المشهد السياسي المصري: هل ترسو "سفينة نيرودا" في "واحة الغروب"؟

لم تتخلّ مصر عن المحاولة، لكنّ أغلبها انتهت مبتورةً، سواء نتيجة الملاحقة الأمنية أو بعد كل ما حاق بالعقل الجمعي للثورة. فقد أصيب الميدان الكامن داخلنا بتشرذم البنية وتذبذب الرؤية. نعم، كان لا يزال هناك على هذه الأرض ثوار، لكنّهم متفاوتون في قناعاتهم حول المخرج، ولا أحد منهم، مهما بلغت رجاحة فكره وجرأة همته، يقدر على القول بأنّه يمتلك تصوراً لوقف هذا الانهيار.
2023-08-14

منى سليم

كاتبة وصحافية من مصر


شارك

"أنا شاركتُ في ثورة يناير". وسمٌ تَشكّل في 25 كانون الثاني/ يناير 2014، كمحاولةٍ للتعافي من آثار الاحتراق والاختراق. كان كالتمسك بالشارة في خضم عواصف الاهتزاز واللا-اتساق، تلك التي نتجت عن تداخل المعادلات وتشوّهِها بعد نزول ملايين المصريين إلى الميادين في 30 حزيران / يونيو 2013 للمطالبة بانتخابات رئاسية مبكرة.

في محاولة للتعافي، استمرت مساعٍ تعي بأنّ الهزيمة قد وقعت، وبأنّ الأمر لا يتعلق فقط بالدماء والحريات، أو بما لاح في الأفق مبكراً من تراجع السلطة عن شعارات "ثورة يناير". بدت الحال أشبه بتعليق "مريد برغوثي" بعد توقيع منظمة تحرير فلسطين لاتفاقية "أوسلو" حين قال: إنما الأمر يتعلق بانهيار المعنى.

فماذا بعد بدء الانهيار؟

لم تتخلّ مصر عن المحاولة، لكنّ أغلبها انتهت مبتورةً، سواء كان ذلك نتيجة الملاحقة الأمنية أو بعد كل ما حاق بالعقل الجمعي للثورة. فقد أصيب الميدان الكامن داخلنا بتشرذم البنية وتذبذب الرؤية. نعم كان لا يزال هناك على هذه الأرض ثوار، لكنّهم متفاوتون في قناعاتهم حول المخرج، ولا أحد منهم، مهما بلغت رجاحة فكره وجرأة همته، يقدر على القول بأنّه يمتلك تصوراً لوقف هذا الانهيار.

مرت سنوات عشر، ولا زالت الأسئلة عالقة حول كيفية النصر، أو كيف يمكنه أن يبدو. سنوات عشر بدأت بدعوة لانتخابات رئاسية مبكرة، وها هي مصر الآن على مشارف جولة جديدة من تلك الانتخابات. صوريةٌ جاءت كما هو متوقع من الأغلبية، أو مدويةٌ وفق عجائب الأقدار والشعوب.

مقالات ذات صلة

فلماذا أكتب الآن؟ انتماءً لحلمٍ لا ينتظر مناماً يحييه؟ أم أنّها مجرد محاولة افتراضية لتمشيط الميدان في ذكرى موسمية؟ هل يمكن للكتابة - حقاً - أن تُسعف في التعبير عن النفس التي تختمر فيها كل أنواع الحزن والأمل، ومن ثم عن حلم التغيير؟ ولماذا أذهب بقلمي إلى "سفينة نيرودا" (1)  وكيف يمكنني أن أشغل تلك المساحة بخيالٍ روائي يراها تنطلق من ساحل جمهورية تشيلي لتجوب كل تلك البحار اللاتينية، ثم تخترق الرمال لا المياه، لترسو أخيراً في مدينة "سيوة" جنوب صحراء مصر حيث "واحة الغروب" ؟ (2)

نحرٌ، لا نُحول

كنتُ ممن دعوا لذاك النزول، هذه حقيقةٌ أولى أحب دوماً أن أضعها أمام عينيّ، وفي السطر الأول أمام من يقرأ لي. حتى وإن كنت قررتُ وقتها آلاّ آخذ مكاناً وسط الأضواء التي لم تبدأ معيبة. انتهى الأمر بتوثيق شهادتي عن "تمرد وفض اعتصام رابعة.. الفواتير المؤجلة"، وقد كتبتها من موقعي الدائم الذي أفضّله، كاتبة وصحافية تلتزم بالفعالية في الواقع السياسي والسعي المشترك لتغييره.

