سوريا واقتصاد الموبايل

مِثال عن كيفية اشتغال أنظمة "الريع" المستخرج من التهريب ومن الاتجار بالممنوعات ومن الغرامات الأقرب الى الجزية، ومن كل حركة في المجتمع: تضاعفت عدة مرات مبيعات أجهزة الهاتف المحمول المهربة وغير المجمركة وتفوقت على مبيعات الأجهزة التي يتم إدخالها بشكل نظامي إلى سوريا عبر شركة "إيما تيل" التي تحتكر هذه السلعة. لكن السلطة السورية تحقق أرباحاً هائلة في الحالين!
2023-05-07

آدم أفرام

باحث من سوريا


شارك
حي نهر عيشة الشعبي وسط دمشق

غزت الموبايلات المهربة الأسواق السورية من ثلاثة معابر: لبنان – العراق – مناطق سيطرة الأكراد شمال شرق سوريا، حتى تفوقت مبيعات تلك الأجهزة بشكل مضاعف عدة مرات على مبيعات الأجهزة التي يتم إدخالها بشكل نظامي إلى سوريا عبر شركة "إيما تيل" التي تحتكر هذه السلعة، وهي الشركة المملوكة لـ "خضر الطاهر" المعروف بـ "أبو علي خضر"، الذي يعتبر اليوم أبرز أوجه النظام الاقتصادية وأقواها على الإطلاق، بعد أن ظهر من العدم قبل سنوات قليلة.

يتحكم "أبو علي" اليوم بكل المعابر في سوريا، التي تفضي إلى جمع أموال تذهب لصالح أشخاص معلومين في السلطة بعد أن ينال هو حصته من العملية. هذه المعابر هي مفتاح التجارة بين مناطق سيطرة الحكومة من جهة، ومناطق سيطرة المسلحين من جهة أخرى، وبين مناطق الحكومة والدول المجاورة عبر الممرات الكثيرة غير الشرعية من جهة أخرى، وهو ما يمثل عوائد تقول مصادر إنها تبلغ عشرات ملايين الدولارات يومياً.

يلجأ السوريون إلى طرقٍ أخرى خاصة بهم لإيصال الأجهزة المهربة وغير المجمركة من الدول المجاورة إلى سوريا، التي تصل إلى البلاد بنصف الثمن الذي تباع به لدى "إيما تيل" أو أقل أحياناً. أرباح شركة الاتصالات التي تحتكر السوق الرسمي، تستحوذ على قطاع إثرائي تعادل أرباحه أهم الصناعات.

تشن السلطة حروباً لا تتوقف على الأجهزة المهربة... ولكن من قال إنّ للسلطة رجلاً واحداً؟ فرجال آخرون لا يكتفون بالمهام الموكلة إليهم في "البازار" الاقتصادي، كحال "القاطرجي" المعني بملف نقل النفط من المناطق الشرقية (كان سابقاً ينقله من مناطق داعش، وهو الآن ينقل النفط من مناطق الأكراد)، المتورط مع رجاله - على ما تقول "الشائعات" - بإدخال كميات كبيرة من أجهزة الهاتف المهربة إلى السوق السورية.

تقع أشد العقوبات الأمنية على عملية بيع وشراء تلك الأجهزة، التي قد تصل للسجن لسنوات في الحالة الطبيعية ما لم تجرِ تسوية، مع العلم أنّ بعض المقبوض عليهم ليس لديهم ما يكفي من المال للخروج. التهمة بالطبع ليس أنّ الأجهزة مهربة (فالمهرِّبون معروفون) بل أنها غير مجمركة - أي حصة الحكومة غير محفوظة.

ليس صعباً إيجاد أجهزة غير مجمركة في سوريا، بالتأكيد ليس في المحلات، بل نجدها معروضة للبيع عبر صفحات الإنترنت التي تصعب مراقبتها كلّها، أو عبر توصية سائقين يعملون على الخطوط الخارجية، أو بزيارة للمناطق الحدودية في القصير وزيتا والمصرية بريف حمص على حدود لبنان، أو باتجاه طريق المصنع بين دمشق ولبنان أيضاً.

الدولة قادرة على إدارة التوازن بين رجالها بالرغم من خسارتها في هذه المعادلة، مطبّقةً مبدأ "لا ضرر ولا ضِرار"، وذلك عبر جعل الموبايل المهرب غير قابل للعمل على الشبكة حتى يصار إلى دفع رسومه الباهظة إلى مؤسسة الاتصالات عبر شركتي "سيرياتيل" و"أم تي أن"، اللتين تتوليان مهمة الكشف على الأجهزة غير المصرح لها بالعمل على الشبكة. ولأن الموبايل صار عصباً أساسياً للحياة في المجتمع، فإغراق السوق بالمهرَّب منه كان سياسة حكومية أقرب للجباية.

