كرة القدم... للنّساء أيضاً

وجود النساء داخل الملعب في بيئة ذكورية، بقدر ما هو مؤشّر على تغيير العقلية الذّكورية في معقلها، هو أيضا مؤشّر على جرأة بعض النساء اللّواتي تحمّلن كل شيء من أجل ما يحببنه. فلا يمكن تجاهل المضايقات والتحرش والتنمر الذي ستتعرّض له أيّ امرأة دخلت الملعب وسط الرجال.
2023-04-25

عائشة بلحاج

صحافية وباحثة في حقوق الإنسان، من المغرب


شارك
فريق كرة القدم النسائي في المغرب

سَكينة وحفصة فتاتان في عمر العشرين. التقيتُ بهما دون سابق معرفة. وأصبحنا من أقرب النّاس لساعتين من الزمن جمعتنا فيهما فرحة الانتصار بفوز المغرب في مباراته مع كندا، وتأهّله للدور الثاني من كأس العالم. التقينا صدفة، بعد نهايةِ المباراة، حين غادرتُ المقهى ورأيتهما واقفتين وحدهما في محطّة الحافلات، تنتظران الحافلة التي غالباً لن تأتي، فالمكان يقع خارج المدينة، والطُرق في حالة فوضى عارمة، لا يمكن أن تجد فيها حافلة تغامر بأن تعلَق إلى ما بعد منتصف الليل في منعطفٍ واحد.

مقالات ذات صلة

عرضتُ عليهما توصيلهما إلى "ساحة الأمم" وسط المدينة، حيث يلتقي عادة الطَنْجاوة من أجل الاحتفال الصّاخب. فَرِحتا كطفلتين، وصعدتا على كرسيَّي الجانب الأيمن للسيارة، وجلستا على حافتي النّافذتين الأمامية والخلفية. لم تتوقّفا عن الغناء والصّياح لحظة واحدة في الساعة التي استغرقها وصولنا إلى الكورنيش. شعرتُ بالتعب من مواكبتهما هيستريا الفرح في الموكب الكبير للسيّارات الذي وجدنا فيه أنفسنا، وهما لم تتعبا. عندما نزلنا من السيارة، كانتا تُوقِفان المارّة وتغنيان: "هِي هُو هاذي البداية... ما زال، ما زال..." الأغنية التي تردَّد في الشوارع كأوّل مظاهر الفرح الكرويّة. كان تصرفّهما مداعاة سخرية من الشّباب أحياناً، والإعجاب في أحيان أخرى. كانتا نشازاً عن الشّائع الذي يفترض بأنّ لا علاقة بين الكرة والنساء، لأنّ كرة القدم بالذات معقلٌ ذكوري عتيد. وكان من الجميل رؤية البهجة التي نَشرَتاها في الشوارع.

يا غزلان... ويا نسرين

قبلها بشهور قليلة، رأينا حالة فريدة في الجانب الآخر، مع عكس الطّرفين، اللّاعب والمتفرّج. بتشجيع جمهور المقاهي الشعبية لمنتخب كرة القدم النسوية الذي كان ساخطاً على أسود الأطلس، فشفى غليله بتشجيعٍ حماسيّ للّبؤات: هيا يا غزلان، برافو يا سناء، انتبهي يا نسرين... وكأنّنا قفزنا في آلة الزمن إلى بُعد آخر، نرى فيه الرجال التقليديين أصحاب مقولة "لا مجال للنساء خارج البيت"، وهم يشجعون المنتخب النسوي. بعد أن مرّ المنتخب الرجالي بمراحل فراغ قبل كأس العالم، وقبل مجيء الظاهرة وليد الركراكي. وجد هؤلاء أنفسهم أمام فرحة تَأهّل منتخب النساء إلى نصف نهائي كأس إفريقيا. وهو إنجازٌ لم يحقّقه فريق الأسود منذ فترة، على الرغم من الإمكانيات الهائلة التي تُتاح له. بل إنّ اللبؤات تأهّلن لأول مرّة في تاريخ كرة القدم النسوية العربية إلى منافَسات كأس العالم. وسقطت الحواجز النّفسية أمام واقع جديد كسر الاحتكار الذّكوري لكرة القدم في الفضاء العام.

ربما يُعيد البعض إنجاز اللبؤات في بطولة إفريقيا لكرة القدم النسوية إلى حقيقة أنّه حدث داخل المغرب، مع تنظيمه للبطولة، ولولا ذلك لما تألّقن. وهو مجرد تكهّن فيما يتعلق بنتائج المنتخب، وحقيقة لا يمكن إنكارها، فيما يتعلّق بالانقلاب في موقف الجمهور، الذي لولا تنظيم المغرب للبطولة، والنقل المباشر لكل المباريات، لما انتشر الاهتمام بينه، كالنّار في كومة تبن. الطريف أن الرجال تابعوا هذه البطولة أكثر من النساء، بالنّظر إلى أنهم الجمهور الكروي الأكبر.

