الدخول الانتخابي قبل الدخول المدرسي والثقافي

قبل بدء الترشيحات، وقبل بدء الحملة الانتخابية، نشرت الصحف المغربية هذا الخبر عشرات المرات والصيغ: "السلطات تمنع توزيع الخرفان"، أي أن السلطة تقطع الأرزاق (اللحم). قطع الأعناق ولا قطع اللحم. كتبت الصحف الطيبة أن وزارة الداخلية تمنع استغلال "إحسان عيد الأضحى في حملة انتخابية سابقة لأوانها"..
2016-09-26

محمد بنعزيز

كاتب وسينمائي من المغرب


شارك
بهرام حاجو - سوريا

قبل بدء الترشيحات، وقبل بدء الحملة الانتخابية، نشرت الصحف المغربية هذا الخبر عشرات المرات والصيغ: "السلطات تمنع توزيع الخرفان"، أي أن السلطة تقطع الأرزاق (اللحم). قطع الأعناق ولا قطع اللحم. كتبت الصحف الطيبة أن وزارة الداخلية تمنع استغلال "إحسان عيد الأضحى في حملة انتخابية سابقة لأوانها".. المهم أن المغرب يعيش الدخول اللحمي، وهو أهم من الدخول السياسي والمدرسي والثقافي.
بعد العيد، أفاد بلاغ لوزير الداخلية بأن وضع الترشيحات يبدأ في 14 أيلول/ سبتمبر والحملة الانتخابية في 24 منه، والتصويت في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر. وقد بلغ عدد المسجلين باللوائح الانتخابية 15 مليوناً و702.592 ألف ناخبة وناخب، ثلثهم من الشباب. يسكن 45 في المئة من الناخبين في البوادي، لكن نسبة المقاعد التي سينتخبونها هي أكثر من نصف عدد أعضاء مجلس النواب.
للدفع بالحملة نقدياً – من النقود لا من النقد - وعد وزير الداخلية زعماء الأحزاب برفع مساهمة الدولة في تمويلها. وألزمت الوزارة، في مرسوم كتب على الورق، كل مرشح بألا تتجاوز مصاريف حملته خمسين ألف دولار. حسب دراسة، تتزايد نفقات المغاربة بـ78 في المئة في العيد والدخول المدرسي. سيطبّق المرشح للبرلمان هذه القاعدة على نفقاته، لأنه سينفق على الكثيرين في فرحتَي العيد والدخول المدرسي. سيشتري اللحم لا الأدوات المدرسية. وقد يتجاوزها. والمعلومات الواردة في هذا المقال قد تتغيّر، فهذا نص يُكتب بينما موضوعه يغلي. اليوم ارتفع سعر الدجاج وسيرتفع سعر المرق.
تعليقاً على مرسوم الوزير، قال محلل سياسي "الانتخابات سوق للأموال.. ومرسوم وزير الداخلية حبر على ورق".
الحمد لله ليس مرقاً على ورق. لكي لا يغضب أهل السياسة، ففي المهرجانات الثقافية التي أحضرها، لم يسبق قط أن تجاوز الذين يحضرون المناقشات ثلث الذين يحضرون الوجبات، أو أقل.
خمسون ألف دولار لن تكفي حتى للمرق. أما البنزين واستئجار السيارات والرجال فهو يتجاوز ذلك. يصف المغربي صديقه بكونه "مَرَايقي"، وغالباً يقصد أنه مرتشٍ أو يتبع بطنه. يؤخذ المرق كمقياس للفرز؛ فالمرشحون نوعان: مرشح في قمة اللائحة وآخر أسفلها، وكلاهما يحتاج تزكية.
على الورق، تقتضي القوانين الداخلية للحزب أن يتم ترشيح الأقدم والأكفأ، وأن يحصل انتخاب داخلي لتحديد من سيحصل على التزكية. كطائر لقلق مهاجر، يغير المرشح لونه السياسي ليحصل على التزكية.
يُستعمل مصطلح التزكية في التصوف للتعبير عن سمو النفس، وتحررها من شهوة اللحم نيئاً ومطبوخاً. يتضمن فعل التزكية تراتبية، إذ تنبني العلاقة على أساس المفاضلة بين الأشخاص، بحيث لا يرتقي سلم التجربة الصوفية إلا من زكاه شيخ عارف بالله.
