ماذا بعد يا محتل؟

توقفت جميع الطلقات وبقيت الجثث، أضيفت أعدادٌ جديدة لشهداء فلسطين، أضيفت معاناة جديدة لأطفال يتامى اسودت الدنيا أمام أعينهم. كيف لرصاصة واحدة أن تقتل وتدمّر عوائل كانت قبل ساعاتٍ سعيدة، وكيف لحزنٍ أن يهدأ ولشوقٍ أن يخفت.
أطفال فلسطين

يطرق باب منزلهم بعد أن مشى بين أزقة شارع يافا عائداً من مدرسته التي ليست بعيدة. كان ذلك اليوم جميلاً، سماؤه زرقاء مرصعة بسحب لطيفة. فتحت أمه الباب فدخل مسرعاً تاركاً حقيبته على عتبة الباب. دخل غرفته وأمسك بلعبة الفيديو التي يملكها منذ زمن.

"سامر... تعا يا إبني كُل.. الغداء جاهز".

كانت رائحة الطعام الشهي تفوح في جنبات المنزل. وجد والده قد وصل من عمله. جلسوا أمام الطعام (المنسف الفلسطيني وورق الدوالي الشهي) الذي يرصع وسط الطاولة. كان حديثهم حينها عن اعتقال جديد لقوات الاحتلال لشباب في آخر الشارع والمؤكد أنه بدافع حبه للوطن.

ساد صمت ثم أعقبه سؤال سامر المفاجئ: متى سينتهي كل هذا؟! عصر ذلك اليوم، ذهب إلى ميدان صفرا ملتقى أطفال الحارة، ومجمّع لعبهم. جلسوا قليلاً، أكلوا، لعبوا، وتحاوروا، وبعد كل ذلك ساد الهدوء وكانوا على وشك الرجوع كلٌ إلى بيته إلا أن سامر ومن غير مقدمات صرخ قائلاً: "تعرفوا إني أشجع حدا في العالم ؟؟!"

ناظره أصحابه نظرة يشوبها الاستنكار وكأنهم يقولون ما بال هذا المجنون، وقبل أن يرد عليه أحد، صرخت فتاة في الثامنة من عمرها تقريباً قائلة: "يعني بدك تقول إنك أشجع من أخوي إلي أخذوه الصهاينة من كم يوم عشانه دافع عنا؟"

رد عليها بكل هدوء: "ما فيني قول إنه مانوا شجاع بس...."

اغرورقت عيناها بالدموع ومضت عائدة، انسحب الجميع شيئاً فشيئاً.

قال وكأنما يكلم نفسه: "أنا الأشجع لأني راح أحررها كلها".

عاد إلى المنزل حائراً تائهاً وبفكر ملخبط. دخل المنزل، حلّ واجبه، أكل عشاء تلك الليلة، ولكن بدون والده الذي خرج لأمر طارئ كما أخبرته أمه، ولا داعي لأي قلق.

مستلقياً على سريره محدقاً في السقف مدندناً:

يا قدس، يا قدس، يا مدينة الصلاة ، لأجلك أصلي..
عيوننا إليك ترحل كل يوم، ترحل كل يوم..
تدور في أروقة المعابد..
تعانق الكنائس القديمة..
وتمسح الحزن عن المساجد..

في اليوم التالي لم يذهب إلى ميدان صفرا، بل جلس يدرس ما عليه من فروض. أبوه تغيب عن موعد الغداء مرة أخرى. هذه المرة سأل أمه عما يحدث وهل كل شيء بخير، فأجابته أنه يجادل فقط في توقيع بعض الأوراق المهمة ولا شيء يستدعي الخوف.

جلسوا في سهرةٍ عائلية كان عمه وابنه ضيوف تلك الليلة. بكؤوس الشاي الأحمر وصحن الكنافة تناقشوا وتسامروا وضحكاتهم تملأ المكان وكأن الدنيا بخير. بعدها انعزل سامر وابن عمه (حسن) يتحدثان عن آخر إصدار للعبة الفيديو وعن فخامة المراحل الجديدة وأحاديث أخرى غيرها.

