جنين: الأرض هي الجسد والجسد هو الأرض

في كل محاولة تُقْدم فيها إسرائيل على تطبيق خطتها الجهنمية لابتلاع ما تبقى من أراضي الضفة، تلتهب كرة مقاومة جديدة وتتدحرج من أعالي جبال نابلس وسلفيت في شمال الضفة الغربية، وحتى المنحدرات والوديان لتصل إلى مستوطنات رام الله والقدس والخليل، وأيضاً: غزة، لتثبت ضرورات الاشتباك وحقيقة وجوده
2023-07-06

محمود زُغْبر

صحافي من غزة، فلسطين


شارك
يزن أبو سلامة - فلسطين

"إنها الحربُ!
قد تثقل القلبَ،
لكن خلفك عار العرب
لا تصالحْ،
ولا تتوخَّ الهرب!"
أمل دنقل – شاعر مصري

عشرة شهداء، وأكثر من مئة جريح بينهم عشرات من الحالات الحرجة، في حين منع الجيش دخول الطواقم الطبية لإسعاف المصابين. نزوح جماعي لآلاف اللاجئين الفلسطينيين الذين أجبرهم جيش الاحتلال الإسرائيلي على إخلاء منازلهم والخروج من المخيم... استهداف الصحافيين، تدمير البنية التحتية للمخيم والطرق، في نحو عشرين غارة، قطع الكهرباء والماء، والتشويش على خطوط الاتصالات. مستشفى "الشهيد خليل سليمان" الحكومي لم يسلم من أذى قنابل الغاز التي أطلقها الجنود الإسرائيليون صوب المحتشدين لتشييع جثامين الشهداء. قناصو الجيش يعتلون المباني السكنية المطلة على الغطاء الأرضي للمدينة. كل ذلك خلال يوم واحد، ولم يتحرك أحد، لكن المقاومة لم تتوقف أيضاً.

أطلقت إسرائيل اسم "بيت وحديقة" على الاقتحام الجديد لمدينة جنين. تسعى سلطات الاحتلال إلى قمع الانتفاضة عبر تركيز الضربات التي تستهدف المقاومين وحواضنهم الاجتماعية والحضرية، تارة في نابلس أو جنين، كما في رام الله والقدس وغزة. تتحول الجرافة إلى آلة عسكرية، تزيل الشوارع من الأرض، ومعها كل ما تهجس بانفجاره في وجه من يقودها.

عن فلسطين والفلسطينيين

كل حدث في جنين، يعيد ما يمكن تسميته بصناعة الوهم ويجدده. تستخدم إسرائيل البروباغندا السياسية والدعاية والموضة والنيران والتدمير والتقانة العسكرية الهائلة والاستعراض. بينما الجسد والمخيم الفلسطينيان يُفدَيان، يضحّى بهما لمنع إسرائيل من محاولاتها تقسيم الضفة الغربية إلى شطرين، تمهيداً للضم. في كل محاولة تُقْدم فيها إسرائيل على تطبيق خطتها الجهنمية لابتلاع ما تبقى من أراضي الضفة، تلتهب كرة مقاومة جديدة وتتدحرج من أعالي جبال نابلس وسلفيت في شمال الضفة الغربية، وحتى المنحدرات والوديان لتصل إلى مستوطنات رام الله والقدس والخليل، وأيضاً غزة، لتثبت ضرورات الاشتباك وحقيقة وجوده.

كان التصدي لاجتياح جنين عام 2002 الملحمة التي لم تنكسر، والتي مهدت لأسطورة فلسطينية حديثة حافظت على اشتعالها في الأذهان حتى في ذروة هزيمتنا الذاتية عام 2007. استمرت المقاومة كنبض دال على الحياة. اعتادت جنين الفقد وبات الحزن خصلة متعارف عليها بين أهلها وأبنائها.

