تدور حكاية شعبيّة حول رجل ذهب إلى الصيد فواجهته سعلاة. ارتبك، إلا أنّها ارتبكت منه أكثر وأخذت تتحرّك كيفما تحرّك. حرّك يده ففعلت، رفعها قلّدته، ومن أجل التخلّص منها وضع نفطاً على جسده، فبلّلت جسدها هي أيضاً بالنفط غير أنّها استعجلت وأحرقت نفسها، وظلّ هو سالماً. في عراق اليوم يبدو أن السعلاة والصياد كليهما سيحرقان نفسيهما. فالأحزاب السياسية الممسكة بزمام السلطة يجرّها طمعها إلى إظهار خلافاتها علناً. لم يُعد التفاهم بينها ماثلاً كما كان في السابق، ولم تعد صفقات الفساد موزّعة كحصص، إذ صار كلّ حزب يحاول التعدّي على حصّة الحزب الآخر. وأخذ هذا يظهر للعراقيين في جلسات علنيّة في البرلمان أو حوارات تلفزيونية متشنّجة، وكمسلسل لا نهاية له، صيّرت فيه العراق كبقرة تتعارك الأحزاب في ما بينها على الإمساك بضرعها، بينما لا أحد يرتّب مكان عيشها ولا حتّى يسأل عن حصّتها أو قُوتها.
استهتار أبناء المسؤولين
في عام 2013، وفي محاولة منه للحديث عن نزاهة ولده المتّهم بصفقات فساد، بدا نوري المالكي، رئيس الوزراء السابق، مزهوًّا وفخوراً وهو يتحدّث عن أحمد الذي قام بعمل «بطولي» بالقبض على أحد رجال الأعمال داخل المنطقة الخضراء المحصّنة، بعدما ظلَّ هذا الأخير ينفد من قرارات القضاء ومن مذكرات إلقاء القبض بالرشى التي ترتّبت عليه بسبب عدم تسديده للديون المستحقّة عليه من قبل المؤسسات الحكوميّة.
لم يكن أحمد حينها يملك أيّ منصب رسمي، وتعكّز بذلك على منصب والده - أو مناصبه التي كانت تتعدّى الستّة - يديرها بالوكالة بعدما بقيت شاغرة من الوزراء بسبب الخلافات السياسية. وفي تنفيذ عمليّة الدهم ذاتها، وعلى العكس مما أشاع المالكي بأن نجله كان يريد فرض القانون، اتضح لاحقاً أن رجل الأعمال شريك أحمد في عدد من صفقات الفساد، و «العمل البطولي» الذي روّج له المالكي كدليل على حرصه وحرص عائلته على المال العام، لم يكن سوى تهديد من ابنه لرجل الأعمال لأنّه حاول التملص من دفع حصّته من الصفقات الفاسدة. وقد أتت المداهمة أُكلُها، إذ بعد أشهر اختفت قصّة أحمد، وظل رجل الأعمال طليقاً، بل حصل على صفقات جديدة من أراضٍ في وسط العاصمة لبناء مجمعات سكنيّة.
بعد أحمد، جاء نجل هادي العامري وزير النقل السابق، الذي أجبر في عام 2014 طائرة قادمة من بيروت على عدم الهبوط في مطار بغداد وأعادها إلى العاصمة اللبنانية مجدداً لأنّ الطيّار لم ينتظره - وهو تأخّر على الرحلة كثيراً (!)- لتبرز هذه الحادثة مقدار حظوات أبناء المسؤولين التي تبدأ بتهيئة وعقد صفقات ولا تنتهي بالتدخّل بالقرارات أو صنعها في المناصب التي يتقلّدها آباؤهم.
