تم انتاج هذا المقال بدعم من مؤسسة روزا لكسمبورغ. يمكن استخدام محتوى المقال أو جزء منه طالما تتم نسبته للمصدر.
"سِيرْ..سِيرْ..سِيرْ...
عَلَت حناجر الجماهير المغربية بهذه العبارة الحماسية في كل أرجاء الملعب، أملاً في أن يصل المنتخب المغربي إلى انتصارات متتالية.
وما حصل أن المنتخب المغربي مضى قُدُماً الى الأمام خلال مونديال كرة القدم الذي جرى في آخر شهرين من العام 2022 في الدوحة، و"بيَّض وجه" البلد ودول منطقتنا وأفريقيا بأسرها، ووحّدها في لحظة شعورية إيجابية نادرة الحدوث. ولم تغب عناصر الألتراس المحلية عن هذا الحدث، فكانت حاضرة بقوة كعادتها بمزيد من الشعارات والتيفوهات والاحتفال بالهتافات.
وبعيداً عن فرحة المونديال الأخير، جرت مياه كثيرة تحت جسر كرة القدم المغربية وأنساقها ما بين الأمس واليوم، من أحداث وقرارات وسياسات كان للسلطة الحاكمة دور بارز في توظيفها لصالح مآرب سياسية وأخرى لا يُصرّح بها علانية.
عودة إلى سطور الأمس..
تضاربت الروايات بشأن تاريخ تعامل المغاربة مع هذه اللعبة الشعبية في إطارها المنظّم. فالرواية الأولى تفيد بأنهم اكتشفوا كرة القدم منذ أواسط القرن الـ19 عن طريق البحّارة الإنجليز، إذ كانوا يلعبونها وهم ينتظرون الانتهاء من إصلاح سفنهم كلما حلّوا بالموانئ المغربية. بيد أن الرواية الثانية تؤكد أن هذه اللعبة وصلت إلى المغرب عن طريق الجنود والمستعمِرين الفرنسيين.
وتشير المصادر إلى أن سنة 1916 كان تاريخ إجراء أول منافسة بين فرق محلية وفي دوري منتظم. بينما يبدو بحسب مصادر إعلامية محلية بأن أول مباراة رسمية على الأراضي المغربية جرت خلال العام 1913 في قرية "عين تاوجطات" بين مدينتي فاس ومكناس (وسط المغرب).
في المقابل، تعود قصة التأسيس الأول للأندية المشكّلة حالياً إلى عام 1937، حينما قرر المقيم العام الفرنسي الجنرال "شارل نوغيص" (Charles Noguès ) الموافقة على تأسيس نادي "الوِداد" البيضاوي لكرة الماء الذي تقدّم بمشروعه كلٌّ من محمد وعبد اللطيف بنجلون. مضت سنوات "الحماية الفرنسية"، وتخللتها شعبية واسعة لهذا النادي "الوطني"، إذ حظي بدعم منقطع النظير من طرف المغاربة، وتأسّس لاحقاً عدد من الفرق التي ستصنع مجد الكرة المغربية، أمثال "المغرب الفاسي" (1946) و"الكوكب المراكشي" (1947) و"الرجاء البيضاوي" (1949).
كان إذاً تأسيس هذا النادي وسواه سلاحاً وظفته المقاومة الوطنية لمواجهة الاستعمار، وسبيلاً لحشد وتعبئة المغاربة من خلال نشر خطابات ورسائل للشعب على أن كرة القدم ليست مجرد وسيلة للتنفيس والتسلية، وإنما هي لتعزيز الروح الوطنية، وتحقيق الانتصارات الكروية، باعتبارها نصراً معنوياً على الأندية الموجودة بالبلاد وهي كانت ذات الأغلبية الأوروبية. وهذا ما حصل فعلياً مع فريق "الوِداد البيضاوي"، الذي توج بلقب البطولة عام 1948، بصفته أكبر ناد يضم لاعبين محليين.
