ما بين شهري حزيران/ يونيو والأسبوع الأول من آب /أغسطس الحالي، انخفضت أسعار النفط من 53 دولارا للبرميل إلى نحو 42 دولارا. الانطباع السائد هو عدم قدرة السوق على الحفاظ على المعدل السعري فوق 50 دولاراً، وأنّه بتراجعه بنحو عشرة دولارات فإنّ رحلته التصاعدية منذ مطلع العام الحالي تكاد تكون قد بلغت نهايتها، وأنّه في المستقبل المنظور سيظل سعر البرميل يتراوح فوق 40 دولارا بقليل، وذلك بسبب حالة التخمة التي تعاني منها السوق الحقيقية والمتوهَمة، في جانبي النفط الخام والمنتجات المكررة. ونتيجة لهذا فإن الكثير من التوقعات لا ترى تحسناً ملموسا في مجال الأسعار إلا في العام المقبل.
وتشير نتائج مسح قامت به وكالة "رويترز" إلى أن منظمة أوبك واصلت في الشهر الماضي ضخ المزيد من الإمدادات إلى السّوق، المتخمة أصلاً، ليصل إجمالي إنتاجها إلى 33.41 مليون برميل يوميا مقابل 33.31 مليوناً في حزيران/ يونيو. وأنّ الزيادة شملت معظم الدول الأعضاء، من السعودية التي حافظت على أعلى إنتاج لها وهو 10.58 ملايين برميل يومياً، إلى العراق الذي حقق أكبر زيادة في صادراته بمقدار 90 ألف برميل، فوصل إلى 3.2 ملايين برميل يومياً، إلى إيران التي يمكن أن تصل بنهاية فصل الصيف إلى المعدل الذي كانت عليه صادراتها قبل الحظر الغربي عليها، إلى ليبيا العائدة إلى السوق.. وكل ذلك في إطار استراتيجية المنظمة الهادفة إلى الحفاظ على نصيبها في السوق على حساب الأسعار، لأنها توصلت إلى قناعة بأنّها لن تستطيع التحكّم بها.
ولا تقتصر حالة التخمة على الإنتاج الفعلي المتدفق إلى الأسواق، بل تشمل المتوقع كذلك، ما يشير إلى الحالة النفسية المتقلبة للمتعاملين. وأبرز العوامل التي ساعدت في ذلك تزايد عدد منصات الحفر التي تنبئ بأن المزيد من الإمدادات على الطريق. ووفقاً لشركة "هيوز بيكر" التي تصدر إحصائيات دورية في هذا المجال، فقد زاد عدد الحفّارات عالميا في تموز/ يوليو 11 حفارة ليبلغ الإجمالي 938 حفارة، ولو أنها تقل عما كانت عليه قبل عام (بـ180 حفّارة). في الولايات المتحدة وحدها زاد عدد الحفارات للأسبوع السادس على التوالي، ليصل إجمالي النشطة منها إلى 381 حفارة.
سوق المنتجات المكررة
وحالة التخمة لا تقتصر على النفط الخام فقط، بل تمتد إلى سوق المنتجات المكررة. فتراجع الأسعار خلال العامين الماضيين دفع الكثير من الشركات إلى الاتجاه إلى سوق المنتجات المكررة للاستفادة من السعر المتدني للخام واستخراج العديد من المنتجات المكررة من البنزين والديزل ووقود الطائرات، خاصة أن قطاع النقل مثلاً يستهلك الجانب الأكبر من هذه المنتجات. وفي الولايات المتحدة وحدها، فإنّ واحداً من كلّ تسعة براميل يتم استهلاكها تكون من نصيب قطاع النقل. لكن بسبب ارتفاع أسعار النفط خلال السنوات الماضية، فإن العديد من شركات تصنيع السيارات والشاحنات عملت على تحسين مستوى ماكيناتها ومن ثم تقليل استهلاكها للوقود، كما أنّ مستهلكاً رئيسياً مثل الصين دخل سوق البنزين مصدراً. ومع تزايد المعروض في السوق، تقلص الطلب على الخام بقصد التكرير، الأمر الذي شكل ضغطاً على سعر البرميل الخام دفعه إلى التراجع.
وهذا الوضع المتمثل بسيادة الإحساس بوجود تخمة في العرض في جانبي النفط الخام والمنتجات المكررة عكسته نتائج الربع الثاني لأداء الشركات النفطية الرئيسية، وقد بدأ إعلانها أواخر الشهر الماضي، ما يشير إلى مدى الأزمة التي تعيشها السوق النفطية، ويبدو أنها ستتعايش معها إلى فترة أطول. فشركة "أكسون موبيل" وهي الأكبر عالمياً سجلت تراجعاً في أرباحها بنسبة 60 في المئة إلى 1.7 مليار دولار، مقارنة بما كانت عليه قبل عام، الأمر الذي أدى إلى تراجع سعر سهمها عند التداول، بل وقيام شركة "ستاندارد أند بور" بخفض التقييم الائتماني لها لأن التزاماتها المالية تجاه حمَلة أسهمها وإنفاقها الرأسمالي يتجاوز التدفقات المالية المتوقعة. الشركة الثانية وهي "شيفرون" دخلت في دائرة الخسارة التي بلغت 1.47 مليار دولار، مقابل أرباح وصلت إلى 571 مليون دولار في الفترة المقابلة من العام الماضي، وهي أكبر خسارة ربع سنوية تصاب بها منذ 15 عاما.