كما في كل مجزرة يُوقّع بجرة قلم على ارتكابها، يتفاخر الرجل محاولاً إنقاذ نفسه، الملطخة يداه بدماء شباب جنين وأطفالها ونسائها بالأمس القريب، ليستكمل اليوم أوامره بقتل عشرة شبان فلسطينيين. يجدد القصف من الجو، قصف أجسادٍ تتسلح برشاش وبحاضنة شعبية. هل يعرف رئيس حكومة إسرائيل أن الذين قام بتصفيتهم ليسوا إلا نذراً يسيراً من بين أولئك الذين رفضوا مهانة الذل، حتى بات حمل السلاح ومقاومة المحتل أمراً عادياً في يوميات الفرد الفلسطيني.

مقالات ذات صلة

يستمر الحصار في حياة كل فلسطيني، الذي أصبح عادة مقرونة بالمقاومة التي لا تنضب، كرسالة سماوية، ليعرف المستعمِر أننا باقون بفلسطينيتنا العنيدة تلك، فيما هو يحاصرنا في آخر بقاع تبقت من مدننا ومخيماتنا. لسنا بحاجة سوى للبقاء، لنكون نقيض اسرائيل في أرض فلسطين. من المعروف كسردية واقعية، أن السلاح مثل أدوات المطبخ، موجود في كل بيت فلسطيني.

تظل المقاومة تتصدى لسردية التهجير. تظل تتآكل الصورة التي بذلت إسرائيل فيها ميزانيات بالغة الضخامة، لتشييدها بشتى وسائل الدعاية والعسكرة. لكنّ الكفاح المسلح ليس وليد اللحظة، لأن المقاومة في فلسطين تمتاز بكونها أماً شرعية لحرب المدن... لأن شباب "عرين الأسود" ينتمون لجيلٍ لا يعرف اسماً لنفسه سوى أبناء "فارس الليل"، وأن الرفاق الشهداء والجرحى والمعتقلين هم الذين أصيبوا وقضوا دفاعاً عن الحارة والمدينة والميادين العامة قبل عشرة أعوام وعشرين عاماً...

كان التصدي لاجتياح جنين عام 2002 الملحمة التي لم تنكسر، ومهدت لأسطورة فلسطينية حديثة، حافظت على اشتعالها في الأذهان حتى في ذروة هزيمتنا الذاتية عام 2007. استمرت المقاومة كنبض دال على الحياة. اعتادت جنين الفقد وبات الحزن خصلة متعارف عليها بين أهلها وأبنائها، خارج ثلاثية الواقع: ما هو ممكن، وما نستطيع، وما هو مسموح.

في فلسطين، لا ينفك يركّز الناس على تجاربهم الشخصية داخل التجربة العامة. يتخلون عن بعض الرومانسيات أحياناً من أجل الحصول على حياة جدية جداً، تثمر عن صنائع تتبدى في الحيز العام المفترض. في العمل المقاوم كما في العمل الزراعي، كلاهما يعْبر مما هو فردي إلى العام، وكلاهما عمل شاق مستهدَف على الدوام من السلطات الأمنية والجمعيات الاستيطانية الإسرائيلية، التي تحظِّر العمل والبناء في النسبة الأكبر من مساحة الضفة الغربية، لارتباط كلّ من المقاومة والزراعة بالأرض، بالثورة وبالإنتاج.

تتقاطع في جنين بنية الواقع مع بنية الحلم، وكذلك فعل الثورة والرفض، كما الحرية والحياة، ليعلنا معاً هزيمة التناقض الذي جاءت به المستوطنة الإسرائيلية، وجيشها العسكري. إنه دمنا، وعلى أرضنا، نرويها به دون التطلع لكثير من الخلود. كأن الأصداء التي تدوي في عمق أفراد جنين تشهد تعدد أسباب الموت، ولكنه في جميع الأحوال "موتٌ واحدٌ"، وحياة واحدة.