في مرحلة ما بعد الاستعمار، تأثر الملك الراحل الحسن الثاني بالتجربة الإسبانية التي بُنيت على رعاية الجنرال فرانكو للفرق الإسبانية سعياً منه لإلهاء الشعب عن قضاياه وهمومه العالقة. لم تكن الرياضة عامة وكرة القدم على وجه الخصوص مجرد لعبة تخص الشعب لوحده، بل تهم السلطة الحاكمة أيضاً، التي سعت إلى احتضانها ودعمها وتمويلها.
المغرب: الأرض لمن؟
02-05-2019
المغرب في مملكة الريع
11-07-2019
خلال عام 1986، سجّل المنتخب المغربي أول إنجاز تاريخي له في كرة القدم، إذ كان أول بلد عربي وأفريقي يتأهل إلى الدور الثاني لكأس العالم المُقام في المكسيك. لقد نافس المنتخب ذو اللونين الأحمر والأخضر وواجه أقوى المنتخبات الكروية. خطف هذا الإنجاز أنظار واهتمام الملك الراحل، إذ سعى خلال هذه الفترة وما بعدها إلى توظيف كرة القدم كوسيلة لاستعراض صورة مختلفة عن المغرب، تتمثل في أنه بخير ويحقق الإنجازات الرياضية المشرّفة وشعبه ينعم بالهناء، وهي محاولة لتغطية واقع صعب كان يمر به البلد المنهك بالصراعات السياسية الداخلية (محاولات الانقلاب العسكرية، قوة المعارضة اليسارية، احتجاجات شعبية، قمع عالي العنف، واعتقالات وسجون مرعبة...) والإقليمية ("حرب الرمال" مع الجزائر)، وأزمات الفساد والاستبداد ومعضلات اجتماعية وأخرى اقتصادية.
تنامى اهتمام السلطة الحاكمة بكرة القدم، فنصر كروي يعني بالضرورة نصر للملك، الذي لا يتوانى عن استقبال والتقاط صور مع لاعبي هذه الكرة في كل تتويج ووفق طقوس تقليدية.
وظفت المقاومة الوطنية تأسيس "نادي الوِداد البيضاوي" (نسبة الى مدينة الدار البيضاء) وسواه سلاحاً لمواجهة الاستعمار، وسبيلاً لحشد وتعبئة المغاربة من خلال نشر خطابات تقول أن كرة القدم ليست مجرد وسيلة للتنفيس والتسلية، وإنما هي لتعزيز الروح الوطنية، وتحقيق الانتصارات الكروية باعتبارها نصراً معنوياً على الأندية الموجودة بالبلاد ذات الأغلبية الأوروبية وقتذاك. وقد توج "الوِداد" بلقب البطولة عام 1948.
تحَوَّلَ هذا الحرص الكبير للحاكم تجاه هذه اللعبة إلى "نقطة محورية في تدبير القطاع الرياضي تنطلق منها كل القرارات التي تهم التدبير اليومي لبعض الجامعات الرياضية" (1). ومن بين ما كان يحرص عليه الملك الراحل، التدخل بصفة شخصية في إسداء توجيهات تقنية إلى"غي كليزو" المدرب الفرنسي لـ"فريق الجيش الملكي" الذي كان الملك وراء تأسيسه، فكتب له بخط يده في 26 آب/ أغسطس 1962، خلال مباراة الجيش الملكي وريال مدريد، في إطار الترتيب لـ"كأس محمد الخامس"، ملاحظات يقول فيها بالفرنسية (2) : "ممتاز، جيد، نحن لسنا سخفاء، اللاعب "مختطف" متخبِّط وليس بارعاً، حاول أن تضع اللاعب مصطفى في قلب الهجوم... طبّق تكتيك وأسلوب الدعم".
