اليسار في تونس اليوم: محاولة لتلمس المعضلة

كيف أصبح مشروع حكم غير ديمقراطي من جهة القيم والمبادئ والممارسات مشروعاً مقبولأ شعبياً في بلد لا يزال يعيش مخاضاً ثورياً؟ هل يمكن وهل تستطيع الأقلية الديمقراطية، واليسارية تخصيصاً، أن تعيد بناء إستراتيجية فعلها - على الأقل في الوقت الحاضر - على قبولها بوضعها الأقلي بل على اعتباره شرط البقاء الممكن للفعل والتغيير الديمقراطي الراديكالي؟
2023-05-18

ماهر حنين

كاتب وباحث من تونس


شارك
غرافيتي لمجموعة أهل الكهف - تونس

تواجه كلّ القراءات والتحليلات الراهنة للحياة السياسية التونسية حقيقة صلبة، هي بوجه أدق في مقام المفارقة منذ منعرج 25 تموز/ يوليو2021، بعدما أقدم رئيس الجمهورية على حل الحكومة ثم البرلمان وإلغاء دستور 2014، قبل أن يَعرض على الاستفتاء في صيف 2022 دستوراً جديداً كرّس الحكم الفردي، وأن يدعو لاحقاً الى انتخابات برلمانية جديدة، في كانون الاول/ ديسمبر 2023، قاطعتها أهم قوى المعارضة، وعزف عنها الناخبون، وأفرزت مجلساً تشريعياً ضعيف الشرعية والتمثيلية السياسية والوظيفة في النظام السياسي الجديد.

مضمون هذه المفارقة هو تحوّل المطلب الديمقراطي والحقوقي الى مطلب أقلي ولا- شعبي، على الرغم من هول ما حصل، مقابل حماسة وتأييد القبول الشعبي لمنظومة الحكم الحالية التي تتقدم بخطى متسارعة نحو تصفية الخصوم السياسيين وخنق المجتمع المدني ومحاصرة الحريات العامة. فالحديث عن الديمقراطية والحرية وسلطة القانون لا يجد صدىً واسعاً اليوم مقابل الصّدى الذي يجده الخطاب الرئاسي القائم على الحزم والقوة واستعداء النخب وحماية الوطن ومحاربة الفاسدين والمتآمرين.

نحن بالحدّ الأدنى أمام مأزق للعودة إلى المسار الديمقراطي. فمؤسسات الدولة تحت إدارة الحكم الفردي صماّء وعاجزة عن لعب أي دور، والمجتمع المدني والمعارض في عزلة، ولم يقدر على قلب ميزان القوى على الرغم من طبيعة الأزمة المركّبة التي تعيشها البلاد سياسياً واقتصادياً واجتماعياً.

حجة مؤيدي الرئيس أن الديمقراطية هي اختيار الشعب لحكامه عن طريق الاقتراع. فالشعب هو مصدر السلطة وهو غايتها، ومن الحيف القول أن حكم "قيس سعيّد" اليوم معادي للشعب أو مسلّط عليه دون إرادته الحرة. حجة معارضيه أن المواطنين المغتربين والبسطاء لا يدركون مصالحهم وهم في حاجة الى توعية جديدة بخطورة أوضاعهم، وحين يستيقظون من سباتهم العميق سيقفون على حجم الكارثة ويندمون على تخاذلهم. بهذا يتقابل إطارين إدراكيين للواقع، الأول سنده الـتأييد الشعبي الآن والثاني الغضب الشعبي القادم والمنتظر. وفي الحالتين لا أحد يستطيع أن يبني خطابه بمعزل عن الشعب.

مضمون المفارقة أن الحديث عن الديمقراطية والحرية وسلطة القانون لا يجد صدىً واسعاً اليوم مقابل الصّدى الذي يجده الخطاب الرئاسي القائم على الحزم والقوة واستعداء النخب وحماية الوطن ومحاربة الفاسدين والمتآمرين. وكلما استمرت حالة الإنكار لهذه الحقيقة تأخرت الحلول الممكنة للمأزق ولشروط إمكان فعل سياسي جديد.