ربما علينا الانتظار طويلاً قبل أن يتطور اهتمام النساء بالكرة، بالشكل الذي هو عليه عند إخوتهن الرجال. ليس فقط بسبب العادة التي لم تنتقل إليهن بعد، بل بفعل طبيعة الحياة. فالكرة "شيء" خاص بالمقاهي في الأحياء بشكل خاص، وهو معقل ذكوري مطلق، لا تسليّة فيه سوى مشاهدة الكرة، بالإضافة إلى رياضة "فحص العابرات" بجهاز سكانر طبيعي، يتطوّر عند مدمني الجلوس في المقاهي. فربما تبقى الرياضة وكرة القدم بالخصوص، لعبة يتحمّس لها الرجال أكثر من النساء اللواتي ينشغلن أقلّ منهم بتتبع التسلية التنافسية مثل الرياضات.

هاجس الجسد الأنثوي

لا يتعامل كل الرّجال مع هذا الحضور المكثف للنّساء في المشهد الكروي بحياد جنسي يُركّز حصرياً في مستوى اللّعب والنتائج. فكثير منهم يشاهدون على سبيل المثال كأس العالم لكرة القدم النّسوية، ولا يغيب عنهم تفحُّص أجساد اللّاعبات، والتعليق عليها. يقارنون بين نوعية اللّباس الرّياضي الذي يرتدينه، ودرجة إثارته. فمنهم من يرى البذلة الأقلّ حجماً هي المثيرة، ومن يؤكّد أن اللّباس الطويل للّاعبات المحجبات "مثلاً"، هو الأكثر إثارة. فتنبني شعبية اللاعبات في هذا السّياق على أشكالهن: فذوات المنحنيات الأنثوية والجمال اللّافت محل اشتهاء علني. والأخريات اللواتي تميل أجسادهن إلى أن تكون أكثر ذكورية، يتعرضن للتنمّر، لأنهن لسن "كاملات الأنوثة".

بدأ تشجيع جمهور المقاهي الشعبية لمنتخب كرة القدم النسوية حين كان ساخطاً على "أسود الأطلس"، فشفى غليله بتشجيعٍ حماسيّ للّبؤات: هيا يا غزلان، برافو يا سناء، انتبهي يا نسرين... وجد هؤلاء أنفسهم أمام فرحة تَأهّل منتخب النساء إلى نصف نهائي كأس إفريقيا. وهو إنجازٌ لم يحقّقه فريق الأسود منذ فترة، على الرغم من الإمكانيات الهائلة التي تُتاح له. 

يحدث هذا في مجتمعات تُطلَب فيها الفتوى حول مشاهدة النّساء لمباريات كرة القدم. فكيف سينظر الرجال بندّية إلى الرِّياضيات؟ للعلم، فالفتاوى حول كرة القدم تُصْدِر "اجتهادات" مثل هذه: "للمرأة أن تنظر من الرجل ما لا يثير غريزتها، ولا يحرّك شهوتها، فإن كانت مشاهدة المرأة للرّجل وهو يلعب الكرة لا يحرك فيها شيئاً، فلا يمكن القول بحرمته، وهو مباح". فماذا عن العكس؟ كيف تقنع المجتمع بأن ينظر إلى مباراة تلعب فيها نساء من غير أن يفكر بأنها حرام؟

من الرفض إلى الاستغلال

كان حلمُ اللّعب في المنتخب النسوي خيالاً جميلاً ربّيته لسنوات خلال مرحلة الصِبا. على الرغم من أنّني لم أكن أمارس أيّ رياضة على الإطلاق، فهذا لم يكن متاحاً. لكن بسبب هوسي بكرة القدم، تمنّيتُ لو أنّني ألعب مع المنتخب النسوي. كان ذلك في سنوات التسعينيات، وكنتُ الفتاة الوحيدة في العائلة التي نمى لديها هوس كرة القدم، على الرغم من أنّ الأسرة لم تكن مصدر ذلك الهوس. فالكرة في تسعينيات القرن الماضي في طنجة، كانت تعني البطولة الإسبانية، التي كانت تُلتقط على الموجات الأرضية، بسبب القُرب الكبير مع إسبانيا (أقل من أربعة عشر كيلومترا بين ضفتي طنجة وطريفة الإسبانية). ولأنّها كانت تحتاج لواقط خاصّة، واشتراكاً، كانت المقاهي هي الوحيدة التي تتحمّل كلفته. فانحصرت متابعة المباريات في المقاهي التي كانت ذكورية بشكل كليّ آنذاك. إذاً فما من مصدر لهذا الشّغف بالكرة، سوى الفضول تجاه كل مصادر الحياة.