من بعدها، حاولتُ أن أكمل دوماً عبر الورق، فجاءني التماس هذه المرة - وكما في الأغلب - من قلب الأدب، وتحديداً من الرواية التاريخية. فخلال تلك السنوات العشر تواتر العديد منها داخل حقيبة يدي، وهكذا تشكل لديّ ذاك الرابط، الذي لا يزال يؤثر في، بين روايتي "واحة الغروب" للروائي المصري "بهاء طاهر" و"سفينة نيرودا" للروائية التشيلية "إيزابيل الليندي". لعلهما خَلقا معاً الحدودَ المتجذرة داخلي بين الهزيمة والنصر، بين الشك واليقين، بين الالتزام والتخلي.

لماذا أذهب بقلمي إلى "سفينة نيرودا" وكيف يمكنني أن أشغل تلك المساحة بخيالٍ روائي يراها تنطلق من ساحل جمهورية تشيلي لتجوب كل تلك البحار، ثم تخترق الرمال لا المياه، لترسو أخيراً في مدينة "سيوة" جنوب صحراء مصر حيث "واحة الغروب"؟

 تفاعلتْ سرديات الروايتين بما جعلني أؤمن أنني لا زلت أنتمي لحزب مقاومة الاستكانة، لعشرات الآلاف من المصريين ممن لا زالوا على قيد الأمل. أملٌ لا يتقاطع سلباً مع إدراك حقائق الواقع المرير الذي يشير إلى أنّ "ثورة يناير" قد نُحرت ولم تتعرض فقط للنحول. أملٌ يعي بأنّ استمرار الإيمان بشعار "الثورة مستمرة" ليس مجرد حنين رومانسي غير مستساغ، ولكنه تمسك عملي بالدافع الذي أخذ تلك الملايين ذات يومٍ نحو خلق ذلك المناخ. وبما أن مسببات الخروج العظيم لم تتحقق، فلا زالت الحاجة لاستيفائها بديهية، وعليه يصبح السعي السياسي نحوها ليس فقط مشروعاً وشرعياً، بل هو ضرورة.

هكذا أؤمن، ثم على استحياءٍ أشرح، كيف مرَّ إليّ طيفُ ذلك عبر روايتين وصورة.

موتٌ، لا غروب

على ذلك الورق، جلست تلك الفتاة الإيرلندية مشدوهةً غاضبة، تتابع تجرؤ اليوزباشي المصري في حديثه عن تدريس تاريخ الإنجليز بدلاً من التاريخ المصري لتفادي مرحلة الفتنة وتاريخ العصاة بقيادة "عرابي". هتفت: عرابي باشا!! كنا نتابع أخبار العرابيين بشغفٍ، فكيف يتحولون، لمجرد هزيمتهم، إلى عصاة؟ أغلب ثوراتنا تم وأدها على يد الإنجليز، لكنّ "الهزيمة لا تنزع أبداً البطولة عن الثوار".

نظر إليها رئيسه الأومباشي "محمود عزمي" بإعجابٍ يختصر كل ما فاته وبلّده عبر سنوات قليلة، انقلب كل شيء إلى عكسه بعد انهزام الجيش المصري أمام مدافع الاحتلال البريطاني وتأييد الأسرة الملكية في مصر.

كان الإنكار هو أداة النجاة التي ارتضاها عددٌ كبير من ضباط الجيش والشرطة ممن شاركوا في أعمال مقاومة الاحتلال. قليلون من تمسكوا بقولهم وكان الثمن فادحاً. وكثيرون من أوغلوا في التبرير والتنكر فبدًلت الهزيمة أرواحهم وأصبحوا ملكيّين أكثر من الملك. أما عذاب هذا الشاب مأمور قسم مدينة "سيوة"، فقد صاحبه كورمٍ خبيث. وفي واحة الغروب، خطّ "محمود" طريق نهايته كحصادٍ لرحلة عذاب بدأت حين تنكّر للحظة ميلاده الثانية في تلك الحياة. عاش تلك الليلة الكئيبة، يغتاله الخوف والشعور بأنّه على شفا الخيانة. وفي الصباح تمت جريمته ضد نفسه، وأمام لجنة التحقيق وصف الثوار بالبغاة وليس فقط بالعصاة. في المساءات التالية ترك "محمود" نفسَه لقلب حبيبته الفقيرة لتداوي جرحه، ثم في صلفٍ، عصف بحلمها تحت ذريعة العادات والتقاليد. وحين فتحت الباب ومضت، انتفض وقد اكتشف أنه فقد نفسه مرة أخرى.