ترسم تلك الأصداء كياناً محطماً لعالم آخر صغير خلقته داخل حدودها / الصندوق المغلق الذي تعيش بداخله. بعد أن تُحاط بالدبابات من جميع الاتجاهات وتجثم عليها الثكنات العسكرية، تصبح المقاومة الجزء الأكثر قيمة من العالم، قد تجعلك ترى الموت أيضاً وقد تتعرض الأفكار للإعدام قصفاً من الجو، ومن رمادها تنضج نواة روح تعمل بدماء حية فتتشكل الروح مرة أخرى. تصبح المدينة مشرحة لبتر يد الهزيمة النفسية الجمعية. مسكينة هذه الأجساد. لا زالت المدينة عطشى لدماء الشهداء. في ظروف شديدة التعقيد لا يزال سؤال كيف نامت أم الشهيد في تلك الليلة التي قضى فيها ابنها شهيداً؟ ألهذا السؤال قيمة بعد أن اخترقت السهام القلب؟ يضرب آذان القلب سؤال آخر. هل سينبلج مقام ديني في ضريح ذلك الطفل الشهيد؟ هل سيتخذه الناس جاهاً وشفاءً لعذاباتهم العالقة كإبر صامتة في كل الأجساد؟ 

المقاومة كوسيلة للبقاء

بين الرجال والنساء الفلسطينيين، هناك من يعلّق روحه بخدمة الإنسان وسعيه للتكيف وإمداد قدرته على البقاء. بينما هناك من يدمج نفسه بأقرب أيديولوجيا وقطعة سلاح باردة في محيط أمني ساخن يحبس الأجساد والأرواح على السواء. هل يمكننا سؤال من اضطر لإجراء عملية القلب المفتوح عن وجهة نظره الشخصية تجاه العملية؟ إنها مسألة حياة أو موت. المساحة تتقلص يوماً بعد يوم وتضيق بجيلٍ بعد جيل. نكون على شفا حفرة من الانهيار، فتبدو الرماية للناحية الأخرى خياراً ممكناً. فعل بقاء ليس إلا.

الأسئلة لم تعد عن مقاومة شعبية تنفصل عن المقاومة المسلحة، باعتبارهما كياناً واحداً ونهجاً ذي حاضنة اجتماعية واحدة. تركّز إسرائيل ضرباتها على تلك الحاضنة وتلك القواعد بهدم المنازل والتهجير والاعتقال، ويبقى ما يوحِّد الساحات ومن يروي قصصها، أذرعاً مختلفة للمقاومة الشعبية عبر الفرد. كما يتجاوز الأفراد همومهم الشخصيّة، يتطوعون مسَلِّمين بأن الهم الجماعي بات له من يموت من أجله. لا تستطيع أي حركة دخول التاريخ إلا إذا تجاوز النجاح حياة الفرد أو المجموعات الصغيرة من الأفراد. نجحت حركة المقاومة الشعبية في أن تبقى وتصير، أي: "باقية"، لأن الأفراد القائمين بها يذهبون وهي الباقية بعدهم.

تتقاطع في جنين بنية الواقع مع بنية الحلم، وكذلك فعل الثورة والرفض، كما الحرية والحياة، ليعلنا معاً هزيمة التناقض الذي جاءت به المستوطنة الإسرائيلية، وجيشها العسكري. إنه دمنا، وعلى أرضنا، نرويها به دون التطلع لكثير من الخلود. كأن الأصداء التي تدوي في عمق أفراد جنين تشهد تعدد أسباب الموت، ولكنه في جميع الأحوال "موتٌ واحدٌ"، وحياة واحدة. 

تصبح المدينة مشرحة لبتر يد الهزيمة النفسية الجمعية. مسكينة هذه الأجساد. لا زالت المدينة عطشى لدماء الشهداء. في ظروف شديدة التعقيد، لا يزال سؤال كيف نامت أم الشهيد في تلك الليلة التي قضى فيها ابنها شهيداً؟ ألهذا السؤال قيمة بعد أن اخترقت السهام القلب؟

إنه نضال متفلت من جميع الاعتبارات المأخوذة بالحسبان، والطرق المرسومة بدقة شديدة في الغرف المغلقة. إنه الطريق البديل والملتزم بفكرة الفداء والبناء كخيطين متوازيين لا يتوقفان عن العمل في الاتجاهات الأربعة. إنه نهج يلغي التمثيل الأوسع لإعادة تشكيل المجتمع الفلسطيني، وربط مقومات وجوده الأساسية بارتباطات إقليمية، وفقاً لشرائح اجتماعية-حزبية تمثل كتلاً وازنة في النظام السياسي الفلسطيني المنقسم، حتى بات مصير كل واحدة من تلك الكتل مرتبطاً بالانفصال عن الأخرى، بينما تقاد الكتلتان بنخب سياسية تتبع تمويلاً مشروطاً بما هو معروف وغير معروف.