عديدة هي المساهمات التي تناولت شعبوية الرئيس قيس سعيّد، سواء بمنهج مقارَن مع شعبويات أخرى في العالم، أو بمنهج تحليل محلي منظور إليه في السياق التاريخي والأنثروبولوجي التونسي، وذلك بغاية فهم المفارقة الرّاهنة. غير أن ما نتناوله يتنزّل ضمن زاوية أخرى هي النظر في موقع وفاعلية الأقلية الديمقراطية اليوم في تونس في ظلّ هذه الترسيمة الجديدة التي لم يتعود عليها المناضلون من أجل الحرية وحقوق الإنسان عند بناء خطابهم قبل الثورة وحتى بعدها، على الرغم من ثقل التسلطية السياسية وما تنتجه من خوف، إذ تحدثوا لعقود باسم الشعب المقصى والمغيب، ليجدوا أنفسهم اليوم أمام الشعب الغائب والرافض لدعوات التعبئة.

ففي نظر الديمقراطيين واليساريين تحديداً، يعود تعطل الديمقراطية الى الهيمنة الفوقية التي تمارسها أجهزة الدولة والحكم، سواء كانت قمعية أو أيديولوجية. وهم بهذا ورثة فكر سياسي نقدي يرى أن التقنيات التي تستخدمها الدولة هي تقنيات مبتكَرة بالأساس لتغييب الراي العام بالخوف أو بالاحتواء، مما يجعل من المستحيل تقريباً التغيير الجذري لموازين القوى سلمياً وعبر صندوق الاقتراع. فالدولة في ظل هذه الهيمنة تعيد إنتاج سلطتها على المجتمع ولو تغيرت المظاهر.

 من هنا يكون التحدي الذي يواجه الديمقراطيين هو تفضيلات الجماهير للاّديمقراطية، ولا - مبالاتهم حيال تزوير الانتخابات وحيال الرقابة على الصحافة وقمع المجتمع المدني وسطوة المؤسسة الأمنية وعدم استقلال القضاء. في كلمة، كلّ ما تبديه الجماهير من سلبية أمام تركيز كلّ وسائل تقييد التحول الديمقراطي والارتداد عليه يثير غضب النخب ويجعلها تقف عند عجزها. فبضرب من انقلاب سريع للأوضاع في تونس، تحوّل محور الصراع من صراع حول مآل الثورة وهل هو خدمة المجتمع أم هو عودة الدولة القوية بقوة البطش لا بقوة القانون.

السؤال المزدوج المطروح والذي لا يقبل إجابة آلية هو كيف أصبح مشروع حكم غير ديمقراطي من جهة القيم والمبادئ والممارسات مشروعاً مقبولأ شعبياً في بلد لا يزال يعيش مخاضاً ثورياً؟ وهل يمكن وهل تستطيع الأقلية الديمقراطية، واليسارية تخصيصاً، أن تعيد بناء إستراتيجية فعلها - على الأقل في الوقت الحاضر - على قبولها بوضعها الأقلي بل على اعتباره شرط البقاء الممكن للفعل والتغيير الديمقراطي الراديكالي؟

وزن الحاجة الى الدولة الوطنية القوية ممثلةً في المؤسسة العسكرية وفي العائلة الحامية وفي الشعور الديني أكبر من وزن الحاجة الى مجتمع ديمقراطي متعدد ومفتوح. فضمان الوحدة ومطلب الاستقرار يأتيان في مقام أرفع من مقام الاختلاف والتغيير. 

ثلاثة مداخل ممكنة تظل على صلة وثيقة ببعضها البعض للتفكير في المفارقة المطروحة، دون ادعاء حلها نهائياً. أولها تحديد دلالة "الأقلية الديمقراطية" وتجليات كينونتها كأقلية في المجتمع والثقافة السائدة والحياة السياسي، خاصة بعد 2011. وثانيها مقدمات الوعي بحتمية الكينونة الأقلية لكل نضال ديمقراطي جذري، وثالثها هي شروط إمكان استمرارها كأقلية باعتبارها قد تكف على أن تكون قوة تغيير جذري حين تكف أن تكون أقلية.