وفعل التزكية لا يقتصر على المجال الديني، بل يمتد إلى مجال السياسة: زكاه شيخ الحزب أي فضّله عن غيره لقوة تأثيره المادي أو الرمزي.
الأحزاب تختار مرشحيها. مشهد ضبابي فيه الكثير من الخوف. تراجع الأعيان خوفاً من الخسارة فتراجع طالبو التزكيات، ومع قلة الطلب نزل سعر التزكيات. يبدو أن التدافع للحصول على التزكيات صار باهتاً.
يخاف سدنة الصندوق والنتيجة عدم ترشح قيادات قديمة خوفاً على قرابينها. وعدم ترشيح أعيان طارئين على الحزب، والشعار البديل هو "الحزب يلتفت لأبنائه الأوفياء" الذين يسمّون مرشحين نضاليين كعجلة احتياطية.
يقدّم المرشح ذو القِدْر اللحم، فهو كثير الرماد إذاً رفيع العماد إذا ما ترشح. المرشح النضالي لا قِدْر له. إنه انتصار المعدة على الإرادة.
يقول المثل المغربي "اللحم لا يرد". إنه الهدية الحقيقية والباقي يرد.
سيكون وضع أبي القِدْر جيداً في الأرياف.
المرشح النضالي في الأردن يسمّونه المرشح "الحشوة" لأنه ساقط مسبقاً. والحشوة في المطبخ المغربي ما يوضع في الدجاج المحمّر وهو دقيق، أي أقل من اللحم. يبدو أن تحليل الانتخابات بمصطلحات المطبخ أجدى من تحليلها بمصطلحات العلوم السياسية المنبثقة من "حكم الشعب نفسه بنفسه بواسطة الشعب".
يوجد دجاج محشي بالأرز وهو لذيذ، وحزب محشي بالمرشحين النضاليين وهو حامض. ما معنى ترشيح نضالي؟
معنى ذلك أنه ترشيح لا يتوخى الفوز بمقعد، بقدر ما أن غرضه الدعم والمساندة. ويحدث هذا في "الانتخاب اللائحي"، حيث يرتَّب بعض المناضلين في مراكز متأخرة بغرض تقوية حظوظ المرشح الأول صاحب المرق.
المناضل هو الذي يقاتل بيده وجسده دفاعاً عن موقفه وعليه الثبات عليه. غالباً ما يكون للمرشح النضالي مستوى تعليمي عالٍ، جامعي. ما أسعده. العيب في جيبه لا في رأسه. ينوي الفوز بتضافر جهود المناضلين والمناضلات، أي أشباهه من الجامعيين. وهؤلاء لا أثر لهم في الانتخابات، وهم يلتقون مرة في الشهر أو العام. لأن من يقرر في نتائج الانتخابات هو العدد لا الكتب. فالمرشح المستثمر له شبكات اقتصادية على الأرض، لديه مقهى فيه نُدل ولديه مخبزة فيها بائعات ولديه ضيعات فيها فلاحون أجراء يوردون سلعاً لدكاكين ومطاعم. وقد يكون مواظباً على صلاة الجماعة في الشتاء مما يوفر له علاقات جديدة..
وهذه شبكة مصالح تحتك وتعمل أكثر من اثنتي عشرة ساعة يومياً طيلة العام. هذه هي الشبكة التي يقاتل بها المرشح المستثمِر، وهي تموّل نفسها بتبادل المصالح، لذلك نادراً ما تتعب وهي تدافع عن نفسها. كمثال بسيط للمقارنة، يتنقل المرشح المستثمِر في سيارة أشبه بصالون فيها كل وسائل الراحة والجعة واللوز، يأكل باستمرار ولا يمشي في الأسواق إلا نادراً وللضرورة.. أما المناضل فيمشي كثيراً ويأكل قليلاً، ولا يزيد قطر عنقه عن ثلاثين سنتمتراً.
حين اتصلتُ ببعض الأعيان لم يكن لديهم وقت لثرثرتي، بينما عبر المناضل المبدئي عن سعة صدر لمناقشة شروط الترشيح. يعتقد أن الكلام سيزيد نفوذه.