نحو أندية ربحية
مؤخراً، لم تعد السلطة الحاكمة تتدخل بشكل علني ومباشِر في تسيير بعض الأندية كما حصل مع "نادي الجيش الملكي" إبان ستينيات القرن الماضي. ولعقود طويلة، أديرت الأندية الكروية كجمعيات رياضية تؤطرها قوانينها الأساسية والداخلية، التي تتولى عمل المكتب وأهدافه ومداخيله ومصاريفه المالية، علاوة على تحديد الجمعيات العمومية التي تعتبر أعلى هيئة تقريرية لانتخاب هياكله.
ولم تعد الأندية الكروية مصنّفة كجمعيات بالضرورة، بل هناك سعي لتحويلها إلى شركات رياضية بناءً على أحكام القانون رقم 30.09 الذي ينص على أنه "يمكن لجمعية رياضية القيام بعملية المساهمة بأصولها وائتماناتها جزئياً أو كلياً في شركة رياضية". وينطبق قانون تحويل النوادي إلى شركات رياضية على 16 فريقاً من الدوري الاحترافي و8 فرق من الدرجة الثانية. وقد شاركت معظم الأندية في خطة تطوير بناها المؤسساتية والمالية بغية نقل ممتلكات الجمعيات الرياضية إلى ملكية شركات، وذلك في أجل يمتد حتى 30 حزيران/ يونيو 2023.
بيد أن هذا القانون لن ينهي حياة الجمعية، بل تكمن العملية في ما يشبه التفويض، أي أن الجمعية ستوكل الشركة مسألة تدبير شؤونها، فالقانون ذاته ينص على أن الأندية "تتخذ شكل شركة مساهمة، يتكون رأسمالها وجوباً من أسهم إسمية، حيث يجب أن تتملك الجمعية الرياضية 30 في المئة على الأقل من أسهمها، و30 في المئة على الأقل من حقوق التصويت" (3).
خلال عام 1986، سجّل المنتخب المغربي أول إنجاز تاريخي له في كرة القدم، إذ كان أول بلد عربي وأفريقي يتأهل إلى الدور الثاني لكأس العالم المُقام في المكسيك. لقد نافس المنتخب ذو اللونين الأحمر والأخضر وواجه أقوى المنتخبات الكروية. خطف هذا الإنجاز أنظار واهتمام الملك الراحل.
تُبَرَّر هذه الخطوة الانتقالية للأندية بأنها ستساهم في خروج الكرة المحلية من مربع الهواية إلى آخر يمتثل لشروط الاحتراف، وتحويل الرياضة إلى سوق اقتصادية يلعب فيها أكثر من مستثمِر وفاعل اقتصادي بغية جعل هذه المؤسسات "منتعشة" بموارد إضافية، خلافاً لما كان عليه الحال في العقود الماضية، إذ كانت هذه الأندية تعتمد بشكل شبه أساسي على دعم الدولة والسلطات المحلية. هذا الدعم العمومي ناهز 1.7 مليار درهم مخصص لأندية الدرجة الأولى أو الدوري الممتاز، منحته الجامعة المغربية لكرة القدم خلال الموسم 2018-2019. كما أنّ البث التلفزي يُعتبر أحد أبرز مصادر الدخل للأندية الكروية، ويقضي القانون 30-09 على أن "هذه المداخيل توزع بنسبة 50 في المئة على نحو تضامني".
يرى خبراء ضليعون في الشأن الكروي أنّ خطوة تحويل الأندية إلى شركات ستكون سبباً في القطع مع مسألة ارتباط التدبير المالي للنادي بشخص معين، بما في ذلك الرئيس، إذ أظهرت أن من بين مسببات الأزمات التي سجلتها تلك الأندية سوء تدبير أشخاص بعينهم، أو "ارتباط ضيق بين الوضع المالي للنادي وذلك الشخص".