الديمقراطي الأقلي و اللاّديمقراطي الأغلبي

ظلت الثقة في النخب السياسية والأحزاب والمنظمات وحتى الصحافة ضعيفة في تونس حتى بعد الثورة، مقارنة بالثقة بالعائلة وبالمرجعية الدينية والمؤسسة العسكرية. وعلى الرغم من انفتاح المجال العمومي وتشكّل فاعلين اجتماعيين جدد يتمتعون بحرية غير مسبوقة، خاصة في المدن، بقيت نسب الانخراط في الجمعيات والأحزاب السياسية ضعيفة. وهو مؤشر نفهم من خلاله أن وزن الحاجة الى الدولة الوطنية القوية ممثلةً في المؤسسة العسكرية وفي العائلة الحامية وفي الشعور الديني أكبر من وزن الحاجة الى مجتمع ديمقراطي متعدد ومفتوح. فضمان الوحدة ومطلب الاستقرار يأتيان في مقام أرفع من مقام الاختلاف والتغيير.

وتترجم الثقة في الدين والمرجعية الدينية استمرار قوة المرجعية المعيارية والأخلاقية الدينية قبل الروابط الدنيوية المعلمنة. بل أن الديني هنا والروحي متداخلان حتى مع أنثروبولوجيا التصوف والروابط التقليدية التي تظل أكثر جاذبية، وهو ما يفسِّر في تونس وفي كامل المنطقة العربية سهولة التوسع التنظيمي والتأييد الشعبي لحركات الإسلام السياسي التي بقي عرضها الدعوي والخيري والسياسي متداخلاً مع السياسي. وقد جاء فشل الإسلاميين في الحكم ليعمّق عزلتهم حتى داخل الفضاء الديني وحوّل مطالب "مسلم الضمير الداخلي" الى مطالب لا – سياسية، بعد أن أصبح حق التديّن المحافِظ لا يحتاج الى وسيط سياسي يحميه، بل صار من يحميه هو الرئيس سعيّد نفسه كرمز للفصل بين الدين والسياسة ورفض الإتجار بالدين.

وحين نقارن مؤشرات سنة 2008 التي تخص شريحة الشباب - حيث أن 83 في المئة من الشباب التونسي لم يكونوا مهتمين بالحياة السياسية، وأن 64 في المئة لم تكن تعنيهم الانتخابات، ولا يستهويهم الانخراط في الجمعيات الوطنية - بالأرقام الجديدة بعد 2011، لا نلمس تغييراً كبيراً على مستوى العمل الديمقراطي والمدني في زكيزته السياسية: 3 في المئة منخرطون فعلاً و5 في المئة يفكرون في المشاركة النشطة. 91.2 في المئة من شباب الريف و68.7 في المئة من شباب الحضر يقولون إنهم لا يثقون بالعالَم السياسي (1).

لا تبدو الثورة قد قلبت رأساً على عقب العلاقة بالمؤسسات السابقة، ولا حتى بالسلوك المواطني المنفتح على الجمعيات والأحزاب، مما جعل المسار التاريخي لما بعد 2011 يتقدم على وقع التباعد بين حركة المجتمع والبنى المؤسساتية، على الرغم من الطفرة المسجلة في السنوات الأولى.

فسواء اعتمدنا حجة الضعف الأنثروبولوجي لمفهوم المواطنة الحديث ولقيم الاختلاف، ومن ثَم أقلية الداعين اليه والمتقبلين له، أو حجة الدولة القوية ومقبولية الحاكم المستبد الذي يستجيب لحاجات الشخصية التسلّطية، فإن ذلك يضع التجربة التونسية اليوم في مرحلة تناقض بين مشروع الدولة ومقومات الإصلاح السياسي والتنمية الديمقراطية. وما يميّز هذا الدور الجديد للدولة خاصة بعد 25 تموز/يوليو هو القبول الشعبي الواعي أو العفوي لسلطتها المركزية القوية فضلاً عن عودة جزء من النخب للتنظير للحاجة الوطنية والتاريخية لإيديولوجية الدولة القوية (حتى وإن لم تعد راعية) للتصدي لإيديولوجية الدولة الليبرالية.