في جنين، على غرار أي مدينة قررت العيش بكرامة في هذا العالم، تبرز الصيغة التي تشبه اللغز في تركيبة جماعية لمجتمع ينحدر أفراده من جذور لاجئة، عانت ما في اللجوء من قسوة وفاقة لعقود طويلة. العيش في خيمة وزّعتها وكالة الأمم المتحدة، وغرس شرش جديد على الضفة الغربية لنهر الأردن، ومن ثم اقتباس الأجيال لحكايات عن المجد والحرية والإنسانية من جديد، كأسس قيمية شرطية للبقاء. تنبت في حكايات أفراد المجتمع ذكريات طويلة وعوالم وحيوات متنقلة.

لعنة إسرائيل

بعد أن جردت إسرائيل الشعب الفلسطيني من إنسانيته في نكبة عام 1948، ظلت جنين كما غزة، تعاني هاجساً محيّراً عن قدرة إسرائيل على نسج حكايتها بمعزل عن حاجتها لترميم قوة الردع. وبعد ضياع الأرض، تقطعت السبل بجنين التي كانت تربطها طريق بحيفا، حيث الميناء الذي يربطها بالعالم... وباتت جرحاً جامداً ينتظر من يكشف عنه للتنظيف والعلاج.

بعد احتلال إسرائيل لجنين عام 1967، اقتطعت السلطات الإسرائيلية مئة ألف دونم من أراضيها لبناء المستوطنات، كان من ضمنها تسع عشرة قرية لم يتبق منها الآن سوى ثلاث عشرة قرية، بعد التدمير الكامل للقرى الست الأخرى.

في جنين، على غرار أي مدينة قررت العيش بكرامة في هذا العالم، تبرز الصيغة التي تشبه اللغز في تركيبة جماعية لمجتمع ينحدر أفراده من جذور لاجئة، عانت ما في اللجوء من قسوة وفاقة لعقود طويلة.

تلك الجروح الصلبة في أنسجة مجتمع المخيم، ظلت آثارها واضحة في وجوه الرفاق الذين قضوا، ترى أطيافاً لرفاق سبقوهم. في قسمات وجوه من ظلوا بعدهم يحملون الراية، يعبدون الطريق لإعادة تمثيل الهوية، وهي عملية تملك شروطاً خاصة لمن عليه الولوج إليها.

مقالات ذات صلة

العيش في حصار المخيمات في الضفة المحتلة، المكشوفة الظهر لاعتداءات جيش إسرائيل ومستوطنيها، له طابع المرض الفيروسي. مرضٌ يجعل ملايين الناس تتمنى عبور لحظة حياة طبيعية يجدون فيها مكاناً يحتضن أعناقهم آخر الليل، ليستريحوا بعد يوم طويل من الكد في العمل الزراعي بين الجبال، في ظروف تشبه معاناتها معاناة اللجوء الفلسطيني في الشتات.  

مقالات من فلسطين

لا شيء سوى الصمود!

2024-10-03

قبل الصواريخ الإيرانية وبعدها، استمر الاحتلال بارتكاب الفظاعات، ثمّ توعّد بالمزيد. إنها أيام المتغيرات السريعة والخطيرة والصعبة، لكن يبدو أنه في كل هذا، ليس سوى ثابتٍ وحيد: صمود شعوبنا المقهورة.

للكاتب نفسه

بلا عيون في غزة

في زمن الاحتلال من الجو، تُروِّج إسرائيل لصواريخ التعقُّب الإرشادي إسرائيلية الصنع التي يزن واحدها نصف كيلوغراما، بمفهوم "الطَرْق الآمن" على الأسقف. الشظايا الحارقة والمتفجرة والملتهبة تطايرت في كل اتجاه،...