من ناحية أخرى، يبدو أن التحول لم يحصل وفق الشروط المطلوبة، إذ بات شكلياً. فبعد ثلاث سنوات من إصدار هذا القانون، ما زال مستثمِرون لا يغامرون أو يحجمون عن ضخ أموالهم لصالح الفرق الكروية المحلية. ومن بين المشاكل الحاضرة إشكالية توزيع أرباح البث التلفزي، إذ ينص القانون على تحديد الجامعة الملَكية المغربية لكرة القدم معايير الاستفادة حسب الاستحقاق، بيد أن الجامعة لم تنفِّذ ذلك بعد. وبناءً عليه، تظلّ مداخيل البث توزع عملياً بنسبة 100 في المئة بشكل تضامني. وبالتالي "فلن يقبل أي مستثمر بالاستثمار في نادٍ كبير يحقق ملايين المشاهدات، لكنه يستفيد من مداخيل متساوية مع أندية لا يتابعها سوى عشرات أو مئات الأشخاص" (4).
ليسوا "مشاغبين".. إنهم أشبه بكتلة أحجار
لا تستطيع الأندية الكروية المغربية، بكل ما تملك من ترسانة قانونية وتمويلية، أن تعيش بمعزل عن مجموعات الألتراس اللانظامية، إذ تعتبر سنداً معنوياً ورياضياً لها في كل المباريات. لكن كثيراً ما يتم "توظيف هذه المجموعات من طرف مكاتب الأندية الرياضية لتصفية الحسابات فيما بينها" (5). وهذا ما يتسبب في وقوع عنف بين مشجعي هذه المجموعات، يرافقها تخريب للمنشآت العمومية والخاصة وضرب وجرح متبادل يصل إلى حد القتل.
لكن، لا تحمل كل مجموعات الألتراس هذه الصورة السيئة النمطية التي يصدّرها الإعلام المحلي. وهذا ما تؤكده آراء مختصة بالشأن الكروي، إذ ترى بأن هؤلاء المشجِعين ليسوا مشاغبين، وأنه لا يمكن اختزالهم ضمن فئات الطلاب أو الشباب العاطل والمياوم أو الذين يعملون في مهن "الترميق" (أي أعمال ذات طابع مؤقت ومناسباتي، أو ما يسمى بالفرنسية Bricolage). وهم شيء مختلف عن "الهوليغان" المشاغبين الذين يرافقون الفرق الإنجليزية الى الملاعب، ولا يعبرون عن "مواقف" تحمل مضموناً اجتماعياً أو سياسياً. وهذا المعطى ذو أهمية في تأطير بعض تنظيمات الألتراس للقيام بأعمال وأنشطة أخرى موازية غير التشجيع الكروي، مثل تقديم المساعدات للمحتاجين في القرى النائية، والمساهمة في حملات التبرع بالدم...
يوجد حالياً في المغرب العشرات من مجموعات الألتراس، وقد بدأ تأسيسها عام 2005، ولعل أبرزها "ألتراس عسكري" المساند لفريق العاصمة، "الجيش الملكي"، و"ألتراس غرين بويز" المناصر لفريق "الرجاء البيضاوي"، أما فريق "الوِداد البيضاوي" فيشجعه "ألتراس وينرز".
لا تستطيع الأندية الكروية المغربية، بكل ما تملك من ترسانة قانونية وتمويلية، أن تعيش بمعزل عن مجموعات الألتراس اللانظامية، إذ تعتبر سنداً معنوياً ورياضياً لها في كل المباريات. وهم مخالفون عن "الهوليغان" المشاغبين الذين يرافقون الفرق الإنجليزية خصوصاً الى الملاعب، ولكنهم لا يعبرون عن "مواقف" تحمل مضموناً اجتماعياً أو سياسياً.
لا تمتثل الألتراس لأطر القوانين وتشريعاته. إن بنية هذا التأسيس غير المؤسساتي أشبه بكومة أحجار غير منظمة. لكن هذا لا يمنعه من أن تكون عناصره أكثر صلابةً وتماسكاً، إذ يمنحون وقتهم وكيانهم وولاءهم اللامشروط لناديهم، ما يجعل اللاعبين يمضون بشكل حيوي وتفاعلي، فيصبحون أكثر قدرة على التحرك والمبادرة بلا تردد.
