الرواية الرسمية والتاريخ: قصة الدم على جزيرة تيران في حرب 1967

قصة الضابط "يسري العبد"، الشاب المتفوق الذي كرّمه رئيس الجمهورية قبل أن ينطلق ليقود فصيلاً مكوناً من 32 جندياً دوره حماية جزيرة تيران، ويخوض عليها مواجهة خلال حرب حزيران/يونيو 1967 تنتهي بأسره ومن معه وسقوط شهيدين.
2023-06-15

منى سليم

كاتبة وصحافية من مصر


شارك
التيه في الصحراء

لم يخطر على بال ضابط المظلات "محمد عبد الحفيظ"، وهو يتجه إلى مقر جريدة الوفد في هذا الشارع الهادىء في آب/ أغسطس 1998 أنه يقدِّم خدمة ممتدة الأجل للحقيقة والوطن والتاريخ. خدمة تأتي ثمارها بعد ما يقارب العشرين عاماً من طرقه باب رئيس التحرير، وهو يمسك بيده عدد الجريدة صباح ذلك اليوم، وتحديداً الصفحة الرابعة المنشورة فيها الحلقة الخامسة من سلسلة حوارات مع عدد من "ضباط يونيو". هو من طلب اللقاء مع المحاور "عصام دراز" ولم يكن يعرف أنه سيتحدث مع زميل سابق له، فالأخير هو أيضاً ضابط مقاتل سلك طريق الإعلام بعد خروجه من السجن الحربي عام 1970 الذي دخله بعد الهزيمة.

في مقر الجريدة بغرفة صغيرة لا يمكنها مقاومة حرّ آب/ أغسطس، جلس الرجلان في مواجهة بعضهما . "كانت الهزيمة ثقيلة على الجميع"، هكذا بدأ عبد الحفيظ حديثه الذي نُشر فيما بعد في جريدة الوفد. حكى كثيراً عن رحلته مع الحروب، كيف نزف محمولاً على حمار لمدة أربعة أيام بجبال جنوب اليمن عام 1962، وكيف طلب جنود العدو في حزيران/يونيو استبدال عدد من زملائه الأسرى بـ "بطيخ" يتم إرساله عبر قناة السويس من ضفتها الغربية إلى الشرقية: يذهب البطيخ طافياً ويعود الجندي عائماً، أو لا يعود.

صفحات طُويت بعد أن رويت، ثم عادت من جديد، وتحديداً في 16 نيسان/ أبريل 2016 على شكل تدوينة نشرها أستاذ التاريخ بجامعة هارفارد الأمريكية "خالد فهمي" عبر حسابه على موقع فيسبوك، تفاعلًا مع موجة التظاهر السياسي تحت شعار "جمعة الأرض" رفضاً لتنازل الحكومة المصرية عن سيادتها على جزيرتي تيران وصنافير وتسلميهما للجانب السعودي.

اقتبس فهمي من كتاب "هكذا تحدث ضباط يونيو" (1) لعصام دراز مقتطَفاً يحكي فيه المقاتل "محمد عبد الحفيظ" عن فصيلة جزيرة تيران: "صدر أمر بالإنسحاب في تمام السادسة مساء يوم 6 حزيران/ يونيو، وخلال تواصلنا مع القيادة، أثير موقف الفصيلة الموجودة في تيران، فالوقت كان ليلاً ولا يمكن سحبها بطائرة الهليكوبتر ولا يمكن الاتصال بها لأن الاتصال يتم بواسطة الطائرة صباحاً". قال لنا القائد "هذا الموضوع سنتركه للقيادة في مصر، فأوامر الانسحاب هي الانسحاب الفوري والقيادة في مصر هتتصرف وترسل مركب صيادين يحملهم". يكمل عبد الحفيظ": في اليوم التالي لانسحابنا وصل مركب صيادين إلى الجزيرة لحملهم، ولكن لأن قائد هذه الفصيلة لم تكن لديه أية فكرة عن تطور الأحداث، قرر الاتجاه إلى شرم الشيخ بدلاً من الغردقة، وذلك ليعرف آخر التطورات. وبالطبع لم تكن لنا أية قوات في شرم الشيخ بعد انسحابنا منها، والذي حدث أنه وقع في أسر القوات الإسرائيلية هو وفصيلته بالكامل وكذلك مركب الصيادين.

