الإنتاج: بعد عامين من ضخ الإمدادات المتصاعد في مسعى لتأمين أكبر حصة في السوق وعدم الاهتمام بالأسعار.. على أن تقوم لجنة مختصة بالبحث في التفاصيل وإعداد خطة متكاملة تُعرض على الوزراء عند اجتماعهم الدوري المقرّر أواخر تشرين الثاني/نوفمبر في فيينا.
ورغم الثغرات العديدة في الاتفاق، إلّا أنّ ردّة فعل السوق الفورية كانت صعوداً للأسعار بنحو 6 في المئة، تمّت المحافظة عليها بصورة أو بأخرى حتى الآن، وظل سعر البرميل يتراوح في حدود 50 دولاراً. فالسوق فيما يبدو قدّرت خطوة أوبك التي تعني العودة إلى الفعل وسياسة خفض الإنتاج دعماً للأسعار، وذلك لأول مرّة منذ ثماني سنوات، وذلك بدلاً من الحديث المرسل عن ترك الأمر لقوى السوق وتوازن العرض والطلب مهما تراجعت الأسعار.
فالحديث عن سقف إنتاجي جديد بين 32.5 مليون برميل و33 مليوناً، يعني وجود فجوة في 500 ألف برميل بين الرقمين، مما يشير إلى صعوبة الاتّفاق على رقم إنتاجي معيّن للدّول الأعضاء الأربع عشرة. وفوق ذلك كيفية الاتفاق على أرقام الإنتاج الخاصة بكل دولة، وهل تعتمد الأرقام التي تقدّمها الدول الأعضاء أم يتم اللجوء إلى الارقام الثانوية التي تصدرها بعض الجهات مثل وكالة رويترز أو بلومبيرغ أم بالعودة إلى شركة تدقيق، كما فعلت أوبك من قبل وبدون نجاح يذكر.
تعقيدات إضافية
تحديد المستوى الإنتاجي يعني بصورة أخرى العودة إلى القضية الأصعب وهي الحصّة الخاصة بكل دولة. فإلى جانب الصّداع المزمن المتعلّق بالمعايير التي تستخدم في العادة لتحديد الحصّة الإنتاجية لكلّ دولة، فإنّ هناك عاملين آخرين سيضيفان تعقيداً لهذه القضية، وهما الوضعية الإنتاجية لكل من إيران ونيجيريا وليبيا. ولكلّ واحدة من هذه البلدان أسبابها التي تدفعها إلى طلب الاستثناء من تحديد حصة لها. فإيران تقول إنّها تريد التعويض عن سنوات الحظر الغربي عليها، وأن تتناسب حصّتها مع وضعيّتها عضواً مؤسساً في أوبك وسجلّها التّاريخي يؤهلها لنصيب يبلغ 15 في المئة من إنتاج المنظمة. أمّا نيجيريا فتريد الاستفادة من الهدنة التي أبرمتها مع متمردي دلتا النيجر لديها والتعويض أيضاً عن فقدان كميات إنتاجية خلال الفترة السابقة. والشيء نفسه ينطبق على ليبيا حيث استعادت حكومة "الوفاق الوطني" سيطرتها على بعض المرافق النفطية وترغب في تعظيم عائداتها النفطية من خلال زيادة الإنتاج والصادرات.
أما العامل الثاني فيتعلّق بالتزام بالحصص المقررة وكيفية مراقبة هذا، وهو ما يفتح الباب أمام الثغرة التالية في الاتّفاق. ففي السابق تحمّلت السّعودية وبصورة رسمية عبء المنتج المرجح الذي يرتفع بإنتاجه ويخفضه حتى تكون إمدادات أوبك في الإطار المتفق عليه، ومن ثم تحقق المستوى السعريّ المنشود. لكن بسبب عدم التزام الدول الأخرى بحصصها، تخلت الرياض عن هذا العبء رسمياً ولو أنّها ظلّت تقوم به منفردة وفي إطار رؤيتها الخاصة ووفق مصالحها الوطنية.
هذه المرة هناك غياب كامل لهذا الدّور، والخيار أن يتم التعويض عنه بجهد جماعي يشارك فيه المنتجون من خارج أوبك بقيادة روسيا. إلّا أنّ سجل موسكو السابق في هذا المجال ليس مشجعاً.
عوامل أربعة، منها موسكو على الخط
على أنّ أهم نقطة في الاتفاق الإطاري تتمثل في ما فهمه السوق: أنّ الرياض غيرت موقفها من استراتيجية التركيز على الحصة في السوق، إلى دعم الأسعار. الأمر الذي يعيد الى الاذهان تجربة حرب الأسعار في ثمانينيات القرن الماضي عندما أوقفت تلك الحرب قبل أن تحقّق أهدافها، وعلى رأسها إخراج المنتجين ذوي التكلفة العالية مثل بحر الشمال وألاسكا من السّوق.