ربما علينا الانتظار طويلاً قبل أن يتطور اهتمام النساء بالكرة، بالشكل الذي هو عليه عند إخوتهن الرجال. ليس فقط بسبب العادة التي لم تنتقل إليهن بعد، بل بفعل طبيعة الحياة. فالكرة "شيء" خاص بالمقاهي في الأحياء بشكل خاص، وهي معقل ذكوري مطلق، لا تسليّة فيه سوى مشاهدة الكرة، بالإضافة إلى رياضة "فحص العابرات" بجهاز "سكانر" طبيعي!

بين صعوبة تقبّل المجتمع لهن، والمضايقات التي قد يتعرّضن لها في الملاعب، وصعوبة الجمع بين مسار رياضي احترافي والزواج، تجد الرياضيات أنفسهن أمام حواجز قد تُوقف مسار كثير منهن في أي لحظةّ. لكن لحسن الحظ، هذه الحواجز قلّت لدى فئات يزداد عددها، مما سمح بتألق عدد أكبر من الفتيات والنساء اللواتي اخترن الرّياضة كسبيل حياة. 

كان واقعاً لم يتعامل معه رجال العائلة بترحيب. فالكرة ليست – في نظرهم - شيئاً أنثوياً، لا لعباً ولا متابعة. حينها كانت نواة المنتخب النسوي قد بدأت تتشكّل. وكان المغرب من أوائل الدّول العربية التي اهتمّت بهذا الجانب. لكن لم يتجاوز كونه مسألة ثانوية لدى المسؤولين عن كرة القدم، كنوع من الترضية و"البريستيج". بعد عقود، اختلف الوضع وأصبحت النّساء ملْح المدرّجات. يعطي وجودهن، ولو بدرجة خفيفة، صورة إيجابية عن مجتمعهن الذي لا يحرمهنّ هذه المتعة. الوجه الآخر لهذا الحضور، أنه صار يُستغل للتّرويج، وتنويع عناصر النقل التلفزيوني الذي لن يكون مشوقاً من غير ظهور شابات جميلات. هنا أيضا تحضر المرأة جسداً لا كائناً مكتملاً، فيحوّلها الجشع الإعلامي الاقتصادي، إلى رمز جذب وتسلية وتأثيث للفضاء.

حَكَمات ومدرِّبات أيضاً

لم تطرق النّساء باب كرة القدم من باب اللّعب فقط، بل دخلن التدريب والتحكيم. فحسناء الدومي، مدربة فريق "اتحاد الفقيه بن صالح"، الذي يلعب في دوري الدرجة الثانية، أول مدرّبة تقود فريقاً كروياً للرجال في المغرب. ولا يتجاوز عمر حسناء - التي اختارها الفريق الشهر الماضي -29 عاماً، مع العلم أنّها لاعبة سابقة. وفي التحكيم دخلت بعض النّساء المهنة، لكن بنسب محدودة، لم تشكل بعد حركة قادرة على تغيير الصورة. 

ومن أبرز "الحَكَمات" اللّواتي عرفتهن كرة القدم في المغرب، بشرى كربوب التي قادت عدداً من مباريات الدّوري الاحترافي في كرة القدم، ونهائي كأس العرش، العام الماضي، في سابقة هي الأولى من نوعها، التي تحكِّم فيها امرأة مباريات الرجال في المغرب. وهي أوّل "حكَمة" مغربية تشارك في إدارة مباريات "كأس أفريقيا للأمم" الأخيرة. ورافق كربوب في إدارة نهائي كأس العرش، "حكَمة" أخرى هي فتيحة الجرمومي، وهي أيضاً حاصلة على الشّارة الدولية للفيفا، كما سبق لها أن شاركت هي الأخرى في قيادة مباريات الدوري المغربي لكرة القدم.

تُصْدِر الفتاوى حول كرة القدم "اجتهادات" مثل هذه: "للمرأة أن تنظر من الرجل ما لا يثير غريزتها، ولا يحرّك شهوتها، فإن كانت مشاهدة المرأة للرّجل وهو يلعب الكرة لا يحرك فيها شيئاً، فلا يمكن القول بحرمته، وهو مباح". فماذا عن العكس؟ كيف تقنع المجتمع بأن ينظر إلى مباراة تلعب فيها نساء من غير أن يفكر بأنها حرام؟

كانت بشرى التي تعمل شرطيّة، مرشّحة لتكون ضمن طاقم التحكيم في كأس العالم 2023، ولكن وقع الاختيار على ثلاث "حكمات" من فرنسا ورواندا واليابان، ضمن قائمة 36 حكماً اختارتهم الفيفا. قبل بشرى، حققت "الحكَمة" خديجة رزاك إنجاز الرّيادة بأن تكون أول امرأة تقود مباراة في البطولة الوطنية لكرة القدم في موسم 2003-2004. فيما تُعتبر كريمة خاضري أصغر "حَكَمة" دولية على مستوى الرجال والنساء، كما أنها أول "حَكمة" محجّبة في تاريخ كرة القدم المغربية، مع الإشارة إلى أنها هي أيضاً بدأت لاعبة قبل الانتقال الى التحكيم.