جلسة الفساد العلني
حكاية المسؤولين العراقيين وأولادهم وعلاقتهم بمناصب آبائهم وبرجال الأعمال أثارت جدلاً واسعاً في المجتمع العراقي حينها، ما أدّى إلى التركيز على نبش العلاقات القرابيّة في السياسة العراقيّة وارتباطها برجال الأعمال، وكيف يشكّل هؤلاء شبكة واسعة تدير ما يسمّى بـ «العمليّة السياسية» لنهب ثروات البلاد، وكيف تُبقي الأحزاب على جميع من تورّط بنهب المال العام بمأمن عن السجن أو المحاسبة، أو هي لا تبعدهم عن المناصب الرسميّة. غير أن النبش ظلّ على نطاق ضيّق من قبل كتّاب وصحافيين موزعين هنا وهناك، وليس بمقدورهم تشكيل ضغطٍ كبير ما دامت الأحزاب وقادتها لديهم قوّة خطاب كبيرة تحرِّف الموقف عبر وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي التي يمتلك جل الأحزاب فيها «جيشا الكترونيا» يخوض معركة الدفاع عنها وتنقية صورها أمام العراقيين.
هذه الأوليغارشية المتفاهمة في ما بينها والتي تقود عراق ما بعد 2003، متحكمة بالقرارات الصغيرة والكبيرة، قد تتخاصم أحياناً في العلن، سانحة الفرصة للمجتمع للوقوف عند سعة يدها وعمق كيسها الفاسد. هكذا أدّت الخلافات السياسيّة إلى إظهار ملفّات الفساد علناً في 1 آب / أغسطس الفائت تحت قبّة البرلمان في جلسة استجواب وزير الدفاع العراقي خالد العبيدي، إذ قرر الأخير فتح النّار على الكتلة المتحالف معها والتي مكّنته من منصبه، بسبب اختلافها في ما بينها على عقود وصفقات تجهيز في الوزارة.. صفقات بالملايين وأحياناً بالمليارات كشف عنها الوزير بعدما طالب النوّاب، ومنهم رئيس البرلمان، بالحصول عليها لمصلحة رجال أعمال يخصّونهم. بيد أنّ ما كان ملاحظاً هو الظهور القوي لأسماء الأبناء والأقارب في هذه الجلسة، ومنهم ابن وزير الدفاع المتهم بتهديد شركة بعدم إحالة عقد إليها إلا بحصوله على نسبة عمولة منه، تضاف إليها أسماء أبناء أشقاء وأقارب ومعارف النواب الذين طالبوا بتوظيفهم في وزارة الدفاع أو غيرها. والأنكى طلب النائبة صاحبة استجواب الوزير، في أكثر من مناسبة، بنقل رتب عسكرية من مناطق تشهد معارك ضد «داعش» إلى مناطق آمنة ليفلتوا من القتال، وهو واجبهم الرئيس.
إعادة إنتاج الأدوار
وعلى إثر الفضيحة المدوّية، اضطرّ القضاء إلى اللجوء لإخراج المدّعي العام من سباته من أجل تحريك دعاوى قضائية ضدّ من وردت أسماؤهم في الجلسة، فأصدر قراراً يمنع سفر كل من اتّهمهم الوزير، بينما استُثني الأخير من هذا القرار، رغم التهم الكثيرة والتستّر على صفقات كان هو نفسه بطلاً فيها.
لقد استغل الوزير، بل وبرع في استغلال ظهوره كمدافع عن المال العام ومهاجم لفساد نواب البرلمان، وأظهر نفسه كبطل عابر للهويّات. فبعد الجلسة التي ظلّ يردّد فيها أنه لن يسمح بنهب أموال العراق، ذهب إلى مرقد سنّي ومن ثمّ مرقد شيعي. وانتشى بالهتافات المادحة له على أبواب هذه المراقد. إلا أن الواقع كان مغايراً للباس البطولة الذي حاول العبيدي ارتداءه، فلم تكن المصلحة العامة ما دفعه إلى فضح رفاق الأمس الذي اعترف ضمناً بأن الزيارات والتخادم بينهم كان قائماً، وبل خلاف حادّ بشأن صفقات مردودها عالٍ هو ما أجّج «الفضيحة المدوّية» حسب ما سمّاها الإعلام العراقي. فعلى سبيل المثال، وفي الوقت الذي رفض فيه الوزير إحالة عقد إطعام الجيش لرئيس البرلمان ورجال الأعمال المقرّبين منه، الذين شهَّر بهم، منح العقد ذاته لرجال أعمال مقرّبين من الأخوين النجيفي، أثيل المحافظ السابق لنينوى، وأسامة رئيس البرلمان السابق، علماً أن هؤلاء، جميعهم في كتلة واحدة داخل البرلمان.