جاء فشل الإسلاميين في الحكم ليعمّق عزلتهم حتى داخل الفضاء الديني وحَوّل مطالب "مسلم الضمير الداخلي" الى مطالب لا – سياسية، بعد أن أصبح حق التديّن المحافِظ لا يحتاج الى وسيط سياسي يحميه، بل صار من يحميه هو الرئيس سعيّد نفسه كرمز للفصل بين الدين والسياسة ورفض الإتجار بالدين. 

ملخّص الوضع الراهن هو الضعف المزدوج، التنظيمي والثقافي، للمعارضة الديمقراطية. فالأطر التنظيمية التقليدية منهكة وحالة الوعي السائدة سلبية، وهو وضع لا يجد له الديمقراطيون أنفسهم تفسيراً بل هو مصدر شعور معظمهم بالعجز والإحباط واليأس.

كينونة الأقلي: شرط الفعل الديمقراطي الرّاديكالي؟

 بقدر ما نؤكد على الإقرار بأزمة ديمقراطية المؤسسات وباختلال موازين القوى الرّاهن لفرض العودة الي ديمقراطية مستقرة، فإنه من المهم تحويل زاوية النظر الى ما يعتمل داخل المجتمع ودور الأقليات التي نقصد بها انها أقليات مدنية اجتماعية وسياسية لا أقليات طائفية أو دينية، وهي أقليات على الرغم من ادعاء انسجام المجتمع التونسي، عاكسة للتنوع والاختلاف ولمحاور الصراع من أجل الحرية. وبدلاً من الجمود على موقف عقائدي يضع منوالاً للفعل السياسي، سيكون من المجدي تحليل النضالات المعزولة والمشتتة والنظر إليها كعلامات قوة كامنة، وهو مسار يقتضي بداية إقرار مبدأ الاختلاف والتعدد و العفوية في الفعل الاحتجاجي.

فالاختلاف هو سبب كاف لإحداث التغيير بقدر ما يميل الواقع إلى نفيهما معاً، أي نفي الاختلاف ونفي التغيير في الوقت نفسه. فمن لحظة التصادم يتشقق جدار الحاضر وتلوح في الأفق احتمالات المستقبل. من هنا لم نعد ننظر الي كينونة الأقلي كمياً، أي لا نزن أثر الأقليات بحجمها المادي، الديمغرافي أو الانتخابي، بل نوعياً باعتبار الوجود الأقلي هو حالة محايثة للوجود الأغلبي، دون أن تكون مرئية أو معترف بها. فلكي يكون الاختلاف سبباً كافياً للتغيير، تحتاج الأقليات لتحويل وجودها من اللامرئية الى المرئية. فالحركة النسوية المستقلة عن الدولة مثلاً ليست أقلية من جهة الوزن الديمغرافي للنساء في المجتمع بل من جهة لا - مرئيتها وتهميشها السياسي والذكوري. وحركات مقاومة العنصرية ضد السود لا تقاس قيمتها بكون أعضائها يمثّلون اليوم بحدود 15 في المئة من عدد السكان، بل بما تحمله من قيم إنسانية أصبحت ملحة في ظل موجة العنصرية التي توسعت ضد المهاجرين من جنوب الصحراء. وحركات حقوق الانسان و حقوق مجتمع "الميم ع" لا تستمدّ مشروعيتها من جماهريتها بل من نضالها من أجل انتزاع الاعتراف بها.

ما هو مطروح على اليسار لا يخرج عن هذه المنظومة (Paradigme) الجديدة حيث أصبحت الحركات الاجتماعية والاحتجاجية التي تتشكل ضمن خصوصيتها المطلبية حركات أقلية في ذاتها. فسواء نظرنا الى المعطلين أو النساء العاملات في القطاع الفِلاحي أو ضحايا الأشكال الجديدة للتشغيل الهش فهي كلها غير قابلة للتحول موضوعياً الى حركات أغلبية، ولا تستطيع أن تنصهر في حركة جامعة لأن هوياتها مختلفة وفاعليها مختلفون.