وعبر الأطلسي، تكرر مشهد الأداء الضعيف بالنسبة للشركات الأوروبية مثل"رويال دتش شل" و "توتال" و "برتيش بتروليوم". ولخصت الوضع نتائج شركة "شل"، وهي كبرى الشركات النفطية الأوروبية التي تراجعت أرباحها بنسبة 93 في المئة، ولم تتمكن من الوصول الى هدف تحقيق مليار دولار أرباحاً. ويعود ذلك إلى أن الإيرادات سجلت أقل عائدات في غضون 11 عاما. وتمضي بعض التحليلات لتشير إلى أن التوقعات بخصوص نتائج الربع الثالث لا تبدو مطمْئنة، وقد تسير على الطريق نفسه في ما يتعلق بإجمالي العائدات والأرباح المتوقعة، وبالتالي استمرار الأزمة.
"بريتش بتروليوم" من جانبها سجلت تراجعاً بنحو 45 في المئة كما تقلصت الأرباح من 1.3 مليار دولار إلى 720 مليوناً، وكانت هي أول شركة نفط أوروبية تعلن عن نتائجها للربع الثاني، وأشارت الى أنها في انتظار أن يستقر سعر البرميل بين 50 - 55 دولارا لتتمكن من موازاة مصروفاتها مع دخلها.
الضعف العام
التفسير العام لهذا الوضع ينطلق من وضعية عدم الوضوح السياسي والاقتصادي التي تلف العالم وتتركز في ضعف النمو الاقتصادي، وهو ما يظهر في تقليص صندوق النقد الدولي لتوقعاته للنمو الاقتصادي المتوقع عالميا، وتلخصه أيضاً حقيقة أنّ الأداء العام للشركات الرئيسية في مختلف المجالات سجل تراجعات للربع الخامس على التوالي (أي لأكثر من عام)، وفق مسح قامت به شركة بلومبيرغ للخدمات المالية. وانعكس هذا الوضع على السوق النفطية الضخمة التي يقدر حجم التعامل فيها بحدود تريليون ونصف التريليون دولار، تغطي مجالات بيع النفط الخام والغاز الطبيعي والمنتجات المكررة. الجديد هذه المرة أن ضعف السوق شمل كل هذه المجالات بينما كان الوضع في السابق أن واحداً أو اثنين منهما يوفران منفذاً لتحقيق بعض الأرباح في وقت معاناة السوق من أسعار النفط المتدنية.
الشركات النفطية المدرجة في سوق الأسهم تعيش وضعا صعبا كذلك، إذ عليها الموازنة بين رغبات حملة أسهمها في الحصول على عائدات لاستثماراتهم وطبيعة الصناعة التي تتطلب الصبر إلى آجال طويلة حتى تبدأ المشاريع في الإنتاج. وكان أن دخلت معظم الشركات في خطط عديدة لخفض الإنفاق، خاصة في المجالات الرأسمالية، وتأجيل أو تقليص الاستثمارات في بعض المشاريع الجديدة أو في توسيع تلك القائمة.
ونتيجة لهذا، تعرضت مجالات الاستكشاف والإنتاج تحديدا إلى عمليات خفض وتقليص، حيث تم تقدير حجم الاستثمارات التي تم تأجيلها في هذين المجالين حتى العام المقبل بمبلغ 150 مليار دولار، كما فقد 150 ألفا من العاملين في الصناعة النفطية مواقعهم ووظائفهم، إلى جانب الشركات التي أفلست العام الماضي وبلغ عددها 150 شركة. الخطورة في هذا الوضع أنّه يضع الأساس لأزمة إمداد مستقبلية. فالاستثمارات في المشاريع النفطية تحتاج إلى عدة سنوات لتؤتي أكلها وتتمكن من رفد السوق بإمدادات جديدة. وهذه في العادة إحدى دورات السوق، إذ يؤدي التراجع في الأسعار إلى تقليص الإنفاق على المشاريع التي تسهم في توفير الإمدادات مستقبلا، كما تشجع على المزيد من الاستهلاك، الأمر الذي يؤدي إلى انفجار سعري بسبب زيادة الطلب وقلة المعروض، ما يدفع إلى الاتجاه للاستثمار في مشاريع جديدة بهدف توفير المزيد من الإمدادات.. وهكذا.
على أن الجديد هذه المرة أن منظمة أوبك التي كانت تلعب دور المنتج المرجِّح الذي يرتفع بإنتاجه ويخفضه حسب احتياجات السوق، لم تعد راغبة ولا قادرة على القيام بهذا الدور، لتزايد عدد المنتجين من خارج المنظمة وعدم تقيدهم بأي برنامج لخفض الإنتاج. هذا بالإضافة إلى تنامي الصراع بين المنتجين داخل المنظمة لأسباب مختلفة، وسعي الكل للحفاظ على حصته في السوق كما في حالة السعودية أو استعادة تلك الحصة كما في حالة إيران والعراق.. بغض النظر عن مآلات وضع الأسعار.