في نهاية تلك السهرة استأذن سامر عمه رجاء أن يبات ابنه الليلة عندهم. لقد أخذتهم لعبة الفيديو واندمجوا فيها. وافق عمه فغمرته السعادة. استلقوا في السرير محدقين في الفراغ بعد شجار صغير على إثر اللعبة . بدأ بينهم حديث آخر، يقول سامر:"أسألك بالله هل من المحتوم أنني قادر على تحرير فلسطين يا حسن؟!"

رد عليه: "أنت عم تمزح معي إنك قادر، ولكن أنت لست لوحدك وبأسلحة أقوى مما لدى العدو، لو أن العالم يفهم كيف نعيش... كانت غريزتهم الإنسانية لن ترضى بهذه المهزلة.. لو أنك لا تفكر وتتركها لربي وللزمن لكان هذا أفضل".

بصوت غاضب يشوبه الحزن رد سامر: وإلى متى سننتظر؟ أجبني، أبعد أن ينشف دمنا، أم بعد أن نُقتل، أم بعد أن نُذلّ ويرى العالم ذلنا؟

تنهد حسن وأجاب بكل هدوء: بعد أن ينظر العرب والدول الأخرى في أمرنا، بعد أن يزال الستار لمشاهد لم يروها.. سأقولها لك وبكل شفافية لا جدوى من دولٍ عربية تخون وتطبّع مع إسرائيل المحتلة؟

 أجاب حسن بصوت واهن: نعم..

بعد هذه الإجابة أعلن وقت النوم وأي نوم يعلن الآن فتلك الليلة لم تكن بذلك الهدوء لينعموا بأحلام جميلة. فجأة دوى في المكان صوت انفجار، تبعته صرخات، وطلقات نارية كانت تدوي المكان. ارتعشوا خوفاً، صرخ سامر لابن عمه برعب: "تعا نروح تحت".

ذهبوا جرياً، يستطلعون ما يحدث ، وجدوا والديه في غرفة المعيشة، أصوات التكبير تعلو المكان. يصرخ والد سامر بأن الاحتلال يطلق القذائف. أمه تدعي هامسة: يا رب سلم، يا رب سلم، وحسن في ذهول من الموقف.

خرج أبو سامر من البيت ليشاهد ما يحدث في الخارج، أم سامر تصرخ عليه بألا يذهب، رد عليها مطمئناً: "كلها دقيقة وراجع"، ولكنه لا يدري أنه ذاهبٌ بلا عودة. مرت برهةٌ قصيرة وسمعوا إطلاق نارٍ من جديد، عم الصمت، وذهبوا يجْرون وقلوبهم تقول لهم أن شيئاً قد حدث. وهناك وجدوا تجمعاً صغيراً، يجري سامر مسرعاً نحوهم، وجد أبوه ملقى على الأرض والدم يسيل من جسده. صرخ بقوة أنه لا يصدق هذا الحلم، احتضن والده يرجوه ألا يرحل، فهو يحتاجه، يصرخ أنه لا يمكن أن يعيش من دونه. عاش هذه اللحظة وهو بعمر الـ 13 عاماً.

توقفت جميع الطلقات وبقيت الجثث، أضيفت أعدادٌ جديدة لشهداء فلسطين، أضيفت معاناة جديدة لأطفال يتامى اسودت الدنيا أمام أعينهم.

مغطى بعلم فلسطين الماجد ومحمولاً على تابوت، كانت هذه آخر مرة يرى فيها والده. يسير خلف الجميع باكياً، لا يتمالك نفسه، يصرخ في الجميع: "رجعولي أبوي رجعوه.. رجعوه". صرخته تتعالى في الهواء ثم تتلاشى. هكذا الدنيا: من رحل لن يعود، كيف لرصاصة واحدة أن تقتل وتدمّر عوائل كانت قبل ساعاتٍ سعيدة، وكيف لحزنٍ أن يهدأ ولشوقٍ أن يخفت.