حين نقارن مؤشرات سنة 2008 التي تخص شريحة الشباب - 83 في المئة منهم لم يكونوا مهتمين بالحياة السياسية، و64 في المئة لم تكن تعنيهم الانتخابات ولا يستهويهم الانخراط في الجمعيات الوطنية - بالأرقام الجديدة بعد 2011، لا نلمس تغييراً على مستوى العمل الديمقراطي والمدني القائم على أساس سياسي. فلا تبدو الثورة قد قلبت رأساً على عقب العلاقة بالمؤسسات السابقة.

إن النظام الرأسمالي الجديد، ينتج اليوم أقليات ثورية. وبقدر ما كان مطلب وحدة العمال إستراتيجي وضروري وممكن أواخر القرن التاسع عشر و بداية القرن العشرين، فإن صعود الفاشية وتطور بنية النظام الرأسمالي صارت تفرز أقليات غير قابلة للوحدة، بل إن طبيعتها الثورية تكمن في طبيعتها الأقلية. بهذا قد يكون شعار المرحلة "يا أقليات العالم لا تتحدوا" أي لا تتحولوا الى ذات ثورية واحدة، فهذا غير ممكن وغير مجدي للفعل الثوري.

ما يطرح إذاً هنا ليس انصهار الأقليات في وحدة إيديولوجية وتنظيمية وهرمية، بل تمدد حضور الأقليات أفقياً وتوسيع مدى تأثيرها الاجتماعي والقيمي ومن ثَمّ السياسي. فالإدراك السياسي لدور الأقليات يترجم من خلال تحويل دلالة الأقلية أو الوجود الأقلي كحالة اعتلال مقارنة بالأغلبي المعياري، ولا كحالة احتفاء فلكلوري أو دعائي مغالط لمجتمع متسامح وهمي، بل كتموقع واع ضمن سيرورة الصراع الاجتماعي والسياسي.

تونسياً، عاش اليسار حالة تخبط نظري وعملي يعود في تقديرنا الي عدم قبوله هذا التموقع السياسي ضمن حراك الأقليات التي تنتجها العولمة الجديدة، ونظر الى هزائمه الانتخابية (2) وضعف تنظيماته الحزبية وضمور حاضنته الجماهرية من جهة الأسباب الخارجية، وهي تآمر الخصوم وقلة ذات اليد المادية و"تلاعب الرجعيين بعقول الناس البسطاء".

فمرشحو اليسار الأربعة للانتخابات الرئاسية مجتمعين في 2019 لم يحصدوا أكثر من 2 في المئة من الأصوات، وسجلت الانتخابات البرلمانية تراجعاً كبيراً لليسار البرلماني حيث لم تحصد قوائم "الجبهة الشعبية" المنقسمة على نفسها سوى 62 الف صوت، وهو نصف عدد أصواتها حين كانت موحَّدة سنة 2014. وعرفت هذه المحطة الانتخابية صعود التيار الديمقراطي الى المركز الثالث ب 6.45 في المئة من الأصوات معتمداً على قاعدة انتخابية حضرية من الطبقة الوسطى، حساسة لشعار مقاومة الفساد ومطلب الحوكمة الرشيدة.

فسواء أرجعنا هذا التراجع لسوسيولوجيا السلوك الانتخابي الذي تحدده الروابط العائلية أو المجالية أو المهنية أو الدعائية، أو الى طفولية اليسار الانتخابي بتكراره الأخطاء نفسها منذ انفتاح المجال السياسي، فإن النتيجة نفسها، وهي لا - شعبيته اليوم وضيق مجال توسعه. وكلما استمرت حالة الإنكار لهذه الحقيقة تأخرت الحلول الممكنة للمأزق ولشروط إمكان فعل سياسي جديد.

ملخّص الوضع الراهن هو الضعف المزدوج، التنظيمي والثقافي، للمعارضة الديمقراطية. فالأطر التنظيمية التقليدية منهكة وحالة الوعي السائدة سلبية. وهذا مصدر شعور معظمهم بالعجز والإحباط واليأس. المطلوب الانكباب على البحث عن حلول للتضامن والتقاطع بين المقاومات الأقلية، لبناء سردية مشتركة لا تنفي التنوع بقدر ما تُقوّي قدرات الفعل والمناصرة والدفاع عن الحقوق.