التقط فهمي القصة المذكورة في الكتاب وربط بينها وبين صورة شهيرة يتم استخدامها دوماً للإشارة إلى أسرى مصر عام 1967.

نقلة في الزمن

على مدار عام، استمرت المواجهات في ساحات المحاكم والبرلمان وبعض شاشات التلفزة، والأهم، هو ما تيسر من نزول للتظاهر بالشوارع. وتعالت وتيرة التحدي والصدام بين وجهتي نظر، الأولى هي تلك التي يرويها المعارضون ممن رأوا في موقفهم في تلك اللحظة تعبيراً عن قيم وثوابت وطنية تتعلق بالحق والسيادة وكذلك تجسيداً لرؤية شعبية لا ترى طريقها إلى النور في ظل أجواء تقييد الحريات والثانية هي الرواية الرسمية التي تدفع بالقول إن تنازل السلطة عن الجزيرتين هو أمر صحيح قانونياً وسياسياً وأخلاقياً ولا يستقيم معه توجيه اتهامات بالتفريط، والادعاء أن هذه الخطوة في الأصل هي مطلب إسرائيلي يهدف إلى تدويلمضيق تيران والقضاء على سلطة مصر على مياهها الإقليمية.

أنظر إلى ما انتهتْ إليه الأمور بعد خمس سنوات، حيث مُرِّرت اتفاقية التنازل بموافقة أغلبية أعضاء البرلمان، إلا من وقفوا ليهتفوا "مصرية.. مصرية". أنظر إلى مدى التذبذب والاضطراب الذي يلوح في أفق العلاقات المصرية السعودية، فلم تعد هناك معلومة واضحة عما إذا كانت الجزر الآن قد سلمت فعلاً؟ أم أن الأمر مرتهِن باتفاقات ما ووعود لم تتحقق بعد؟

وما بين هذا وذلك، أصبح "حق الدم" لافتة عظمى، سال حولها ـ من غير منطق ـ اللغط والتأويل، فدفعت السلطة المصرية عبر منافذ مختلفة برواية مكررة عنوانها لم يُرَق دم مصري فوق الجزيرة، جاءت تارة على لسان ممثل القوات المسلحة، وتارة أخرى في كتيب رسمي صادر عن مجلس الوزراء بعنوان 39 سؤالاً حول جزيرتي تيران وصنافير.

وعلى الرغم من كونها قاعدة بديهية تقول إن كل ما سال من دماء كان دفاعاً عن كل الأرض، بالإضافة إلى الأهمية الاستراتيجية لموقع الجزيرتين في كل تحرك عسكري بين مصر وإسرائيل، فإن هذا الاهتمام الرسمي بنفي حق الدم باعتباره الدافع الرئيس لمشاعر الرافضين، دفع كثيرين إلى محركات البحث والتدقيق لكشف تفاصيل ما جرى.