عقوبات

يروي صاحب محل موبايلات في دمشق أنّ سيارتين من نوع "فان" توقفتا أمام محله قبل نحو شهر، وترجل منهما عناصر أمنيون نظاميون يتبعون لإحدى الجهات الرسمية، أخلوا المحل من الزبائن وأنزلوا واجهته، وسحبوا كابلات الكاميرات وجهاز التسجيل الخاص بها، وقاموا بتفتيشه بحثاً عن أجهزة غير مجمركة، وتضمن التفتيش جهاز صاحب المحل نفسه، وإن كان غير مخصص للبيع. وحين لم يجدوا شيئاً غير طبيعي غادروا مصطحبين معدات كاميرات المراقبة!

كما ضبطت دوريات مشابهة في مدينة حماه ثلاثة أجهزة غير مجمركة في محل للاتصال، فتم اقتياد صاحب المحل والعاملين فيه إلى مقر إحدى الجهات الأمنية، وإيقافهم لعدة أشهر، قبل أن يدفعوا مبلغاً كبيراً يساوي مئات الملايين من الليرات السورية ليخرجوا. يعتبر هذا الإجراء نوعاً من التسوية الذي تجريه السلطات مع باعة هذه الأجهزة، الذين يزاولون هذا النشاط منذ زمن واستطاعوا من خلاله جمع ثروةٍ، بحيث يُفرَض عليهم تقديم مبلغ مالي كبير على شكل "غرامة".

حسابات الحيتان

تقع أشد العقوبات الأمنية على عملية بيع وشراء تلك الأجهزة، التي قد تصل للسجن لسنوات في الحالة الطبيعية ما لم تجرِ تسوية، مع العلم أنّ بعض المقبوض عليهم ليس لديهم ما يكفي من المال للخروج. التهمة بالطبع ليس أنّ الأجهزة مهربة (فالمهرِّبون معروفون) بل أنها غير مجمركة - أي حصة الحكومة غير محفوظة.

لا يشكّل حمل جهاز غير مجمرك من قبل فرد عادي بغير قصد التجارة جرماً منصوصاً عليه، وذلك لاستحالة إجراء تفتيش على كل الهواتف التي بين يدي الناس، بينما يشدد الجرم على المحال والمتاجرين به. ولتوضيح الصورة، فسعر جهاز "شرعي" من نوع iPhone 14 pro max من محل "نظامي" هو 24 مليون ليرة سورية أو ما يعادل 3200 دولار، وأما المهرب وغير المجمرك، المباع عن طريق وسيط، فثمنه حوالي 10 ملايين ليرة سورية أو 1300 دولار أمريكي. أما جمركته ، فتكلف 14 مليون ليرة سورية (1866 دولار)، تسدد إلى السلطة، ما يعني أن رسم الجمركة يصل إلى 140 في المئة من قيمة سعره الأصلي. وهكذا تجبي السلطة الأموال بكل الطرق، الشرعية وغير الشرعية.

بلد اللصوص

تشرح وفاء شيخو، الباحثة في العلوم السياسية رؤيتها في الأمر، متسائلة: "أليس في لبنان أزمة اقتصادية طاحنة؟ ألا يعتبر الوضع في الأردن ليس بأفضل أحواله؟ ألا يرزح العراق تحت وطأة مشاكل مستديمة؟ السودان أليس فيه ما فيه من المشاكل؟ أسعار الأجهزة الخلوية هناك هي ضمن نطاق الأسعار العالمية، والأسعار في سوريا هي ضمن هذا النطاق أيضاً، لكنّ السلطة ابتدعت لنا شيئاً اسمه "الجمركة" وهي وسيلة عصرية لسرقتنا، بل وحرماننا من اقتناء هواتف جيدة. ما الذي يعنيه أن يكون أرخص موبايل في سوريا بمليون ليرة، وهو من النوع السيء جداً؟ بينما بهذا المبلغ تستطيع شراء جهاز جديد وعصري وممتاز في بلدان الجوار". وأضافت: "فهمنا أنّه لا أموال في البلد، وتريد السلطة أموالاً بأي طريقة".