إنما ولكن ولعل

وجود النساء داخل الملعب في بيئة ذكورية، بقدر ما هو مؤشّر على تغيير العقلية الذّكورية في معقلها، هو أيضا مؤشّر على جرأة بعض النساء اللّواتي تحمّلن كل شيء من أجل ما يحببنه. فلا يمكن تجاهل المضايقات والتحرش والتنمر الذي ستتعرّض له أيّ امرأة دخلت الملعب وسط الرجال. لذا كل امرأة منهن تُغيِّر في جسدها ووجودها، باختيارها مجالاً غير يسير. فكلما شاهدنا تصريح اللاعبات، كباقي الرّياضيات في بلدان المنطقة، نسمع كلمات "المعاناة" و"التضحية" و"الصبر"، بدل أن نسمع عن المسار الباهر، ودعم المؤسسات والمدربين. فهي "رحلة جبلية... رحلة صعبة"، لا تواصلها سوى القويّات جداً بين الرّياضيات، والأكثر إصراراً من بينهن. فبين صعوبة تقبّل المجتمع لهن، والمضايقات التي قد يتعرّضن لها في الملاعب، وصعوبة الجمع بين مسار رياضي احترافي والزواج، تجد الرياضيات أنفسهن أمام حواجز قد توقف مسار كثير منهن في أي لحظةّ. لكن لحسن الحظ، هذه الحواجز قلّت لدى فئات يزداد عددها، مما سمح بتألق عدد أكبر من الفتيات والنساء اللواتي اخترن الرّياضة كسبيل حياة.

اختلف الوضع الآن وأصبحت النّساء مِلْح المدرّجات. يعطي وجودهن، ولو بدرجة خفيفة، صورة إيجابية عن مجتمعهن الذي لا يحرمهنّ هذه المتعة. الوجه الآخر لهذا الحضور، أنه صار يُستغل للتّرويج، وتنويع عناصر النقل التلفزيوني الذي لن يكون مشوقاً من غير ظهور شابات جميلات. هنا أيضا تحضر المرأة جسداً لا كائناً مكتملاً، فيحوّلها الجشع الإعلامي الاقتصادي، إلى رمز جذب وتسلية وتأثيث للفضاء.

لعل إنجازات نوال المتوكل ونزهة بدوان وفاطمة عوام وزهرة واعزيز وحسناء بنحسي وغيرهن الرّائدة، غيّرت نظرة المجتمع المغربي إلى الممارسة الرياضية الاحترافية للنّساء. لكنّها على المدى البعيد لم تُعِد إنتاج بطلات مثلهن. على الرغم من إنهن (على الأقل) فتحنَ المجال أمام مشاركة واسعة للفتيات والنساء في رياضة ألعاب القوى، كما في رياضات أخرى. 

ومَرَّ على هذا عقود، وما زلنا رغم الإنجازات الفردية، نتعثّر في توفير بيئة محفِّزة للرياضيات، خاصة في الألعاب الجماعية مثل كرة القدم التي تحتاج منظومة كاملة، من مدارس كرويّة وفرق وبطولة وطنية قوية، تؤدّي إلى منتخب قوي. ولعل هذا البناء سيكون كفيلاً بتغيير مواقف المجتمع بشكل جذري لا موسمي مرتبط بإنجاز واحد.  

مقالات من المغرب

المغرب... مَن أثقلَ جيوب العيد؟

يبدو المشهد مثاليّاً، ولا شيء ينغصّه. فالملابس جديدة، والوجوه هانئة، كأن الحياة بهية والجو بديع. بل تتلوّن الجلابيب أكثر كل سنة، وتبدو أغلى تكلفة وأرفع جودة. فهل صار المغاربة أغنى،...

للكاتب نفسه

المغرب... مَن أثقلَ جيوب العيد؟

يبدو المشهد مثاليّاً، ولا شيء ينغصّه. فالملابس جديدة، والوجوه هانئة، كأن الحياة بهية والجو بديع. بل تتلوّن الجلابيب أكثر كل سنة، وتبدو أغلى تكلفة وأرفع جودة. فهل صار المغاربة أغنى،...