قصة تحقيق

كانت لي ـــ أنا كاتبة هذا النص ـــ تجربة مماثلة في هذا المسار رأت النور قبل أن يخفيها الحَجب والشطب اللذان يلاحقان المنصات الصحافية في مصر. فعلى مدار عام حاولتُ اقتفاء أثر ما جاء في تدوينة المؤرخ، والتقصي حول ما هو مختَلف حوله من معلومات، وانتهى الأمر بنشر تحقيق صحافي، عاد خالد فهمي ليكتب عنه مرة أخرى بعد عام من تدوينته، فقال :"وفي تحقيق صحافي متميّز استطاعت منى سليم، الصحافية في "موقع مدد" أن تصل إلى بعض أفراد هذه الفصيلة وأن تتحدث إليهم. وكان من أهم ما ورد في تقريرها الكلمات التالية: حسب شهادة من استمعنا إليهم، فإن اشتباكاً تم بين الفصيلة التي لا يزيد عددها عن 32 جندياً وضابط ملازم، وقوة عسكرية [إسرائيلية] واسعة، كانت تستهدف كافة قوات سلاح المظلات المصرية التي تمّ رصدها عبر طائرات استطلاع في أيام سابقة. ولم يكن ليمر [الإسرائيليون] إلا عبر تلك الجزيرة، لم يكن ليمروا إلا عبوراً على جسد أفراد تلك الفصيلة، وهو ما حدث. ووقع اشتباك استمر لساعة كاملة، ساعة كانت كفيلة بخلق مدىً زمنياً مناسباً لسلاح المظلات المصري [الموجود في شرم الشيخ] للانسحاب، ودفعت الثمن بالمقابل عن قناعة بحتمية القتال والمواجهة. هذه الفصيلة التي تم إغراق زورقها الأخير، استشهد ثلاثة من جنودها وسحب الباقون ومعهم قائدهم الضابط الشاب إلى شرم الشيخ".

استمرت المواجهات في ساحات المحاكم والبرلمان وشاشات التلفزة، وما تيسر من نزول للتظاهر بالشوارع. وتعالت وتيرة التحدي والصدام بين وجهتي نظر، الأولى هي تلك التي تعبر عن قيم وثوابت وطنية تتعلق بالحق والسيادة، والثانية تقول إن تنازل السلطة عن الجزيرتين هو أمر صحيح قانونياً وسياسياً وأخلاقياً وليس تفريطاً وأن الخطوة هي مطلب إسرائيلي يهدف إلى تدويل مضيق تيران.

أصبح "حق الدم" لافتة عظمى، سال حولها اللغط والتأويل، فدفعت السلطة المصرية عبر منافذ مختلفة برواية مكررة عنوانها لم يُرَق دم مصري فوق الجزيرة، جاءت تارة على لسان ممثل القوات المسلحة، وتارة أخرى في كتيب رسمي صادر عن مجلس الوزراء بعنوان 39 سؤالاً حول جزيرتي تيران وصنافير. 

هذا التحقيق قمت بنشره شاملاً بعد عدد من اللقاءات المسجلة والمرئية في حزيران/يونيو عام 2017 على منصة "مدد"، وعبر قناتها على "يوتيوب" قبل حجب الموقع تماماً عقب نشر التحقيق الصحافي بساعات، ثم فقدان المنصة ككل بسبب تعقيدات إلكترونية بعد ذلك بما يقارب العام.

أنظر إلى كلماته الآن عما بذلتُ، وعما سبقني إليه غيري - وفاق جهدي - في المحاكم و البرلمان وساحات المواجهة والكتابة. أنظر إلى ما انتهتْ إليه الأمور سياسياً بعد خمس سنوات، حيث تمّ تمرير اتفاقية التنازل بموافقة أغلبية أعضاء البرلمان، إلا من رحم ربي ممن وقفوا ليهتفوا "مصرية.. مصرية". أنظر إلى مدى التذبذب والاضطراب الذي يلوح في أفق العلاقات المصرية السعودية، فلم تعد هناك معلومة واضحة عما إذا كانت الجزر الآن قد سلمت فعلاً؟ أم أن الأمر مرتهِن باتفاقات ما ووعود لم تتحقق بعد؟

إنها السياسة التي هدأت بعض موجاتها فوق السطح بينما لا زالت تفاعلاتها حول تلك القضية، المتعلقة بالأمن القومي العربي كله - لا المصري وحده - تفور في الأعماق. أما التاريخ، فوفق تقاليده الراسخة، يمضي بطريقه وطريقته الخاصة، رغماً عن أي توازنات وحسابات، وقهراً لها، وضد ترجيح رواية طرف على آخر مهما امتدت عبر السنوات.

وعليه، قررتُ أن أعود لأكتب عما حصدت، علًه يوماً يفيد. أكتب عن رحلتي التي بدأت من تلك الصورة ذاتها التي نشرها أستاذ التاريخ، وقالت منابر السلطة إنها لا علاقة لها على الإطلاق بجزيرة تيران.