يعتقد المناضل أنه سيبني نفوذه بالانخراط في الحزب، بينما المرشح الآخر بنى نفوذه مسبقاً في منطقته قبل انضمامه للحزب. وبانضمامه يضيف للحزب قوة مكتسبة.
فارق حاسم: يضطر الحزب لتقديم دعم مالي للمرشح النضالي، بينما المرشح من الأعيان له عضلات مالية يُعتمد عليها. لكنه مهدد بالمرشح المتقي الذي يخطب في المساجد. وهذا هو الجديد في انتخابات المغرب.
السياسي المحنك يتراجع والسياسي الملتحي يتقدّم: محنك أي أن حنَكيه سمينان. المناضل السلفي المتقي يتنقل ويصعد لرأس اللائحة فجأة.
تشهد الأحزاب المغربية "ميركاتو" بين أحزاب جاذبة وأحزاب نابذة، اللقلق الحزبي طير مهاجر يبحث عن الضوء والدفء والرزق. من نتائج ذلك أن ندد زعيم حزب بخطف مرشحين من حزبه. وزعيم حزب ترك حزبه وترشح ضمن قوائم حزب آخر. برلماني اشتراكي يترشح في حزب إسلامي. فجأة رشح حزب العدالة والتنمية سلفياً في لوائحه، فنشر هلعاً لدى الليبراليين واليساريين، ومع ذلك تسابقت أحزاب كثيرة للتنافس على الصوت السلفي..
وزير السياحة يسيح (مثل الزبدة في الصهد) من حزبه إلى حزب معارض وسيترشح في منطقة جبلية. الترحال ظاهرة اقتصادية في المجتمعات الرعوية، والدليل أن جريدة الصباح التي نشرت الخبر شرحت لنا أن الوزير ضمن لحزب الاستقلال الذي استقبله ولاء عشر قبائل.
وزير السياحة لن ينجح في منطقة سياحية، بل سينجح في منطقة رعوية. أما المنطقة السياحية في قلب مراكش فهجرها لينجح فيها السلفي حماد القباج الذي رشحه حزب العدالة والتنمية حيث فنادق فخمة عملاقة يطيل المبيت فيها العمر.
يتهم حزب العدالة والتنمية بترشيح سلفي متشدد وهذا تحدٍّ للملك. مَن يتهمون الحزب لا يفكرون باتهام سكان المنطقة السياحية بالإرهاب.
حسب توقعاتي، سيعطي القباج مثالاً جيداً على براغماتية الإسلاميين المغاربة. فهو لن يطالب بإغلاق أي حانة أو علبة ليلية للباشا في مراكش، وسيفتي بأن الخمر حرام وقانون الدولة يمنعه، ولكن لا يمكن إرغام الناس، فلا إكراه في الدين. هذا التخمين المتفائل جداً، فقد قررت وزارة الداخلية منع ترشح السلفي بسبب "مواقف مناهضة للمبادئ الأساسية للديمقراطية التي يقرها دستور المملكة"، وأنّ المعني "يشيع أفكاراً متطرفة". للإشارة فالسلفي هو خريج شبكة "دور القرآن" التي سبق للسلطة أن أغلقتها، ويرى شيخ الشبكة أن التصوف امتداد للتشيّع، والتصوف حماقات ونحلة ضالة وهو أتباع خرقة خضراء والخرق تليق بالحيض!
هذا نص يكتب بينما موضوعه يغلي. بعد الترشيحات، سرت أخبار ضغوط على المرشح النضالي أو نصف النضالي لسحب ترشيحه ليخلو المجال للاعبين الرئيسيين.

مقالات من المغرب

أنا وليالي الضّوء في الغابات

لم أتوقف عن الرسم، لأنني تعلّمتُ نقش الحناء بسرعة بعدها، لوجود جمهور متحمس، مع إمكانية الاختراع، وانجذاباً إلى رائحة الحناء، وتدرجات اللون البني على الأصابع والراحات والأكفّ. كنتُ أخترع بنفسي...

الحرّية للصحافيين والسّجن للصحافة

الصّحافيون الثلاثة الأشهر الذين أُفرج عنهم، أُدخلوا السّجن بتهم جنسية، لا بتهم متعلقة بحرّية الصّحافة أو الرأي، كما هو الواقع. وهي استراتيجية مباشِرة إلى درجة تثير السخرية، لكنها أيضاً لئيمة...

للكاتب نفسه