بالطائرة، وأما البرّ..
ستة أشهر من الانتظار والاتصالات و "الواسطات" حتى تمكن الشاب من حجز مكان في طائرة متجهة إلى مطار "القامشلي" بعدما دفع ثمن بطاقة السفر ما يعادل 35 دولاراً، ورشى وصلت إلى 100 دولار، لتقريب دورٍ في السفر قد يمتد لشهور. فالضغط على رحلات "القامشلي" تحول إلى سوق سوداء بوجود عدد قليل من الطائرات التي تحوّلت إلى حاملات "هوب هوب" تغصّ بالركاب والبضائع والشهداء والعساكر. وهذه الرحلات تتأخر دائماً عن مواعيدها لأكثر من يومين أو ثلاثة وحتى خمسة أيام أحياناً لأسباب متعددة، ولكنها آمنة، وتستغرق ساعة ونصف مقابل نهار كامل للرحلات البرية ذات الخطورة الأعلى والتكلفة الأقل.
الانطلاق من المطار محكوم بتفتيش قد يتكرّر مرات عدة تبعاً للظروف، ولا بد طبعاً من سؤال الشخص عن سبب سفره والتأكّد منه بشكل دقيق. ولأن عدد الرحلات قليل، يتدخل بعض موظفي المطار بدماثة بطلب تنازل ركاب لديهم أطفال عن مقاعد أطفالهم لأشخاص عندهم حالات طارئة كوفاة أو نقل لعسكري أو "امتحان"(؟)، ويدفع المسافر الجديد ثمن المقعد رسمياً مع عدم استرجاع ما دفعه أهل الطفل.
الرحلات البرية للوصول إلى الحدود التركية عبر مناطق شمال حلب والرقة وإدلب توقفت تماماً منذ اندلاع المعارك وسيطرة داعش على الطرقات هناك. وطريق الساحل الأساسية عبر "كسب" غير متاح بسبب التدقيق على المسافرين، أما الطريق عبر منفذ "الراعي (شمال مدينة "الباب" الحلبية) فقد أغلقته المعارك الدائرة حول "جرابلس" وفيها. في الشهر الماضي اعتقل داعش 12 مواطناً من الرقة بعد وصولهم إلى أطراف المدينة هرباً منها. مصير هؤلاء لم يُعرف حتى الآن، وإن كان يرجّح مقتلهم.
ومع إغلاق طرق مناطق شمال حلب، تركّزت الأنظار على مناطق ريف القامشلي، مثل "عامودا" و "تلّ تمر"، الواقعة تحت السيطرة الكردية، وتحوّلت إلى معابر رئيسية تشهد يومياً عبور عشرات الأشخاص الذين يحاولون الهرب مرات عدة حتى تنجح محاولاتهم.
تجارة وحروب صغيرة
يتولّى هذه التجارة قادة حماية الوحدات الذاتية الكردية، إلى جانب مجموعات من المكوّنات الأخرى بما فيها السريان والعرب. وبين هذه المجموعات حرب ضروس على كل "رأس" يصل المدينة الصغيرة، إذ إن لدى كل جهة "عيونها" التي ترقب الواصلين عبر المطار، والحاضرة دوماً لتزويدهم بأرقام الهاتف السورية والتركية لمهربين في انتظارهم. وعادةً ما يكون الشخص الواصل إلى هناك قد سبق له إجراء اتصالاته لتأمين الجهة التي سوف تساعده في الهرب. لا يمكن لهؤلاء الأشخاص النفاذ من حواجز "اليكتي" (حزب الوحدة الديمقراطي الكردي) دون معونة من شخص نافذ فيها، وعادة ما ينقل الشخص بسيارة أمنية تابعة لهم.
تكلفة العبور تتراوح بين 1300 إلى 1600 دولار أميركي، يدفعها الهارب إلى وسيط زعيم التهريب الذي يكلّف وسطاء آخرين بهذه التجارة، مع مراقبة الوسطاء لبعضهم بعضاً، ولا أحد بالطبع يعرف من هو زعيم التهريب الأساسي، ولكن يرجح أنه كردي يتعامل مع الأسايش والمخابرات الكردية، ويقبض هؤلاء منه. العلاقة بين المهربين سرية ولا يعرفون أية معلومات عن الجهات التي تدير التهريب.