الصورة والمؤرخ

عبر محركات البحث توصلنا إلى عودة ملكية تلك الصورة المنشورة إلى وكالة" Getty keyston". وقد نشرت على موقعها مع شرح مختصر، جاء فيه" 12 يونيو 1967: سجناء عرب في القلعة المصرية المسيطِرة على مضيق تيران، بعد أن استولت عليها القوات الإسرائيلية عقب حرب الأيام الستة في الشرق الأوسط".

كان عليَّ أن أفكر في باقي أبطال القصة المروية، المُحاوِر والضابط والقائد والأسرى من تلك الفصيلة، ولكني بدأت بمزيد من الاستماع عبر سكايب لأستاذ التاريخ المهتم بتوثيق الواقعة.

• الحوار كاملاً مع خالد فهمي عن أسرى جزيرة تيران .. للاطلاع اضغط هنا

المُحاوِر

بدأتُ رحلة البحث بالوصول إلى منزل الإعلامي عصام دراز. رجل في السبعين من عمره، لديه همة ونشاط واسعان، ولكن علاقته بعالم الإنترنت محدودة، وبطبيعة الحال لم يكن يعرف شيئاً عما كتبه فهمي. انهالت عليه الذكريات، أمسك في يده ثلاث نسخ هي كل ما يزال فى حوزته من كتابه، منحني إحداها.

غلاف الكتاب

كان أول ما أخبرنا به أنْ قال:"الله يرحمك يا عبد الحفيظ". وهكذا علمت أني فقدتُ المحطة الثانية! سألته:

- وماذا عن "الضابط حرب" المسؤول عن فصيلة تيران؟ ألم تحاول الوصول إليه؟

- المعلومة الوحيدة التي توافرت لدي وقتها أن الاسم قد يكون غير صحيح وأن عبد الحفيظ قد خلط بين الضابط المسؤول عن تأمين تيران عام 1965 ويدعى "طلعت حرب" وبين ضابط صغير حديث التخرج كان في تيران في1967 .

• الحوار الكامل مع الإعلامي عصام دراز، مؤلف كتاب "ضباط يونيو يتحدثون" . للاطلاع اضغط هنا

القائد

تمكنتُ بعد محاولات عدة من الوصول إلى منزل الفريق "عبد المنعم خليل"، قائد قوات المظلات المصرية في حرب حزيران، وقائد الجيش الثاني في حرب تشرين. زرته وهو على مشارف عامه التسعين. كان عقله حاضراً وبقوة، وأهداني هو الآخر كتاباً، هو مذكراته حول حياته الحربية (2).

وفي الصفحة 146 منه وجدت ضالتي. ذكر الرجل الواقعة ذاتها بالتفصيل، قال: "صدرت إليّ أوامر شخصية من المشير عامر باستطلاع جزيرة تيران ووضع دورية لها للإنذار والمراقبة، وتمّ استطلاعي للجزيرة واختيار أمكنة للاستطلاع والمراقبة، وتعيين دورية ثابتة بقيادة ضابط، وتمّ نقلها بطائرة هليكوبتر واحتلت مواقعها ومعها تكديسات إداراية. ولكن المشكلة كانت في استمرار إمدادها جواً لأن الطائرة الوحيدة للتحرك والاستطلاع تصلنا من الغردقة عبر خليج السويس والبحر الأحمر، ولم تكن منتظمة، أما الإمداد البحري فكان لا يقل صعوبة لأن اللانشات البحرية، وحتى قوارب الصيد المستخدَمة لأعمال المراقبة والإنذار لم تتمكن من الوصول إليهم لشدة الأمواج والتيارات وكثرة الصخور حول الجزيرة.