مر شهران والبيت مغلف بغطاء الحزن الأسود، لم تعد لعبة الفيديو تهمه ولم يعد يهمه خروجه مع أولاد الحارة. لم يعد يهمه شيء غير حماية والدته والانتقام من أولئك المحتلين الأنذال. بقي طوال تلك الفترة بجانبها يساندها ويتذكر أنه رجل البيت الآن.

وفي أحد الأيام القاتمة دخل رجال الاحتلال بأسلحتهم مداهمين منزلهم. وقف سامر يستوعب ما يحدث ينظر الى أمه، يحدث نفسه ويقول: ألا يكفيكم ما فعلتم؟ ألا يكفيكم ما تفعلون؟ أُخرجوا من بيتهم، شردوهم بدون ثمن، أحضروا أناساً آخرين أمام أعينهم ليسكنوا بيتهم وكانوا كما يُدْعون من الجنسية الإسرائيلية.

يشاهدون آخر ما يملكون يذهب، أرملةٌ وابنها على قارعة الطريق، تهمس له: "الله معنا" وقد اغرورقت عيناها بالدموع، يصرخ عليهم: يا محتلين، يا من سلبتم أبي منا وها أنتم تأخذون منزلنا، ماذا بعد؟! ماذا بعد؟! ماذا بعد يا محتل؟!

نظر إليه أحد رجال الاحتلال نظرة عابرة.

حينها دعا ربه أن يأخذهم إلى الجحيم، أن يريهم أضعاف هذا الألم. بدأ الموضوع واضحاً بعدها، كانوا يهددون والده منذ فترة ليوقع أوراق التنازل عن ملكية المنزل، اتضح سبب غياباته المتكررة في الفترة الأخيرة. أضيف جرحٌ آخر إلى قلبه الصغير. خانته الحياة، خانته السعادة، ولكن ربما وجدوا بيتاً يأويهم ورباً بعونه سيحميهم. قلبه يحكي قصة الألم، ما زال فكره يناشد الحرية ما زال يريد أن يحررها. يريد أن يحمي وطنه ووالدته.

هكذا تُروى قصة أطفال فلسطين، أطفال يتشبثون بالحياة، يرون مالا يراه البالغ. يبقون "أطفالاً" يحلمون، أطفالاً يعيشون وحيدين يسألون الرحمة، وهم يرددون ماذا بعد يا محتل؟!

______________________

رناد الهنائي، 13 عاماً، من مدينة نزوى العُمانية، استُبعد نصها من مسابقة مدرسية لأنه كان "سياسياً". 

مقالات من فلسطين

الأسرى المحررون: "لا تنسوا الأسرى"!

2024-07-11

كان معزز عبيات، قبل أن يرى الأهوال، رجلاً صحيحاً قوياً رياضياً يهتم بكمال الأجسام، وعاد كأنّما بدون جسده. عاد مسلوباً من ذاته. يتكلّم معزز وتنهال على وجهه أيدي المحبين، تمسح...

أطباؤنا و"أطباؤهم"

2024-07-04

قالت هيئة الإذاعة العامة الإسرائيلية أن السجون الإسرائيلية "ممتلئة"، فيما صرّح وزير الأمن القومي "إيتمار بن غفير" أن الحلّ برأيه يتمثّل "بإعدام الأسرى" لإفساح المجال أمام آخرين! مؤكداً أنه لن...

بلد القبعات..

في غزة - وبغض النظر عن القصف والقتل والاعتقالات - فالحياة "العادية" نفسها في غاية الصعوبة: التنقل، واثمان الحاجيات حين تتوفر، وحتى الحصول على قبعة تقي قليلاً من الشمس الحارقة...