الاستجواب هذا كشف، من بين ما كشف، عن منظومة علاقات قرابية تربط الحكومة العراقية ارتباطاً عضوياً برجال الأعمال، ليظهر تعاظُم نفوذ هؤلاء على عكس دورهم الهامشي السابق، إذ كانوا مجرد وكلاء يؤدون المهام للأحزاب بوصفهم غاسلي أموال أو عملاء لإدارة الصفقات فحسب. أما في السنوات الأخيرة، فبات لرجال الأعمال دور رئيسي في تشكّل العمل السياسي العراقي اليوم، وهناك حرص على إظهار هؤلاء كأشخاص شبحيّين لا يُراد لأحد أن يعرف من هم. ويبدو أن هذا يجري بتواطؤ من جميع الكتل المشاركة في العمليّة السياسية، فقد ظهر التشديد على تعتيم جميع أسماء رجال الأعمال الذين وردت أسماؤهم في استجواب وزير الدفاع العلني، على الرغم من أن بعضهم متورّط، بحسب حديث الوزير، بتقديم الرشى للوزير أو للنواب، وهو ما يحاسب عليه القانون العراقي.
هكذا أيضاً أظهر الاستجواب كيف بإمكان الأحزاب المشاركة بالسلطة إعادة تصدير نفسها مرّة تلو الأخرى. وإذا ما اضطرّ هذا الأمر إلى بتر أعضاء رئيسة من مكوّناتها السياسيّة (وهذا نادر جداً)، فهي سرعان ما تعود لتخلق أطرافاً بديلة تقوم بمهمّتها على أتمّ وجه، كما تفعل مع وزير الدفاع اليوم من خلال تلميعه وتصديره كبطل وطني.
هوّة المجتمع والسياسية
لا يبدو مستغرباً، والحال هذه، أن هذه الخلافات وما يُرافقها من فضائح تخصّ نهب المال العام تعمّ غالبيّة الأحزاب والكتل السياسيّة، ولا سيما التي ترتدي لبوساً طائفيّا. صحيحٌ أنّ الخلافات هذه تدور جميعها الآن داخل «الكتل السنيّة»، إلا أن الصحيح أيضاً أن «الكتل الشيعية» لها خلافاتها، وهي وإن لم تكن بهذا الوضوح، وهذه الاتهامات الصريحة لبعضها البعض من قبل، لكنها قد تتفجّر في أي لحظة، على شاكلة ما حصل مطلع العام الجاري، بين الكتل الكرديّة التي اختلفت في ما بينها على المناصب والعقود التي تدرّ الأموال، الأمر الذي أدّى إلى التهديد بعودة إقليم كردستان إلى إدارتين منفصلتين، واحدة للسليمانية وأخرى لأربيل!
في محصّلة كل هذا، فإن ما كشفته جلسة استجواب وزير الدفاع وما لحقها من حوارات تلفزيونية مع السياسيين، بيّنت حجم الهوّة بين الأحزاب والنظام السياسي الذي تديره، والمجتمع. كما بيّنت، بما لا يقبل الشك، تحول الكتل السياسية إلى كتلة صوانية صلدة، لها آليات استمرارها، ولها القوانين التي تنجّيها من العقوبات وتستمر عبرها بنهب المال العام، ولها أيضاً علاقاتها بدول الجوار والقوى الكبرى التي تحافظ لها على وجودها من خلال مدّها بصفقات الأسلحة والنفط.
لكن بالمقابل، فإن المجتمع بدأ صبره ينفد، وبدأت الخطابات وقوّة السلاح المفروضة عليه من أعلى تفقد سحرها و/ أو قدرتها على التخويف مع ارتفاع الخطوط البيانية للفقر والبطالة والحرمان، وهو ما يُترجَم تظاهرات ضد الحكومة التي استمرت منذ عام إلى اليوم في مدن عديدة، فضلاً عن الرفض العام الملموس للكتل السياسية ونظامها النهاب، تُضاف إليه الأصوات الكثيرة داخل المجتمع، ولا سيما تلك التي ينهشها الفقر، الداعية للجوء إلى العنف لـ «قلع» هذه الأحزاب من الحكم.
... السعلاة مهما تغوّلت، فقد تحرق نفسها.