ولما صدر إلي أمر بالانسحاب لم أستطع إنقاذهم لعدم وصول طائرة الهليكوبتر منذ يوم 4 يونيو 1967، ولم تستطع أي من اللانشات البحرية أو مراكب الصيد الاقتراب منهم والوصول إلى شاطىء الجزيرة. وأخبرتُ القيادة العامة بفشل إنقاذهم وإعادتهم. وللأسف وقعوا جميعاً في الأسر بعد انسحابي من المنطقة.

أخبرتني القيادة المصرية أنها أعلمتْ الطرف السعودي أنها خلّفت أبناءها على الجزيرة وتحتاج منهم إلى سحب الفصيلة إلى أرضها لنقلهم قبل وصول الإسرائيليين إليهم، ولكنهم لم ينقلوهم".

في حواري معه، لم يكن المميَّز هو المعلومات المذكورة بالفعل في الكتاب، ولكنه تلك الروح التي تحدث بها عن قرار اتخذه قبل خمسين عاماً، بحق فصيلة صغيرة لا يتخطى تكوينها ضابطاً وثلاثين جندياً. وقد سجّل معنا عبر هذا الحوار رسالة اعتذار تمنى أن تصل، في حياته أو بعد رحيله، إلى كل من كان فوق جزيرة تيران. قال: "اضطريت للانسحاب بدونهم، أتمنى لو يصل لهم كلامي هذا. لم تكن لدي معلومات كافية عن كل من كان على سطح تلك الجزيرة، لم أكن أعرف جيداً هذا الضابط الشاب، وكان علي أن أعرف عنوان بيته وأذهب بعد علمي بعودته من الأسر للاطمئنان عليه، لكني لم أفعل وسط ظروف الحرب، وأقول له عذراً.. أنا غلطت معلش.. وأتمنى لو أقدر أقابله هو أو أي من الجنود اللي كانوا على الجزيرة".

لم يكن يتذكر تحديداً اسم الضابط لكنه منحنا خيطاً جديداً مهمّاً في تلك الرحلة، وهو رتبة ذلك الضابط وترتيبه داخل دفعته: قال : "كان ملازم أول، متخرج حديث من الدفعات الأخيرة التى تمّ تخريجها قبل الحرب، وكان أول دفعته وكرمه رئيس الجمهورية".

• الحوار الكامل مع الفريق عبد المنعم خليل قائد سلاح المظلات في الجيش المصري حول أسرى جزيرة تيران في حرب حزيران. للاطلاع اضغط هنا

أرشيف ووثائق

في أرشيف جريدة الأهرام لعام 1968، كانت رحلة جديدة للبحث عن أية معلومات بأعداد شباط/ فبراير وآذار/ مارس 1968 حول عودة الأسرى، وعن قائمة بأسمائهم. لكن شيئاً من هذا لم يكن مذكوراً، هل الخطأ في تحديد التاريخ؟ في اسم الجريدة؟ هل يمكن أن يكونوا عادوا إلى الوطن من غير أي مانشيت صحافي أو سطر صغير في متن خبر؟ إنه غالباً ـ وللأسف ـ الاحتمال الأخير.

في حواري مع الفريق عبد المنعم خليل، لم يكن المميَّز هو المعلومات المذكورة بالفعل في الكتاب، ولكن تلك الروح التي تحدّثَ بها عن قرار اتخذه قبل خمسين عاماً، بحق فصيلة صغيرة لا يتخطى تكوينها ضابطاً وثلاثين جندياً. وقد سجّل معنا عبر هذا الحوار رسالة اعتذار تمنى أن تصل، في حياته أو بعد رحيله، إلى كل من كان فوق جزيرة تيران.

قال: "اضطريت للانسحاب بدونهم، أتمنى لو يصل لهم كلامي هذا. لم تكن لدي معلومات كافية، لم أكن أعرف جيداً هذا الضابط الشاب، وكان علي أن أعرف عنوان بيته وأذهب بعد علمي بعودته من الأسر للاطمئنان عليه، لكني لم أفعل وسط ظروف الحرب، وأقول له عذراً.. أنا غلطت معلش، وأتمنى لو أقدر أقابله هو أو أي من الجنود اللي كانوا على الجزيرة". 