هذه الحالة الذهنية الإنكارية لليسار جعلته في الغالب في مواجهة التسلطية الصاعدة في تونس دون عرض سياسي متكامل، حيث ظل يكرر التنديدات الأخلاقية ويشجب الهجمات على مؤسسات ومبادئ الديمقراطية، ويستنكر المظالم التي يرتكبها النظام الاقتصادي. فعلى هذه الأرضية الأخلاقية تحديداً لا يزال الخطاب السياسي اليساري يراوح مكانه، لأن الراديكالية الأخلاقية الشعبوية واللاديمقراطية فرضت نفسهاعلى شكل رغبة في التطهر الكامل من السياسي، ولا تزال تشد إليها الرأي العام.

من جهة أخرى، كان الوجود الطوعي أو الاضطراري لليسار في موقع التابع ضمن أغلبيات إيدلوجية علمانية حيناً أو ضمن أغلبيات حاكمة ( تحالف "الترويكا" من 2011 إلى 2013) عاملاً مساهماً في إدامة الغموض، لأنه نقل الرسالة والدور الممكنين من تقبل وتمثّل موقع ودور الوجود الأقلي الى توهم الوجود الأغلبي مع حلفاء وقتيين، وهو ما عمق طمس الهويات المقاومة المختلفة وساهم في لا - مرئيتها في حُمى البحث عن نظام خطاب جامع وفضفاض.

من هنا خسر اليسار موقعه كأقلية هي بالضرورة ثورية لأنها راديكالية بالمعنى الاجتماعي وخسر موقعه التابع ضمن تحالفات واسعة لأن هذه التحالفات لم تكن فعلاً "كتلة تاريخية"، بل كانت هشة. ثم هي لم تعد ممكنة الآن في ظل تنافر المعارضة، علاوة على أنها ضعيفة الجدوى في ظل الاستقطاب الذي أحدثه قيس سعيّد.

ويظل السؤال قائماً

قبول الوعي اليساري بالموقع الأقلي كشرط للفعل الثوري راهناً ومستقبلاً، وتخليه عن وهم الهيمنة الأغلبية باسم الفقراء لتحقيق العدالة الاجتماعية، أو باسم العلمانيين لهزيمة المشروع الإسلامي، لا يحلّ المشكل إلا جزئياً. فهو ينقذ الفعل السياسي من العدمية ولكن تظلّ أمام اليسار الديمقراطي مهمتان:

الأولى هي التوصل الى عرض نظري وعملي لا يجعل من حالات الإكتئاب الفردي والعزلة والخوف المتنامية الآن أعراضاً فردية، بل حالات تعود الى المناخ السياسي والوضع الاجتماعي. وهو ما يعني تسييس كلّ تجليات القلق والإقصاء التي يعيشها الأفراد ويبحثون لها عن حلول فردية بتحويلها الي مطالب سياسية، حقوقية وسياسية وثقافية.. مثل هذا الجهد ليس هيناً لأنه يعني التصدي لزحف الأيدولوجية النيو ليبرالية التي تعلن نهاية عصر المجتمعات وحلول عصر الأفراد. فكل المشاكل فردية وكل الحلول فردية. كل ّ هذا في سياق تعميم ثقافة نفسية ونرجسية تجعل الفرد الذي يواجه نفسه وحيداً، ومُقتلعاً من جذوره وروابطه الجماعية. بناء الروابط وإنشاء الهويات الأقلية عمل دؤوب يحفظ احتمالات المواجهة بين الجديد القادم والماضي الذي لم يمت بعد.

