ماكينة النموّ السكاني
هؤلاء الشباب العراقيين المولودين في سنوات الحصار، يُعَدّون الركيزة الأساسية للنمو السكّاني الكبير والذي يصل لنحو 3 في المئة سنوياً، وهذه ظلّت على حالها منذ نحو 5 عقود رغم مرور العراق بحروب طاحنة وقمع عسكري وحصارات دوليّة. كان "القائد الضرورة" صدّام حسين أوّل المشجّعين على وفرة السكّان، بالرغم من أنّه، على العكس مما كان في مطالع السبعينيات، لا يملك أية خطط لمستقبلهم. كانت حروبه كفيلة بتحويل الرجال منهم إلى حطب على جبهاتها الداخليّة والخارجية، بينما "الماجدات" من النسوة (لقب أطلقه صدام على العراقيات، وتحديداً النساء اللواتي كن يستجبن لدعواته في التضحية بأبنائهن وحليهن)، فيكتفي نظامه بتعويضهن بقطع أراضٍ إبان حرب الثمانينيات. أمّا الأيتام، فلا شيء لهم سوى العمل بسنٍّ مبكرة وترك مقاعد الدراسة إبان عقد التسعينيات.
اليوم، ومع بلوغ 36 مليون نسمة في آخر إحصائية صادرة عن وزارة التخطيط الشهر الفائت، نتيجة استمرار السياسة ذاتها (أو بالأحرى غياب سياسة تخطيط)، بل وعودة المجتمع إلى نظام ما قبل الدولة، فإن العراقيين سيزدادون مليون نسمة سنويًّا. وتقدّر الأمم المتحدة أن يبلغوا في عام 2020 حوالي 42 مليون نسمة.
وقد بدأ غياب سياسة تخطيط حكومية لمقابلة هذا الازدياد السكاني يظهر جلياً على أرض الواقع، خصوصاً في الحيّز المديني، حيث بلغت نسبة السكان الحضر وفقاً لهذه الإحصائية 70 في المئة مقابل 30 في المئة للريف. هذا التباين أحال بغداد التي يقدّر عدد سكانها بأكثر من 8 ملايين نسمة، إلى كتلة خرسانية، إذ ما فتئت تُردم حدائق المنازل وتحلّ محلّها بيوتات صغيرة، كما زحف السكّان على الأراضي الزراعية في أطراف العاصمة لتصبح وحدات سكنيّة عشوائية بعد أن عصفت بهم أزمة السكن. وتسبّب كل هذا بانحسار المساحات الخضراء في العاصمة حيث بلغت حوالي 0.49 متراً مربعاً للفرد الواحد وفقاً لبحث أجرته جامعة بغداد.
مجتمع فتي وانحدار اقتصادي واجتماعي
أما السمّة الطاغية للمجتمع العراقي وفقاً لهذه الإحصائية فهي فتوّته وشدّة ساعده، إذا بلغت شريحة مَن هم دون الخامسة حوالي 15 في المئة، ومَن هم بعمر 5 ـ 14 سنة 25 في المئة، أمّا نسبة السكّان في سن العمل أي من هم بين 15 ـ 64 سنة فهم الأغلبية ويشكلون 57 في المئة! الرقم الأخير تحديداً، أي نسبة مَن هم أهل للعمل، بات موضع تغنٍّ لدى السياسيين في المؤتمرات الصحافيّة للتدليل على فتوة "مجتمعهم"، في وقت لا يذكر هؤلاء واقع البطالة البائس فيسكتون عن أرقامها ونسبها التي بلغت حوالي 28 في المئة. وهي نسبة مرشحة للتفاقم في ظل غياب أيّة خطط لخلق فرص عمل وتنويع مصادر الداخل، بدلاً من الاعتماد الكلي على ريع النفط لتسيير الشؤون المالية للبلاد.
أما اجتماعياً فلا يبدو الحلّ يسيراً، في ظل انشغال المجتمع بقضية العنوسة عوضاً عن التفاته إلى الأزمات المتفاقمة في ظلّ النمو المتزايد. إذ رأى كُثُر أن من شأن الإحصائية الأخيرة والتي تشير إلى ارتفاع نسبة الذكور (50.5 في المئة مقابل نسبة الإناث البالغة 49.5 في المئة)، أن تطرد شبح العنوسة المتزايد في المجتمع العراقي وفقاً لإحصائيات سابقة، والتي جرت نكات عديدة بشأنها (صدّقها الكثير من الرجال والنساء)، من بينها إصدار قانون يجبر الرجل على جمع امرأتين!