هذه المرة هناك أربعة عوامل رئيسية، فيما يبدو دفعت الرياض إلى مراجعة موقفها:
- أوّلها أنّه وعلى الرّغم من الوضع المالي القوي للسّعودية، إلّا أنّ استمرار تدنّي الأسعار دفعها الى الإنفاق الضّخم من مدخراتها، بل واتخاذ خطوات لتقليل الصرف (الذي طال حتى رواتب الوزراء وكبار المسؤولين)، وزيادة رسوم الخدمات المقدمة، والتحول إلى التقويم الميلادي في دفع الرواتب مما يوفر على الخزينة العامة كلفة 11 يوماً، الأمر الذي ينعكس على الناس وربما تكون له تبعاته السياسية والاجتماعية، لأن استمرار هذا الوضع يضعف من معادلة دولة الرعاية القائمة. وتشير تقديرات عديدة إلى أنّ معدل العجز في الميزانية العام المقبل يمكن أن يرتفع الى أكثر من 13 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي.
- السبب الرئيسي الثاني أنّ حرب السنتين هذه لم تؤثر كثيراً في صناعة النفط الصخري الأميركية. وعلى الرغم من حالات الإفلاس التي أصابت بعض الشركات، إلّا أنّها بصورة عامة قامت بخفض الكثير من مصروفاتها وتواءمت مع الأسعار المتدنية. بل إنّ التحسّن الأخير في سعر البرميل دفع إلى زيادة في أعداد منصات الحفر العاملة التي بلغت مؤخراً 522 منصة. وهو ما يشير إلى معضلة فيما إذا واصل سعر البرميل رحلته إلى أعلى وقارب 60 دولاراً، الأمر الذي يعتبره كثيرون أرضية سعرية تسمح لصناعة النفط والغاز الصخري بالانطلاق مجدداً.
- ثالثاً، فإنّ فترة تدنّي الأسعار هذه أدّت إلى تعليق العديد من الاستثمارات في الصناعة النفطية عبر تأجيل أو إلغاء مشروعات لفترة عامين على التوالي، وذلك لأوّل مرة منذ فترة طويلة. ويُقدّر أنّ حجم هذه الاستثمارات الملغاة أو المؤجلة قد بلغ نحو 583 مليار دولار (وفق وكالة الطاقة الدولية)، وهي ظاهرة لم تحدث منذ 40 عاماً، إضافة إلى 138 ملياراً عبارة عن ديون متراكمة لكبريات الشركات النفطية، مما يحد من قدراتها الاستثمارية. ويعني هذا من ناحية أخرى إعداد المسرح لحالة من شحّ الإمدادات وقفزات سعرية لا تحبّذها الرياض، لكونها صاحبة احتياطيات كبيرة وترغب في أن يظل النفط التقليدي مصدراً للطاقة، وألّا تدفع التطورات السّعريّة إلى التحول لبدائل، خاصة أن تقنية الحصول على النفط الصخري أصبحت متاحة وأي تصاعد مستقبلي في سعر البرميل سيعطيها قوة إضافية على حساب النفط التقليدي الموجود في السعودية.
- وأخيراً فهناك العامل الروسي، إذ يُعتقد بصورة عامة أنّ تفاهمات ما تم التوصل إليها بين الرياض وموسكو إبان لقاء بوتين بولي ولي العهد السعودي، على هامش قمة العشرين الشهر الماضي، تتضمّن موافقة السعودية على فكرة تجميد الإنتاج أو خفضه واستثناء إيران من ذلك. وكانت هذه النقطة تحديداً هي السبب في فشل اجتماع الدّوحة في نيسان/ أبريل الماضي، حيث رفضت الرياض المُضيّ في خطة تجميد الإنتاج ما لم تشارك فيها إيران. ويبقى السّؤال عن نوع المقابل الذي ستحصل عليه الرياض رداً على تجاوبها هذا.
.. فهناك المقابل السياسي، في العديد من الأماكن، حيث يمكن لموسكو لعب دور ما. وفوق ذلك ما يمكن أن تسهم به روسيا في اتفاق دعم الأسعار. فالرّياض تتحدث بجلاء أن أيّ اتّفاق لا بدّ أن يشمل المنتجين خارج أوبك، وعلى رأسهم روسيا، بينما الأخيرة تقول إنّها مستعدّة للمساهمة في الاتفاق متى ما توصلت أوبك إلى صيغة ملزمة.
لكن يلاحظ أن كلاً من أوبك وروسيا حققتا مؤخراً أعلى إنتاح لهما في التاريخ القريب، إذ بلغ إنتاج أوبك وفق مسح قامت به وكالة رويترز 33.5 مليون برميل في آب/ أغسطس، بينما تصاعد الإنتاج الروسي 400 ألف برميل إضافية يومياً ليصل إلى 11.1 مليوناً في أيلول/ سبتمبر الماضي، ويرجّح له أن يصل إلى 11.4 مليوناً هذا الشهر أو يتجاوزها، وكان قد حققها في العام 1987 وقبل انهيار الاتحاد السوفياتي. وبالنسبة إلى بوتين المهموم باِستعادة مكانة روسيا لاعباً مؤثراً على الساحة الدولية، وللنفط دور محوري في هذا المسعى، فإن الخفض الفعلي للإنتاج النفطي الروسي سيكون محل تساؤل ونظر، خاصة أن نصف عائدات خزينة الدولة تأتي من المبيعات النفطية.
وهكذا وحتى يلتقي الوزراء نهاية الشهر المقبل، فإنّ أوبك ستبحث في دفاترها القديمة وتنظر في كيفية خفض الإنتاج والتّعامل مع صداع الحصص المزمن ومراقبة التنفيذ ومدّ الجسور مع المنتجين خارجها.