تنتظم جماهير الألتراس، المقدر تعدادها بالمليون مشجّع، ضمن مجموعات عمل صغيرة تدعى "توب تويز"، وتُكلَّف كل واحدة منها باختصاص يشمل إعداد وتصميم اللوحات الفنية ("التيفوهات")، وإدارة عملية التشجيع في المدرجات، والسهر على متابعة مصادر تمويل المجموعة، وتنظيم الرحلات بين المناطق بغية حضور مباريات الفريق.
غالباً ما ترفض مجموعات الألتراس الدعم المالي من جهات خارجية. فهي تحقق مردودها المالي من خلال المساهمات الفردية لأعضائها أو عن طريق عائدات مبيعات الأعلام، والقبعات والقفازات، والأقنعة والشارات... وتساهم عملية الانخراط في الألتراس - حيث يجري تسليم بطاقات عضوية للمشجعين (وهو ليس إجراء رسمياً، بمعنى أن السلطات تحظر أنشطة هذه المجموعات ولا تعترف بشرعيتها وبحقها في أن تكون مؤطرة بتشريعات) في ضمان العائدات المالية، إذ يؤدى مقابل ذلك اشتراكٌ تحَدَّد قيمته من طرف المجموعة.
للألتراس أربعة مبادئ مُعتمدة لتصنيف أي جماعة مشجعين على أنهم فعلياً ألتراس كروي، وتشمل:
أولاً: الاستمرار في التشجيع والغناء أثناء المباراة بغض النظر عن النتيجة، من خلال اعتماد شعارات ذات إيقاع غنائي قوي الصدى، تمتاز أحياناً بإشارات ورموز وحركات تبتغي تخويف الخصوم والرد على رسائلهم الرمزية. ويكلّف في العادة قائد الجماعة المشجعة (الـ"كابو")، إذ يكون مسؤولاً عن اختيار الشعارات والهتافات والأغاني وتوقيتها، وتنظيم الاستعراضات كحركات الأيدي والتشكيلات، ويعتلي هذا "الكابو" مكاناً عالياً في المدرج حتى يلتزم المشجعون بمتابعة تعليماته أثناء المباراة.
ثانياً: الامتناع عن الجلوس أثناء المباريات، فالمشجعون يحضرون بغرض المؤازرة والتشجيع المتواصلَين حتى انتهاء المباراة وليس بهدف التسلية والاستمتاع اللّذين يميزان المشجِّع العادي.
ثالثاً: الالتزام بحضور كل المباريات داخل مدينة النادي وخارجها مهما كانت التكلفة والمسافة، وللقيام بهذا الأمر تستعين المجموعة في التحشيد لحضور المباريات خارج مدينة النادي، بوسائل نقل رخيصة، كما تقوم بتنظيم موكب )"كورتيج Cortège"(، يضم عناصر المجموعة التي يلعب فيها فريقهم، وتهدف هذه الخطوة إلى استعراض مكامن قوة النادي أمام وسائل الإعلام، باعتبار أن له مشجعين أقوياء يسافرون خلف فريقهم إلى أي مكان وأياً كانت التكلفة.
رابعاً: الولاء والانتماء لمقعد الملعب، إذ يختار الألتراس مدرجاً منزوياً عن المشجعين العاديين، ويمتاز بمقاعد ذات أسعار رخيصة، ويدعى هذا المكان "الكورفا" )وهو تعبير إيطالي يقصد به "المنحنى" لتعيين مكان وجود المجموعة المؤيدة للفريق في مدرجات الدرجة الثالثة). ويكون مكاناً مخصصاً للتشجيع والمؤازرة ورفع "اللوغو" الذي يحمل إسم وشعار المجموعة وأيضاً يحمل "شرف" المجموعة نفسها.