كانت علته هي الصدق الذي يفسده الخوف، فأورث نفسه الحزنَ حتى النهاية، ولم يجد مخرجاً إلا بانتحارٍ لم يخلُ من صيغة احتجاج. ولعلها كما يقول المثل الشعبي "حلاوة الروح". هاجم محمود مساعدَه اليوزباشي العميل للأجهزة قائلاً "عرابي أشرف منك ومن اللى مشغلينك، اتفضل روح ابعت لهم". تذكّر رحلته في الصحراء من القاهرة إلى تلك الواحة حين جاءت العاصفة، يومها اشتهى الموت أو ظنّ أنه لا يهابه أو أنه كان يراه مخرجاً، فقال لنفسه: "سوف أسكن العاصفة". ظلت الفكرة تخايله حتى جاءت اللحظة. على عجالة، ودع تلك الفتاة الإيرلندية التي حملت لقلبه الحب مرة أخرى، لكنّه لا يستطيع الاقتراب. لذا قرر الانصراف إلى لحظته الأخيرة فزرع المتفجرات داخل المعبد الذي رأى فيه هو الآخر رمزاً للغزاة وفجّره فوق رأسه.

هذه الواقعة الأخيرة هي الحقيقة التاريخية الرئيسية التي انطلق منها "بهاء طاهر" لكتابة روايته والإجابة عن سؤال: لماذا؟ لماذا تورط ذاك الثائر إلى هذا الحد في هذا المأزق؟

إبحارٌ لا وصول

أما الشاب "فيكتور دالمالو"، فعلى الرغم من عدم انخراطه في الحرب الأهلية الإسبانية بصفته رفيقاً يسارياً محارباً، وعلى الرغم من كونه لم يحمل إخلاصاً لفكرة المواجهة الدامية حتى تنزل الضربة القاضية، كان دائم الإيمان بضرورة الحسم عند الوقوف على المحك. لذا، كلما ملك الاختيار بين أن يؤْثر السلامة أو أن يحيا وفق ما يليق بفهمه لمعنى وجوده وقيمة إنسانيته، تحرّكَ دون أن يدّعي بطولة وقدرات غير عادية.

كان الإنكار هو أداة النجاة التي ارتضاها عددٌ كبير من ضباط الجيش والشرطة ممن شاركوا في أعمال مقاومة الاحتلال الانجليزي خلال الثورة العُرابية. قليلون تمسكوا بقولهم، وكان الثمن فادحاً. وكثيرون أوغلوا في التبرير والتنكر فبدًلت الهزيمة أرواحهم وأصبحوا ملَكيّين أكثر من الملك.

في محاولةٍ للتعافي، استمرت مساعٍ تعي بأنّ الهزيمة قد وقعتْ، وبأنّ الأمر لا يتعلق فقط بالدماء والحريات، أو بما لاح في الأفق مبكراً من تراجع السلطة عن شعارات "ثورة يناير". فكيف يتحول الثوار، لمجرد هزيمتهم، إلى عصاة؟ "الهزيمة لا تنزع أبداً البطولة عن الثوار".