مهام النقد الاجتماعي المنتظرة في هذا السياق تقوم على خط معرفي حرج من خلال محاولات ربط فهم الموضوعات الاجتماعية - ودون نفي مساهمات التحليل النفسي - بالوضع السياسي المحلي والعالمي، أي بما تفرزه العولمة من جهة وعودة التسلطية من جهة ثانية، وانكسار الحلم الثوري في وضع يصبح فيه بناء الهويات الجماعية المقاوِمة، كهويات أقلية متعددة ومتجددة، مهمة مركزية مقابل صورة الزعيم الأوحد والشعب المنسجم والمطيع.

بدلاً من الجمود على موقف عقائدي يضع منوالاً للفعل السياسي، سيكون من المجدي تحليل النضالات المعزولة والمشتتة والنظر إليها كعلامات قوة كامنة، وهو مسار يقتضي بداية إقرار مبدأ الاختلاف والتعدد والعفوية في الفعل الاحتجاجي. المطروح هنا ليس انصهار الأقليات في وحدة إيديولوجية وتنظيمية وهرمية، بل تمدد حضور الأقليات أفقياً وتوسيع مدى تأثيرها الاجتماعي والقيمي ومن ثَمّ السياسي. 

المهمة الثانية هي الانكباب على البحث عن حلول للتضامن والتقاطع بين المقاومات الأقلية لبناء سردية مشتركة لا تنفي التنوع بقدر ما تقوي قدرات الفعل والمناصرة والدفاع عن الحقوق. فحتى وإن كانت إستراتيجية الفعل السياسي الجديدة هي الحق في الوجود الأقلي بكلّ تعبيراته الجندرية والثقافية والإبداعية والطبقية، فإن تشكّل الهويات الأقلية كهويات مفتوحة ومتحولة لن يتحقق في ظل نظام حكم تسلطي ولا في ظل مجتمع إقصائي. وسقوط التسلطية لن يأتي دون تغيير لميزان القوى.

حالة العطالة التي هي عليها اليوم مآلات الثورة، تختلف عن الأزمات السابقة التي وضعت الإسلاميين والعلمانيين وجهاً لوجه، أو تلك التي وضعت الديمقراطية الليبرالية قبالة الديمقراطية الاجتماعية. فهي تتعلق بدخول المجتمع الواسع، وبكلّ فئاته تقريباً، مرحلة القبول السلبي بالتسلطية، مما يفترض ابتكار أشكال فعل جديدة تحافظ على علاقات توتر دائمة بين المطالِبين بالحرية والعدالة ومنظومة الحكم الجديدة، وابتكار فضاء سياسي ومدني مفتوح، يؤسس للتضامن ويحفظ راديكالية التنوع.  

______________________

1 - "مبادرة الإصلاح العربي" – "مشاركة الشباب في الانتخابات في تونس: بين الموجود والمنشود" 17 آب/ أغسطس 2022  
2 - هشام عبد الصمد وماهر حنين "التمرد والمتاهة. شباب اليسار زمن الثورة والشعبوية" نشاز، تونس 2022 

مقالات من تونس

كيف تعيش تونس الحرب على غزة؟

آخر الشهداء التونسيين مع النضال الفلسطيني محمد الزواري، المهندس التونسي الذي اغتاله "الموساد" أمام بيته في مدينة "صفاقس" (وسط شرق تونس) في كانون الأول/ديسمبر 2016. يومها اكتشف التونسيون ان الشهيد...

للكاتب نفسه

الاحتجاج – الانتخاب - الحوار: ثلاث متغيرات لفهم التجربة الديمقراطية التونسية

ماهر حنين 2023-01-24

يُفصِح التحوّل في طبيعة الحركات ومطالبها مقارنة بالحركات التقليدية، عن التحوّل الهيكلي الذي طال المسألة الاجتماعية عموماً، محلياً وعالمياً، حيث أصبحت خطوط الفرز المتحركة تتمّ - حسب السياقات -بين المدْمَجين...

جدل تونسي غير عقيم حول الشعبوية

ماهر حنين 2022-07-19

وصول قيس سعيّد إلى الحكم كان بمثابة تسونامي قلب المشهد السياسي رأساً على عقبّ وأجّج الجدل حول الشعبوية ليجعل منها عبارة غزيرة التداول في حقول الإعلام والسياسة والعلوم الاجتماعية. فبواسطة...