لا تمتثل الألتراس لأطر القوانين وتشريعاته. إن بنية هذا التأسيس غير المؤسساتي أشبه بكومة أحجار غير منظمة. لكن هذا لا يمنعه من أن تكون عناصره أكثر صلابةً وتماسكاً، إذ يمنحون وقتهم وكيانهم وولاءهم اللامشروط لناديهم، ما يجعل اللاعبين يمضون بشكل حيوي وتفاعلي، فيصبحون أكثر قدرة على التحرك والمبادرة بلا تردد. ويحرك هذا النظام اللانظامي اندفاع منتميه الشباب وقدرتهم على الاندماج والذوبان بسلاسة ضمن هذا النسق ككتلة واحدة تغيب فيها الحالة الفردية، ويتعزز فيها معطى نكران الذات والانتصار لقيم الجماعة وخطاباتها وشعاراتها.
تبدو هذه البنية منظّمة على مستوى الشكل والانتماء، لكنها غير مهيكلة مؤسساتياً، وهو ما يجعل الألتراس عصية على الاحتواء من قبل السلطة الأمنية والسياسية. فكم من مرة حاولت السلطات بتشريعاتها (قانون 09-09 الخاص بمكافحة شغب الملاعب)، وعنفها المادي أن تحتوي هذه الجماعات وتضيّق على أنشطتها، تارة بمسوغات القانون وطوراً بـ"العصا والجزرة". لكنها في النهاية لم تنجح في ضبطها. ففي الوقت الذي مُنعت من دخول الملاعب خلال السنين القليلة الماضية، اكتشفت السلطات والقائمون بالشأن الرياضي بأن الألتراس تَركت خواءً وركوداً جليَّيْن في المدرجات، بشكل لا يمكن تعويضه بتنظيم آخر.
الهتافات... ليست مجرد صرخة
تواجه حركات الألتراس حصاراً غير معلن من قبل السلطة، لذا تبحث عن منافذ منفلتة لمواجهتها ومقاومتها، والأغاني إحداها. كانت أغنية "في بلادي ظلموني" التي أنشدها ألتراس "إيغلز" المساند لـ"الرجاء البيضاوي" عام 2017 سبباً في أن تحقق تجربة الألتراس المغربي شهرة على المستويين الإقليمي والعالمي. فالأغنية صارت على لسان كل الفرق والمشجعين وألتراسات البلد وبقية دول منطقتنا، لأنها لامست محاولات السلطات لضبط وقمع أنشطة هذه الجماعات تحت ذريعة محاربة شغب الملاعب الذي تلقبه الألتراس بـ"زيرو خاف"(صفر خوف).
"في بلادي ظلموني"، ألتراس "إيغلز" المساند لـ"الرجاء البيضاوي"
تختزل هذه الأغنية السلطة الأمنية والسياسية في صورة الظالم، في حين تُبرز المشجِعين دائماً في مكانة المظلوم والمقموع، وتماهي بينه وبين الظروف البائسة في معيش الناس، وتتكلم بصيغة الجمع هنا، فيظهر هذا الجانب من خلال توظيف معجم لغوي ذي صلة بالقمع والاعتداء والظلم والحرمان، من قبيل: "ضيعتوها/ هرستوها/ قمعتوها/ وقتلتو/ ومنعتو/ تحاربو/ تهمتو/ ضيعتو" (6).
"هادي بلاد الحكرة"، جماهير اتحاد طنجة
تخاطب أغاني الألتراس الآخر (السلطة السياسية أو الأمنية) بصيغة المجهول، فكثيراً ما لا تُذكَر السلطة المعنيّة باسمها المحدد بل تحتج على طرف يُستنتَج منه أنه متحكِّم ومهيمِّن، ويمارس نوعاً من العنفين الرمزي والمادي على المهيمَن عليهم. ويمكن الاستدلال بكلمات: "مابغيتونا نقراو(لا تريدون أن ندرس)، مابغيتونا نخدمو (لا تريدون أن نعمل")، مابغيتونا نوعاو (لا تريدون أن نكون واعين)، وسكتونا بالفاليوم (أسكتونا بالمخدِّر)، "خلاونا كاليتامى"( تركونا كاليتامى).