كان هذا عهده حين انضم للمعارك في إسبانيا بصفته ممرضاً، وهناك ضغط بيده على قلب جريحٍ كان قد فقد النبض، فأصبح رائداً وعلامةً بعد أن عاد المجنّد للحياة. كان هذا عهده حين قرر ألا يحاول الهرب من المعسكر الفرنسي الذي تم ترحيله إليه، كأحد اليساريين الفارين من الحكم الفاشي المنتصِر في إسبانيا. قرر أن يبقي على دوره في علاج المرضى المقيمين بين البرد والأسلاك الشائكة. هكذا أن التقى مرة أخرى بـ"مارسيل"، ابن شقيقه، الذي حملتْ به حبيبة أخيه قبل أن يموت في الحرب. وكان فيكتور قد قرر أن يأخذها وجنينها ونفسه في السفينة التي أبحر بها الشاعر اليساري الشهير "بابلو نيرودا" من تشيلي، ليسمَح لعددٍ من ثوار أسبانيا بالصعود إليها وبدء حياة جديدة داخل "أميركا الجنوبية" التي كانت تخطو أولى خطواتها باتجاه السلطة اليسارية والديمقراطية. كان هذا عهده حين سارت حياته بهدوء كطبيب. وعلى الرغم من هذا، وجد نفسه يقترب ويدعم كل ما يؤمن به إلى أن أصبح أحد أهم الأصدقاء المقربين للمرشح اليساري لمنصب رئيس الجمهورية، "سلفادور الليندي". خاض معه معركته الانتخابية دونما أن يحصد مساحة واسعة من الأضواء، نصحه كثيراً في الجلسات الخاصة التي كانا يلعبان فيها الشطرنج على هامش المهام الرئاسية، وحين جاء الانقلاب العسكري المدعوم أمريكياً، وجد نفسه في طابور الصباح في أرض المعتقل بعد أن انتهت جلسات التحقيق والتعذيب. قال في سره: "لا أملك الآن إلا أن استسلم لدوري كأسير، سأتخلى عن وهم التحكم بشيء من وجودي، إنني في قبضة من يتمتعون بسلطة مطلقة وإفلات من العقاب، أنا هنا فقط سيد انفعالاتي، سآخذ بحكمة جدي وأنحني أمام العاصفة ولكن بلا انكسار، سأحتمي من سادية من اعتقلوني وغبائهم بالانغلاق على ذكرياتي". ناضلت زوجته بعدها لتنقذه، زوجته التي لم يفترق عنها كل تلك السنوات على الرغم من بقائهما على فكرة الزواج الصوري. وحين خرج من المعتقل ومنه إلى فنزويلا، بدأ قصة حبه معها في منتصف عقده الخامس.

هكذا كان عهده يسري بهدوء وحسم دونما أن يطلق شعارات. وحين سُمح له ولآخرين بالعودة، لم يستطع أن يتجاهل طويلاً نداءات الفقراء والقبول بمنطق القطاع الخاص والعيادات عالية الكلفة. لذا وعلى الرغم من المخاوف الأمنية، بدأ بعلاج الفقراء مجاناً في ذلك التجمع العشوائي، وساعده على هذا أنه على الرغم من استمرار البطش، بدا له وكأنّ شيئاً ما يلوح أسفل منه. وقد صدقت النبوءة وأثمر الأمل في يومٍ ليس ببعيد. بدأ قراءته للواقع بعين ابن أخيه الذي أوفده للجمهورية العسكرية ليستطلع الأحوال بعد اثني عشر عاماً من الانقلاب، فعاد له ليقول: "البلاد تبدو حديثة ومزدهرة ظاهرياً، ولكن يكفي حك السطح لتظهر العيوب ويظهر البؤس. هناك تفاوت ساحق، ثلاثة أرباع الثروة في يد 20 أسرة، الطبقة الوسطى تعيش بصعوبة على القروض، أحياء بائسة في مواجهة ناطحات سحاب، رفاهية وأمان للبعض، وبطالة وقمع لآخرين، المعجزة الاقتصادية في السنوات السابقة والمعتمدة على حرية الرأس المطلقة والغياب الكامل لحقوق الطبقة العاملة، أدت إلى تضخم كفقاعة، يمكن الشعور في الأجواء بأن الوضع سيتغير، فالناس أصبحوا أقل خوفاً، تلوح الرغبة الاحتجاجية، ولكن ما أعتقده أن هذه الديكتاتورية يمكن أن تسقط بفعل ثقلها بالذات".

الأمل لا يتقاطع سلباً مع إدراك حقائق أنّ "ثورة يناير" قد نُحرت ولم تتعرض فقط للنحول. أملٌ يعي بأنّ استمرار الإيمان بشعار "الثورة مستمرة" ليس مجرد حنين رومانسي غير مستساغ، ولكنه تمسك عملي بالدافع الذي أخذ تلك الملايين ذات يومٍ نحو ذلك المناخ. وبما أن مسببات الخروج العظيم لم تتحقق، يصبح السعي السياسي نحوها ليس فقط مشروعاً وشرعياً، بل ضرورة.