علاوة على كل هذا، فليس هناك خطط، سواء حكومية أو غيرها، لحثّ العراقيين على تحديد النسل، لكون هذا الأمر يتنافى مع "الشرع" الذي يستغله رجال دين ويعيدون تفسيره في كل مناسبة ليزيدوا من تجهيل المجتمع والسيطرة عليه بقوّة الخطاب. وهناك أيضاً الأعراف العشائرية التي تشجع على إنجاب المزيد من الأبناء لتحظى العشائر بعدد كبير يؤهلها لتكون قوّة ضاربة مقابل العشائر الأخرى. وهاتان المنظومتان، الشرعية والعُرْفيّة، تستغلّهما أحزاب الإسلام السياسي كحائط صدّ نتيجة لتغوّل فسادها وثرائها وفشلها. والمنظومتان، مرّة أخرى، تشكلان رافعة تلك الأحزاب للصعود إلى السلطة في كل انتخابات.
نظام "الهشاشة"
كيف سينجو العراقيون من بؤسٍ ينتظرهم في السنوات أو العقود المقبلة؟ البؤس قائم اليوم على أيّة حال. فوسط الوفرة الماليّة التي حقّقها ويحقّقها النفط، تصف الأمم المتحدة الأمن الغذائي في العراق بـ "الهشاشة"، حيث يعاني حوالي 5.7 في المئة من سكان العراق من الحرمان من الغذاء، يُضاف إليهم 4 ملايين عراقي آخرين معرضين لانعدام الأمن الغذائي. أما الأطفال فقد زادت هشاشتهم إذ يعاني 8.5 في المئة ممن هم تحت سن الخامسة من نقص الوزن، وأيضاً كل أربعة أطفال من توقف النمو البدني والفكري بسبب نقص التغذية المزمن. وفئة الأطفال هذه، التي يجب أن تُعَدّ لسوق العمل خلال ما يربو عن العقد، عليها أن تمرّ بمراحل بؤس التعليم التي مرّ بها الجيل الذي سبقها، وهو القطاع الذي يعاني نقصاً يقدّر بتسعة آلاف مدرسة، فضلاً عن نقص الأساتذة وعدم كفاءة الكثير منهم.
وإذا الأحزاب السياسية الماسكة بزمام السلطة قد فشلت بإنشاء البنيّة التحتيّة، من مستشفيات ومدارس وجامعات وخدمات مثل الكهرباء والصرف الصحي والطرق والجسور والسكن اللائق - وهي التي تعدّ أهم المراحل التي يجب أن تتساوق مع ارتفاع النمو السكاني - بسبب نهب أموالها، وتحويلها إلى مشاريع "فضائية" (وهمية) لا تتعدّى حدود التعاقدات، فإن الأزمة الغذائية والبيئية التي تواجه النمو السكاني تبدو أكثر عمقاً. فبالرغم من امتلاك العراق نهرين هما دجلة والفرات علاوة على مساحة أرض تقدّر بحوالي 48 مليون متر صالحة للزراعة، فإن 60 - 70 في المئة من استهلاك العراقيين للخضار يستورد من الدول المجاورة. والاعتماد على الاستيراد، علاوة على غياب اتفاقيات مائية (النهران مهددان بانخفاض مناسيب المياه بشكل مرعب)، وخطط لتنمية الزارعة، يهدّد 97 في المئة من الأراضي العراقية بالتصحّر.
في المحصّلة، هذه الإحصائيات الصادرة عن الحكومات العراقيّة المتعاقبة والمنظمات الدوليّة، تكشف، من جملة ما تكشفه، أن السلطة التي تحكم البلاد اليوم لا تعمل إلا على اقتياد المجتمع إلى مجاهل المستقبل وبؤسه. والصحة والتعليم والعمل، هي عماد الأنظمة الديمقراطية، وليس صناديق الاقتراع، كما تحاول الأحزاب العراقيّة اليوم تفسيرها. الأوليغارشية التي تحكم العراق اليوم لا تستغل النمو السكّاني لإعادة إنتاج "سكان فائضين عن الحاجة" كيد عاملة رخيصة (مثلما هو القانون الرأسمالي) ويكتفون بكفاف يومهم، وإنما تتركهم للبؤس والهلاك.