في السيارة التي أقلتهم إلى "عامودا" تعرف عمران على رفاق الهرب، ولكل منهم أسبابه، فهناك شابٌ مطلوب للجيش ولا يستطيع دفع البدل النقدي، وهذه محاولته الأولى، وآخر من بقايا الفرقة 17 وجهه كأحفور مليء بالشظايا لم يبق له رغبة بأي شيء سوى الخروج من البلد بعد رفض تسريحه إلا إذا دفع مبلغاً كبيراً ليس ضمن استطاعته على الرغم من إصابته الشديدة، أما الثالث فمن حمص (وهو في الثانية والاربعين) ويريد تجربة حظّه في الدنيا بعد أن باع بيته ويمّم وجهه صوب المجهول، فقد مات أقرباؤه وأجهضت زوجته. عمران سوف يلتحق بإحدى الجامعات الألمانية.
على الهاربين ومهربيهم انتظار اتصال هاتفي من الداخل التركي يخبرهم بتوقيت العملية، وعلى الهاربين التزام الصمت على الحواجز من القامشلي إلى عامودا، ومن الأخيرة إلى الحدود. لا حقائب، ولا أي شيء قد يسبب إعاقة للعملية. ينظر المهربون إلى الهاربين على أنهم متاع إذ لا يُعطَى هؤلاء أية تفاصيل. لا يهم موقفك السياسي هنا، المهم أن تدفع المال.
أدرك الشاب ذو الوجه الأحفوري أنه لن يتمكّن من إكمال محاولته، فقد رفض الزعيم نقله بسبب عدم قدرته على الجري، وسيعود إلى القامشلي للمرة الخامسة، فيما سيكمل الثلاثة الطريق من نقطة استخبارات الأسايش القريبة من الحدود إلى السياج على دراجات نارية سوف تخفف عليهم مغبة الركض قليلاً، وهذا امتياز لا يُمنح للكثيرين. عند نقطة الأسايش طلبوا الصمت كلياً، ولكن بعد طلب هؤلاء عدم حمل أية حقائب أو أوراق رسمية انفجر الجميع، إذ إن فقدان هذه الوثائق سوف يعقّد الرحلة باتجاه أوروبا.
الشريط الشائك
بعد جدال واحتداد، وافق الأسايش على حمل الهاربين لحقائب الظهر خاصتهم. ركب الجميع على الدراجات النارية إلى أرض زراعية قرب الشريط الشائك بانتظار هاتف السائق التركي الذي سيقلّ الهاربين إلى "قزلتبا" بعد تأمين جانب البوليس التركي. التزامن هنا هو نقطة الفصل إذ لا يمكن التوقف على الأوتوستراد المحاذي للحدود طويلاً وإلا تعرض الهاربون لإطلاق نار فوراً.
يكمل عمران القصة: "أتى الاتصال بعد حوالي نصف ساعة، ركبنا الدراجات وانطلقنا بسرعة على طريق ترابي إلى السياج الحدودي، وعندما وصلنا نزلنا عن الدراجات دون توقفها، تسلقنا سياجاً مرتفعاً حوالي المترين وقفزنا، وبدأنا بالركض مجدداً لنجد أمامنا أربعة أسيجة وأسلاكاً شائكة لم يخبرنا أحد عنها، ولكنها ليست مرتفعة. أحدها كان عريضاً عبرنا من بينه وتشرطت ملابسنا، كانت المسافة حوالي 300 متر مع حواجز قطعناها ركضاً إلى أن دخلنا السيارة المنتظرة بسرعة وانطلقنا إلى كراجات "قزلتبا"، لم نكد نرتح حتى بدأ الشجار، إذ إن المهربين لم يدفعوا للسائق أجرته كما قال بعربية واضحة، لذلك إما أن ندفع مئة دولار أو ينزلنا في منتصف الطريق، لم أكن قادراً على الشجار بعد جولة الركض تلك فدفعت صامتاً، وصل المبلغ في النهاية إلى 1600 دولار.
لا شكّ أن وراء هذه التجارة متنفذيها الكبار، ومن كل الأطراف، الذين ينحصر همّهم في الدولارات التي تتدفق عليهم من وراء عمليات نقل البشر من سوريا إلى تركيا.. ولا أحد يعرف هوية هؤلاء..
يعتبر عمران نفسه من المحظوظين جداً لأنه لم ينتظر كثيراً في القامشلي، ونجح في هروبه من المحاولة الأولى. يقيم الشاب اليوم في إسطنبول منتظراً أن يكمل رحلته إلى أوروبا بعد أسبوعين على الأكثر. فالشتاء قادم ولن تنتظره الجامعة.