مرت الأعوام، ومن اغتالوا "سلفادور اللندي" ومن بعده "نيرودا" وعذبوا وقتلوا وأخفوا وشردوا الآلاف، اضطروا للقبول بحضور نسبيّ للمعارضة عبر مقاعد برلمانية ونقابية، وسمحوا ببعض المظاهرات والاختراقات الشعبية هنا وهناك، إلى أن نضج المشهد بعد أعوامٍ قليلة جداً، وإزاء ضغوط إقليمية ودولية إضافة إلى شبح الإفلاس والانهيار، اضطر الديكتاتور "بينوشيه" للقبول باستفتاء عام على سياساته بحضور إشراف دولي، وحين جاءت النتيجة المتوقعة، حاول استخدام سلاحه من جديد لكنّ اللحظة لم تسعفه. وهكذا وجد "فيكتور" نفسه، وهو الذي لم ينقطع يوماً عن مساره، يزهر من جديد كمواطن وطبيب وأستاذ وسياسي في بلد يبدأ رحلة جديدة نحو الحرية.

كان إبحار "سفينة نيرودا" بعدد من الثوار الإسبان ممن سينخرطون في العمل السياسي اليساري في تشيلي، هو الواقعة التاريخية التي منها انطلقت الروائية "إيزابيل اللندي" ابنة أخ الرئيس المُغتال لتجيب في تلك الرواية عن سؤال "كيف؟ كيف يكون المخرج الذاتي/ الجماعي بعد كل هزيمة؟"

خيالٌ، لا محال

كانت "واحة الغروب" لا تفارق حقيبة ظهري في تلك الأيام العصبية، حيث المواجهات في شارع محمد محمود نهاية عام 2011، والتي سقط فيها 46 شهيداً و1140 جريحاً، من بينهم عشرات ممن فقدوا عيونهم، ليطلق الثوار فيما بعد على الشارع اسم "عيون الحرية". أما "سفينة نيرودا"، فقد صادفها في النهار التالي حضور رموزٍ من المعارضة المصرية لإفطار رمضاني دعت إليه السلطة. كانت هذه نقطة البداية للحظةٍ سياسيةٍ لم تضع أوزارها بعد.

هل كان في حملي للرواية الأولى فأل نحس؟ أم أني أدركت مبكراً مدى حاجة النفس للتدريب على أن الهزيمة لا تنزع البطولة عن الثوار؟ ولماذا شعرت بينما أبكي في ذاك النهار أنّ تلك السفينة التي تلوح من على شاطئ تشيلي وقابلْتُها صدفةً على ورق، قد منحتني بعض الأمل؟ هل لأنّ الأفول يبدأ كما في الرواية الأولى من التشرذم والقبول بطقوس الهزيمة، من تنكر للمعنى وإرغام النفس على العيش دون حبٍ، دون حلمٍ، دون حياة؟ أم لأنّ التألق كما في الرواية الثانية يبقى مرتبطاً بالسعي والانخراط الجماعي، مرتهناً بإدراك الدلالة التي لا تتحقق إلا بوجود قيم ورسالة وأمانة في تلك الحياة، وإلا تحولت لمجرد معيشة، سواء جاءت مضنية أو هنيئة.

كان الأفول والشعور بالوحدة هو قدر "محمود" على المستويين العام والخاص، حتى الممات. كان التألق وقرار التوحد مع الغير هو مسار "فيكتور" إلى أن مات ميتة هادئة على سرير دافئ. سريرٌ فارقته حبيبته قبل سنوات نتيجة مرض عضال مفاجئ أعاده إلى رشده ليهتم بها ويودعها وداعاً يليق بها بعد أن كانت الحياة العامة قد بدأت تنسيه هناءات ورسالات حياته الخاصة. هل الأمر يتعلق بكل ذلك التفسير المنصبّ على الذات؟ أم إنه يتعلق بمجريات التاريخ وما آلت إليه الأحداث في تلك البلاد؟ وهل لا زالت تجارب الثورات والديمقراطيات اللاتينية تحمل لروح التغيير في مصر والعالم العربي رسائل مفعمة بالأمل؟ أم أن لعنة الجغرافيا وإرث التاريخ وسوسيولوجيا الشعوب تدعو المقيمين هنا للتحلي باليأس كبديلٍ عن التعلق بالوهم الجائر غالي الثمن؟

