إعداد وتحرير: صباح جلّول
"الروح اللي رخصت في بلدنا عند الله غالية، وعند الله ما بيروح شيء، ومهما طال الليل لا بد من شمس باكر"، هو آخر ما كتبته المغنية السودانية شادن محمد (36 سنة) على صفحتها على فيسبوك قبل أن تودي بحياتها قذيفة طائشة صباح يوم السبت في 13 أيّار / مايو 2023. دخل الموت إليها في عقر دارها ولم تطلبه، وكذلك لم يطلبه أهل السودان، لكنه ظلّ يصول ويجول بينهم، يغذّيه الصراع العبثي الذي اندلع بين الجيش السوداني و"قوات الدعم السريع" منذ 15 نيسان / أبريل الماضي وراح ضحيته مئات السودانيين ونزوح ما يقارب 700 ألف في البلاد و200 ألف شخص إلى دول مجاورة.
وقائع ما جرى وسيناريوهات لما يجري في السودان
04-05-2023
نساء السودان: أوقِفوا الحرب
28-04-2023
"الموت محاصرنا من كل الجهات"، كانت الفنانة الراحلة قد قالت، وهي المعروفة بكونها ناشطة سياسياً وبتضمين عدد من أغانيها لأفكار المحبة والسلام في الوطن، وقيل أنها كانت تحضّر أغنيات ضد الحرب الدائرة عندما اختصر الموت حياتها. هكذا لم تكن الفنانة شادن محمد تخشى من تبنّي أي رأي سياسي بشكل علني حول أي من الأحداث في بلدها السودان. أحبت الموسيقى وأحبت السودان فغنّت لعالمٍ أكثر سلاماً وتظاهرت لسودانٍ أكثر أماناً. شاركت في مظاهرات العام 2019 وتحركات الانتفاضة الشعبية الكبيرة التي نجحت في الإطاحة بالرئيس عمر البشير، ونادت "تسقط بس"، كما صارت أغنيتها "خيال الحكامة" ترنيمة رددها المتظاهرون في الشارع. اتخذت كذلك موقفاً ضد الانقلاب العسكري ومؤخراً ضدّ الحرب الدائرة بين الجيش السوداني وقوات "الدعم السريع".
ورغم صغر سنها، تُلقب شادن بـ"الحكّامة" وهو ما تُسمّى به النساء المجيدات للشعر والغناء الشعبي والتراثي في دارفور وكردفان بشكل يجعل لهنّ مقاماً رفيعاً بين الناس ورأياً مسموعاً بين الرجال في الحياة العامة، حتى أنهنّ كنّ يشاركن بين القبائل في إدارة الحروب، إلا أنّ الحكامة شادن أرادت تبديل ذلك الدور بدور أكثر إيجابية يكونُ قوامه الدعوة إلى السلام. غنت بشكل خاص لدارفور وكردفان التي وُلدت وترعرت فيها، ودرست الاقتصاد في جامعة أم درمان الأهلية. واهتمت الراحلة بإحياء التراث الشعبي الغنائي لمناطق السودان وبشكل خاص كردفان، وإعادة تأدية تلك الأغاني بطريقتها منعاً لاندثارها.
***
لا تقتل أخوك يا خي
لا تسوّي الكلام النيّ
لبس الخلق والزيّ
خربَ القلوب بالكيّ
...
الفاس وقع في الراس
سمعة عقابنا خلاص
راس فاضي منه الدّين
شايلين السلاح حايمين
تقتل شمال ويمين
للعشرة ما صاينين
تلك بعض كلمات أغنية انتشرت على وسائل التواصل الاجتماعي للحكامة شادن، شاركها المفجوعون على وفاتها المبكرة، ليذكّروا برسالتها وهمووم حياتها وأحلامها للسودان وأهله...
وقبل تلك الحادثة الأليمة بأيام، كانت الممثلة السودانية الشهيرة آسيا عبد الماجد (80 عاماً) قد قُتلت أيضاً في تبادل لإطلاق النار بين الطرفين في شمال العاصمة السودانية الخرطوم. وهي فنانة رائدة بين ممثلات المسرح وأول ممثلة امرأة في السودان أدت أدوار النساء على الخشبة بعد أن كانت تُسنَد تلك الأدوار إلى رجالٍ متنكّرين، بحيث عزز ذلك حضورها في وجدان السودانيين وذاكرتهم الجماعية، فكانت تلقّب بـ"ممثلة السودان الأولى".
لكنّ الحرب عمياء لا ترى هول ما ترتكب على الكبار والصغار. فتلك الطبيبة الشابة، آلاء المرضي قد قتلتها رصاصة طائشة دخلت شباك منزلها في نيسان/ ابريل أوائل أيام الصراع. كان والدها يحضر لها فنجان قهوة بعد عودتها من عملها في المستشفى، فيما اتجهت هي لفتح شباك الغرفة عندما عاجلتها رصاصة غدر في قلبها. أما الوالد الحنون فقد التحق بها بعد 19 يوماً من وفاتها! قتله القهر والحزن على ابنة شابة لم يعد يقدر أن يشرب معها القهوة.
وفي هذه الأثناء، تتوارد أخبار رهيبة عن أكثر من 70 جريمة اغتصاب في أماكن مختلفة في السودان، حيث تُستخدَم أجساد النساء وسيلةً لتصفية حسابات سياسية أو للانتقام! هذا ويُتوقّع أن أغلب العنف الجنسي في هذه الحرب اللعينة لا يتمّ توثيقه أو التبليغ عنه في الأساس، مما يؤكّد هشاشة وضع النساء بالأخص في الحروب وأعمال العنف الدائرة.
هذا ألم السودان الكبير والمتفاقم والمُفجِع، وهذا نزفُ نساء السودان وأولادها.