استخدامات أخرى

ليس صعباً إيجاد أجهزة غير مجمركة في سوريا، بالتأكيد ليس في المحلات، بل نجدها معروضة للبيع عبر صفحات الإنترنت التي يصعب مراقبتها كلّها، أو عبر توصية سائقين يعملون على الخطوط الخارجية، أو بزيارة للمناطق الحدودية في القصير وزيتا والمصرية بريف حمص على حدود لبنان، أو باتجاه طريق المصنع بين دمشق ولبنان أيضاً. الوسائل الفردية متعددة، ويجد السوريون طريقةً لاستخدام أجهزتهم من غير التصريح عنها وجمركتها، وكلّ ذلك يتم بطريقة غير علنية.

سعر جهاز "شرعي" من نوع iPhone 14 pro max 24 مليون ليرة سورية (3200 دولار)، وأما المهرب وغير المجمرك، المباع عن طريق وسيط، فثمنه حوالي 10 ملايين ليرة سورية أو 1300 دولار أمريكي. أما جمركته فتكلف 14 مليون ليرة سورية (1866 دولار)، تسدد إلى السلطة، ما يعني أن رسم الجمركة يصل إلى 140 في المئة من قيمة سعره الأصلي. 

يمعن بعض السوريين في المغامرة وتحدي السلطة عبر اللجوء إلى برمجيات تتيح لهم جمركة هواتفهم بطرق "ملتوية" وغير قانونية ولا تكلفهم أموالاً تُذكر خارج الإطار الرسمي لمؤسسة الاتصالات. يتم ذلك عبر ما يعرف بـ "كسر الآيمي" للجهاز، وهو رقم المعرِّف المتسلسل لكل جهاز ويختلف بين واحد وآخر. 

مثلاً معظم حاملي تلك الأجهزة يحافظون عليها من غير جمركة مستخدمين إياها لأغراض العمل على الإنترنت، وهي بحكم تطورها وانخفاض ثمنها عن مثيلاتها الموجودة في سوريا تلبي أفضل احتياجاتهم. في هذا الإطار يعمدون إلى شراء أجهزة موبايل صغيرة بغرض الاتصال فقط، كأجهزة "نوكيا" التي لا يتعدى ثمنها 30 إلى 50 دولار.

يقول الجامعي أمير جامع أنه فعل ذلك بعد استحالة تمكنه من التصريح عن جهازه الأساسي، "معي هاتف iPhone xs max لم يعد جديداً وثمنه مليون ونصف المليون ليرة سورية تقريباً، إلّا أنّ جمركته تبلغ ضعف سعره ويزيد، ولأحل تلك المشكلة، تركت الآيفون للبرامج الأساسية، واشتريت هاتفاً صغيراً يأخذ شريحتين ومن غير كاميرا وميزات وثمنه فقط 150 ألف ليرة سورية وهو طبعاً مجمرك". وبهذا، يضع السوريون السلطة أمام ورطة غير متوقعة!

للسوريين طرق أخرى

يمعن بعض السوريين في المغامرة وتحدي السلطة عبر اللجوء إلى برمجيات تتيح لهم جمركة هواتفهم بطرق "ملتوية" وغير قانونية ولا تكلفهم أموالاً تُذكر خارج الإطار الرسمي لمؤسسة الاتصالات. يتم ذلك عبر ما يعرف بـ "كسر الآيمي" للجهاز، وهو رقم المعرِّف المتسلسل لكل جهاز ويختلف بين واحد وآخر، وهو ما يسمح لشركات الاتصالات بمعرفة الأجهزة العاملة على الشبكة، المصرح وغير المصرح عنها. يعاقب القانون سالكي هذا الطريق المزور بالحبس لمدة أقلّها خمس سنوات، لكنّ الأمر يستحق المغامرة كما يقول البعض.

عن طريق وسيط موثوق من قبل أحد الأشخاص الذي يعملون في المجال، توجهنا قاصدين محلّه في منطقة "نهر عيشة" الشعبي الملاصق لحي "الميدان" في قلب العاصمة دمشق. بعد حديث متشعب عن الأجهزة والتصاريح عنها، قدمنا له هاتف Redmi note9 غير مجمرك، فطلب مبلغ 50 ألف ليرة (7 دولار) ليجعله يعمل بشكل مستديم على الشبكة. يكبر سوق هذه الطريقة يوماً بعد يوم على الرغم من كل مخاطره، باعتبار أن جمركة الموبايل نفسها ترتفع كل بضعة أشهر.

مقالات من سوريا

خرائط التنمية المفقودة في الساحل السوري

كمال شاهين 2024-04-30

حضور السلطة المركزية في المشاريع الأصغر، المحصورة في خدمة أهالي الإقليم، يقرّ مركزياً، بعد اقتراح مجالس المدن والبلدات المعيّن أغلب أعضائها من السلطة المركزية، عبر "قوائم الجبهة الوطنية التقدمية" اﻹجبارية...