"عدنا في شباط/ فبراير 1968، وتم احتجازنا داخل الكلية الحربية لمدة أيام طويلة ولم يتم إخبار أهلنا، فقد أُخْضعنا لتحقيقات لمعرفة ما جرى معنا خلال تلك الفترة، تخوفاً من أن يكون قد جنِّد أي من الضباط". هكذا تحدث الضابط المهندس "محمد حسين يونس" في روايته الشهيرة الصادرة عام 2001 "خطوات على الأرض المحبوسة" (3) عن تجربته في الأسر عام 1967.

تواصلتُ معه:

- هل تتذكر ذلك الضابط الشاب الذي تم أسره من فوق جزيرة تيران؟

- كنا حوالي 400 ضابط وتم تفريقنا حتى لا نتمكن من تقديم الدعم النفسي لبعضنا بعضا.

لعل في إجابته، وما كتبه عبر روايته التوثيقية، دلالة أخرى ذات أهمية حول كيف يُدار التعامل مع الوقائع الكبرى في بلادنا حين وقوعها، وما يتركه هذا من أثر على كتابة التاريخ.

في أرشيف جريدة الأهرام لعام 1968، كانت رحلة جديدة للبحث عن أية معلومات حول عودة الأسرى، وعن قائمة بأسمائهم. لكن شيئاً من هذا لم يكن مذكوراً. هل الخطأ في تحديد التاريخ؟ في اسم الجريدة؟ هل يمكن أن يكونوا عادوا إلى الوطن من غير أي مانشيت صحافي أو سطر صغير في متن خبر؟ إنه غالباً ـ وللأسف ـ الاحتمال الأخير. 

ففي مقابل روايته، وما لاقيته بالتأكيد من رفض وتعنت حين حاولتُ الإطلاع على وثائق رسمية، وجدتُ باللغة الإنجليزية وبالعبرية أرشيفاً كاملاً حول كل ما تم نشره صحافياً آنذاك داخل إسرائيل، وكذلك عرضاً لجدول زمني تفصيلي لتحركات جيشهم داخل سيناء والتي توضح أنه تم الوصول إلى جزيرة تيران والقبض على من داخلها في تمام الثانية عشرة والربع ظهر يوم السادس من حزيران/ يونيو 1967.

• للاطلاع على الجدول الزمني لحرب الأيام الستة وفق الرواية الصهيونية: اضغط هنا

الأسير

بشكل ودي، سعيتُ إلى رفاق هذا الضابط القدامى، وتحديداً الدفعات التي تخرجت في الكلية الحربية المصرية في الفترة من 1963- 1966 فتوصلت أخيراً بالاسم المطلوب، وهو اللواء المتقاعد "يسري العبد"، أول الدفعة رقم 48 لسنة 1966. لم نخرج بالاسم وحده، ولكن الخبر الأهم أنه لا زال على قيد الحياة ويتمتع بصحة جيدة.

وفي ظل سنة الاحتدام حول قضية التنازل عن الجزيرتين، وما تلاها ولا زال يسري حتى الآن من أجواء مقيِّدة لحرية التعبير ومعاقِبة عليها، فإن الاتصالات المباشرة وغير المباشرة التي قمتُ بها لم تكن ـ جميعها ـ مسجّلة، كما لا يمكن الإفصاح عنها، لكني وفقاً لها استطعتُ جمع خيوط الرواية التي تبقى محل تأويل أوتشكيك حتى يقرر أيٌّ من أصحابها (أعضاء الفصيلة) سردها وتوثيقها.

في مقابل ما لاقيته من رفض وتعنت حين حاولتُ الإطلاع على وثائق رسمية، وجدتُ باللغة الإنجليزية وبالعبرية أرشيفاً كاملاً حول كل ما نُشر صحافياً آنذاك داخل إسرائيل، وكذلك عرضاً لجدول زمني تفصيلي لتحركات جيشهم داخل سيناء والتي توضح أنهم وصلوا إلى جزيرة تيران وقبضوا على من داخلها في تمام الثانية عشرة والربع ظهر يوم السادس من حزيران/ يونيو 1967.