"البلاد تبدو حديثة ومزدهرة ظاهرياً، ولكن يكفي حك السطح لتظهر العيوب ويظهر البؤس. هناك تفاوت ساحق، ثلاثة أرباع الثروة في يد 20 أسرة، الطبقة الوسطى تعيش بصعوبة على القروض، أحياء بائسة في مواجهة ناطحات سحاب، رفاهية وأمان للبعض، وبطالة وقمع لآخرين... الوضع سيتغير، فالناس أصبحوا أقل خوفاً، تلوح الرغبة الاحتجاجية، وهذه الديكتاتورية يمكن أن تسقط بفعل ثقلها الذاتي".

في مصر الآن، تتنافر رؤى رفاق الطريق ولا تتضافر خطواتهم، وعلى الرغم من هذا، يضيق الممر ويُسحَب الجميع نحو مشهد لا يتيح استخدام خاصية "للخلف در". ها هي انتخابات رئاسية على الأبواب بلا ضمانات نزاهة حقيقية، بلا نضوجٍ لموقف سياسي يوحّد بين صفوف المعارضة، النخبوية منها والشعبية. لا زال المشهد غائماً، ما بين حوار وطني لم يزل قائماً تشارك فيه رموز من المعارضة المصرية على الرغم من تدني مستوى المخرجات، وعلى رأسها الإفراج عن المعتقلين وصدور قوائم العفو. وما بين إعلان منفرد لنائب برلماني شاب هو "أحمد الطنطاوي" عن نيته لخوض الانتخابات في ضوء بعض محدداتٍ، يملك وحده تقييمها حتى يقرر في لحظةٍ ما ألاّ يشارك ـ حسب تعبيره ـ في المهزلة. وما بين هذا وذاك مجموعات لم تنضم بعد هنا أو هناك في انتظار ما تسفر عنه تفاعلات الأحداث في الأشهر والأيام القادمة أو لمحاولة إيجاد موقع مناسب لها وسط هذا الخضم.

ولكن الممر يضيق ليعلن عن موجة جديدة تتشكل سواء ارتضى الجمع المتشرذم أو رفض. موجة بدأت قبل عام وتنتهي بعد أقل من عام، لتبدأ بعدها ـ وأياً كانت النتائج ـ موجة جديدة، موجة قد بدأت لتطرح تحدياً آخر أمام الثورة المهزومة. يقف الثوار على المحك، ولا يملكون إلا الاختيار، فإما التنكر أو الصمت أو الانخراط.

لا زلت أرى السفينة ترسو على شاطئ الواحة، لعلها المنفذ الذي ينقذ حجارة المعبد من التفجر ويحمي القلوب المكلومة في ثورتها من التفتت تحتها. 

______________________

1-  الصادرة عن دار نشر "الآداب" بيروت 2020، ترجمة صالح علماني.     
2-  الصادرة عن دار الشروق، القاهرة، 2008 والمتوافرة للتحميل الالكتروني.

مقالات من مصر

ثمانون: من يقوى على ذلك؟

إليكم الدكتورة ليلى سويف، عالمة الرياضيات المصرية بالأصالة، البريطانية بالولادة، على صقيع رصيف وزارة الخارجية في لندن، تُعدُّ بالطباشير – ككل المساجين - أيام اضرابها.

في مصر يمكنك فقط الاختيار بين سجن صغير وآخر أكبر

إيمان عوف 2024-12-09

تحوّل القانون رقم (73) لسنة 2021، الذي يتيح فصل الموظفين المتعاطين للمخدرات، إلى أداة لملاحقة العمال والنشطاء النقابيين العماليين، والنشطاء السياسيين والصحافيين. وعلى الرغم من اعتراض النقابات والجهات الحقوقية على...

للكاتب نفسه

عيش.. حرية.. إلغاء الاتفاقية!

منى سليم 2024-03-29

هل يستقيم ألا تغيِّر الحرب على غزة موازين الأرض؟ أو لا يصير الى صياغة برنامج سياسي مصري ينطلق من إلغاء هذه معاهدة كامب ديفيد، وأن يكون ذلك ركيزة للتغيير الجذري...