تختزل أغنية "في بلادي ظلموني" السلطة الأمنية والسياسية في صورة الظالم، في حين تُبرز المشجِعين دائماً في مكانة المظلوم والمقموع، وتُماهي بذلك بينه وبين الناس وما يعيشونه من ظروف بائسة، وتتكلم بصيغة الجمع هنا، فيظهر هذا الجانب من خلال توظيف معجم لغوي ذي صلة بالقمع والاعتداء والظلم والحرمان.
لا يقتصر تضامن الألتراس المغربي على قضايا مجتمعه المحلي بل يتسع ليشمل دول لها ثقلها الوجداني على المستوى الإقليمي، كقضية فلسطين التي تفاعل معها ألتراس "ماتادوريس" المساند لـ"فريق المغرب التطواني" (شمال المغرب)، برفع تيفوهات مساندة، كما دعا إلى المشاركة في وقفة تضامنية في إحدى ساحات تطوان. وكذلك فعل ألتراس "وينرز". ولا تخلو مبارة إجمالاً من رفع أعلام فلسطين.
تتنوع دلالات (7) أغاني الألتراس بين حمولات مشبعة بالتحفيز الذاتي :"ما نلاشيش ما نلاشيش (لن أستسلم)، وثانية محملة بمعاني الشكوى والغبن والمظلومية: "لمن نشكي حالي (لمن أشكو حالي)، "راني مغبون" (إني مغبون) (8). وأخرى مثقلة بتحدي ومعارضة قرارات السلطة السياسية والأمنية: "جاي نَكْلاشي الحكومة" (جئت لأواجه الحكومة)، و"مَغنمْشيوشْ لعسْكَرْ" (لن ألبي نداء الخدمة العسكرية الإجبارية) (9).
كرة القدم... للنّساء أيضاً
25-04-2023
تحيّة للأمهات المهاجِرات..
22-12-2022
وتزداد جرعات الاحتجاج في أغنية "صوت الشعب" التي أداها "ألتراس الوينرز"، إذ تصدح بأعلى درجات المواجهة: "الحرية.. اللي بغينا (التي أريد) يا ربي.. الحرية.. تفاجي ليا (تفرج) قلبي". وتكرار عبارة "الحرية" يؤشر إلى مطلب عصي المنال في ظل قوانين وأنساق تضيق بين الفينة والأخرى على عناصر الألتراس أنفسهم الذين تعتبرهم السلطة مجرد "مراهقين وأطفال لا يفقهون شيئاً"، وتريدهم أن يظلوا "مجرد عبيد راضين عن الوضعية الحالية" (بغاونا نكونو إسكلاڤ ونارضاو بالوضعية).
ضد الظالم، مع المظلوم
تنتج جماعات الألتراس خطاباً يجعل منها حركة غير معزولة عن القضايا الشعبية وهموم فئات أساسية من المجتمع المغربي، مثل دفاعها المستميت عن مطالب الحراكات الجهوية التي مسّت أطراف المغرب المنسي. كما أنها دافعت عن قضية الأساتذة المتعاقدين، أو من يسمون أنفسهم "الأساتذة المفروض عليهم التعاقد"، وهذا التضامن حصل من قِبَل ألتراس "ريد مان" مشجع "النادي المكناسي"، إذ حمل لوحة مكتوب عليها "لن تتقدم البلاد ما دامت تسيء للأستاذ"، رداً على العنف البوليسي الممارَس على هذه الفئة أثناء احتجاجها في الشارع ومطالبتها بتحقيق مطالبها المهنية في الادماج في الوظيفة الحكومية.