تُوثِّق الرواية أن اشتباكاً دار لمدة ساعة على أرض "جزيرة تيران"، انتهى باستشهاد جنديين ووقوع الجميع في الأسر لمدة تسعة أشهر كاملة. وقائد سلاح المظلات عام 1967 يقول أن القيادة المصرية أخطرت السعودية بوجود الفصيل على جزيرة تيران قبل وصول الإسرائيليين.. ولكن الرياض لم تنقلهم. 

تلك الرواية تؤكد، كما أسلفنا، أن الأمر لم يتعلق فقط بانسحاب في الاتجاه الخاطىء إلى شرم الشيخ بدلاً من الغردقة، وقد نتج عنه وقوع الفصيلة كاملة في الأسر، ولكنها توثق اشتباكاً دار لمدة ساعة على أرض "جزيرة تيران"، انتهى باستشهاد جنديين ووقوع الجميع في الأسر لمدة تسعة أشهر كاملة.

***

قبيل رحيله، اختار الضابط المقاتل "عبد الحفيظ" أن يدلي بشهادة أحيتْ معها الكثير بعد عشرين عاماً، فلعل غيره يعود ليروي يوماً ما. وإلى ذلك الحين، أُفضّل أن أنهي كتابتي بما قاله ذلك المقاتل الراوي عند وصفه اللحظات الفارقة قبيل اندلاع حرب حزيران/ يونيو 1967. قال: "كان عملنا هو تحسين المواقع والانتظار". لعل هذا هو الحد الأدنى الذي يجب أن يُلزِم الجميع نفسه به، حسب موقعهم من هذا الصراع.

______________________

روابط متصلة

- «الوزراء» يجيب عن 39 سؤالاً حول «تيران وصنافير» | PDF (scribd.com)
- ممثل القوات المسلحة في جلسة "تيران وصنافير": "إحنا بنأذن في مالطا" (alwafd.news)
- تيران وصنافير مصرية – خالد فهمي (khaledfahmy.org)
- هزيمة يونيو المستمرة (٨): بحق الدم، تيران وصنافير مصرية – خالد فهمي (khaledfahmy.org)
- الجدول الزمني الصهيوني حول حرب حزيران
Timeline | The Six-Day War (sixdaywar.org)
- صورة أسرى تيران من وكالة Getty العالمية
Arab prisoners at the Egyptian fortress controlling the strait at... News Photo Getty Images

______________________

1- الصادر عام 1998 عن دار المنار للنشر، في مصر. 
2- الصادر عام 1998 عن دار الشروق، مصر.   
3- "دار المستقبل العربي"، مكتبة إلكترونية تنشر كتباً للتحميل المجاني وهذا الكتاب أُنشئ في عام 2010. 

مقالات من مصر

ثمانون: من يقوى على ذلك؟

إليكم الدكتورة ليلى سويف، عالمة الرياضيات المصرية بالأصالة، البريطانية بالولادة، على صقيع رصيف وزارة الخارجية في لندن، تُعدُّ بالطباشير – ككل المساجين - أيام اضرابها.

في مصر يمكنك فقط الاختيار بين سجن صغير وآخر أكبر

إيمان عوف 2024-12-09

تحوّل القانون رقم (73) لسنة 2021، الذي يتيح فصل الموظفين المتعاطين للمخدرات، إلى أداة لملاحقة العمال والنشطاء النقابيين العماليين، والنشطاء السياسيين والصحافيين. وعلى الرغم من اعتراض النقابات والجهات الحقوقية على...

للكاتب نفسه

عيش.. حرية.. إلغاء الاتفاقية!

منى سليم 2024-03-29

هل يستقيم ألا تغيِّر الحرب على غزة موازين الأرض؟ أو لا يصير الى صياغة برنامج سياسي مصري ينطلق من إلغاء هذه معاهدة كامب ديفيد، وأن يكون ذلك ركيزة للتغيير الجذري...