لم يكتفِ هذا الألتراس برفع اللوحة التضامنية، بل أصدر بياناً يدافع فيه عن هؤلاء المدرّسين: "في عهد الحريات بعصر النهضة وحقوق الإنسان، يعامَل الأستاذ - بغض النظر عن قضيته وملفه وحقه في التظاهر - بشتى أنواع القمع الوحشية، وبالتفريق عن طريق ضرب الرجال والنساء والتحرش بهن".
لا يقتصر تضامن الألتراس المغربي على قضايا مجتمعه المحلي بل يتسع ليشمل دول لها ثقلها الوجداني على المستوى الإقليمي، كقضية فلسطين التي تفاعل معها ألتراس "ماتادوريس" المساند لـ"فريق المغرب التطواني" (شمال المغرب)، برفع تيفوهات مساندة، كما دعا إلى المشاركة في وقفة تضامنية في إحدى ساحات تطوان.
الكُرة المصرية: متنفسٌ للناس وعزاءٌ لهم
20-05-2023
كرة القدم: لعبة الشعب والسياسة في العراق
17-05-2023
وعلى الخط نفسه، تفاعل ألتراس "وينرز" بشكل سريع حين اعترفت الولايات المتحدة الأمريكية بالقدس عاصمة لإسرائيل، ونشر بياناً قال فيه بأن "القدس عاصمة فلسطين أحب من أحب وكره من كره. فلسطين...هي القضية الكبرى والانتصار الأعظم الذي ينتظره الجميع". لم يكتف هذا الفصيل الكروي باستنكار هذه الخطوة، بل استعرض أيضاً لوحة فنية كُتب فيها "قبلتي (قَبِلتَ) بالتطبيع وما قبلو(لم يقبلوا) بيك"، وهي إشارة ضمنية إلى الجهات السياسية التي وافقت على خطوة التطبيع مع إسرائيل أواخر عام 2020.
وفي المحصلة..
يمكن القول بأن الألتراس خُلقت لتتمرد على أنساق السلطة السياسية والأمنية وسياساتها وخطاباتها ورأسماليها المادي والرمزي. تبدو السلطة هنا بمثابة خصم للألتراس، بخلاف علاقة هذه الحركات مع الجماهير التي تعتبر بمثابة نصير لها في المرافعة والاحتجاج والدفاع عن قضاياها الشائكة والعالقة. وعليه، صارت هذه الجماعات غير المؤسساتية رديفة للمؤسسات الوسيطة كالأحزاب والنقابات. تصرخ وتصدح، تغني وتهتف، وتتضامن بدون مواربة، كما هو حاصل مع مشهد مشجعي الألتراس في الحافلات العمومية، في الملاعب، في الساحات، وفي كل مكان.
محتوى هذا المقال هو مسؤولية السفير العربي ولا يعبّر بالضرورة عن موقف مؤسسة روزا لكسمبورغ.
1- حوار للخبير الرياضي منصف اليازغي مع منصة محلية
2- Parfait, c’est bon, on n’est pas ridicules, Mokhtatif est 1 (un) gros balourd, tachez de mettre Mustapha l’avant-centre….appliquer le jeu de soutien
3- وفق ما أفاد به الخبير الرياضي منصف اليازغي لمنصة SNRT News
4- وفق تصريح الباحث في الحكامة الرياضية عبد الرحيم غريب لمنصة اقتصاد.كوم الصحافية
5- وفق ما صرح به الخبير الرياضي منصف اليازغي
6- للاطلاع: دراسة الباحث حسن الطويل، "الخطاب الاحتجاجي في أغاني الألتراس.. قراءة بلاغية".
7- للاطلاع: دراسة أستاذ العلوم الاجتماعية سعيد بنيس، "تمثُّلات الخطاب الاحتجاجي للألتراس في المغرب وتأثيراته السياسية".
8- كلمات من أغنية أداها ألتراس "لوس كالاس" لفريق الدفاع الحسني الجديدي" وهو نادٍ كروي مغربي في مدينة الجديدة في غرب البلاد
9- كلمات من أغنية "في بلادي ظلموني".