وبغضّ النظر عما إذا كان ما جرى مقصوداً أم لا، فهناك رسالة واضحة يبدو أنّها وصلت إلى أكثر من طرف، وتتلخّص في أنّ تنظيم الجبهة الإسلامية القومية الذي خطّط للانقلاب قبل قرابة ثلاثة عقود، ونفّذه بنجاح مذهل بعد أن نجح في التعمية على هويته أمام خصومه المحليّين والإقليميين والدوليين، لم يعُد كتنظيم، لاعباً أساسياً في المسرح السياسي السوداني.
من الوسائل التي تمّ استخدامها وقتها للتعمية، التحفظ على الدكتور حسن الترابي، زعيم الجبهة وعرّاب الانقلاب الفعلي، وإيداعه سجن كوبر مع بقية القيادات السياسية والنقابية. وهو ما لخصه الترابي نفسه في ما بعد بجملة أعلن أنّه قالها للبشير: اذهب إلى القصر رئيساً وسأذهب إلى السّجن حبيساً. وكذلك عدم سفور تعيين أي من أعضاء الجبهة المعروفين مسؤولين في النظام الجديد.
ثمن النجاح
الخدعة سجلت نجاحاً منقطع النظير، وأعطت النظام الجديد فسحة من الوقت لتثبيت أركانه. لكنّه لم يكن نجاحاً بلا ثمن. وكان الثمن باهظاً. فمؤسسات حزب الجبهة الإسلامية، من مكتب سياسي ومجلس الشورى وغيرها، تمَّ حلها لتستبدل بالسيطرة الفردية لأمين عام الحركة الترابي، ونائبه علي عثمان محمد طه الذي كان حلقة الوصل بين الحزب والعسكريين في فترة الانقلاب الأولى.
الخاسر الثاني الرئيسي كان الترابي نفسه. ففي فترة بقائه التي طالت في السجن، بدأت تبرز حقائق جديدة تتمثل في صعود علي عثمان ومعه مجموعة من الذين تولّوا مناصب قيادية، خاصة في جهاز الأمن والمواقع التنفيذية لإدارة جهاز الدولة، ولم تكن هناك جهة يحتكمون إليها وتراقب عملهم. ودفعهم هذا الوضع إلى اختطاف فكرة الانقلاب الذي كان يفترض أن يهيئ الملعب لعودة الممارسة الديمقراطية من خلال الأحزاب، بعد الاتفاق على خطوط رئيسية تتعلق بالدولة وأهدافها العامة. وهو ما لم يحدث، وأصبح نظام الإنقاذ مثله مثل أي نظام عسكري، قابضاً على الحريات وبعيداً عن أي رقابة شعبية أو سياسية، مما فتح الباب أمام تنامي الفساد وانتهاكات حقوق الإنسان، بل والتدخّل في شؤون دول الجوار، مثل محاولة اغتيال الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك.
هذا التحليل أكده الترابي نفسه في شهادته على العصر التي بثتها قناة الجزيرة الأخبارية مؤخراً، رغم أنّ تسجيلها تم في العام 2010، لكنّه طلب إذاعتها بعد وفاته التي تمت قبل أربعة شهور. وأضاف فيه تحميل علي عثمان ومدير جهاز الأمن وقتها الدكتور نافع علي نافع المسؤولية عن محاولة اغتيال مبارك. هذه المعلومة ليست جديدة، وإنّما تكتسب ثقلها هذه المرّة من أن قائلها هو الترابي نفسه، الأمر الذي يجعل تأثير مثل هذه الإفادات ينداح إلى مجالات أخرى تتعلق بالأهلية السياسية والأخلاقية لإسلاميي السودان، والصراع الذي دار بين الترابي وتلامذته للسيطرة على الحكم والسلطة.. وهي المباراة التي خسرها الترابي وانتهى به الأمر أحياناً مسجوناً من قبل تلامذته، ثم مترئساً حزباً صغيراً معارضاً يتضاءل تأثيره بغياب زعيمه وبخفوت الشعار الإسلامي عموماً، بسبب واقع الأداء البائس لكوادر الحركة في إدارة الدولة على مدى أكثر من ربع قرن وبسلطة شبه مطلقة. وعناوين هذا البؤس تتوالى، من انفصال جنوب السودان، إلى التردي الاقتصادي، إلى انتشار الفساد والحروب في بعض مناطق البلاد، وفوق هذا غياب الرؤية في ما يخص مستقبل السودان.
ففي العشرية الأولى من حكم نظام الإنقاذ، كان الترابي هو الرقم الأساسي في الحكم، وتمّت إزاحته لتتميز العشرية الثانية بحلف بين العسكريين بقيادة البشير وتلامذة الترابي، وعلى رأسهم علي عثمان نفسه الذي تولى منصب النائب الأول لرئيس الجمهورية. لكن نفوذ هؤلاء ظل في تراجع وصل قمته عندما أزيح طاقم من قيادة الإسلاميين قبل ثلاثة أعوام، شملت علي عثمان ونافع وأسامة عبد الله وغيرهم، لتصبح الغلبة الواضحة للبشير وصحبه من العسكريين، الذين اختار من بينهم الفريق بكري حسن صالح ليكون نائبه الأول، وهو الوحيد الذي بقي من "مجلس قيادة الثورة".
تبديل القاعدة السياسية
ذهب البشير خطوة أخرى بمحاولة استمالة الحزبين التقليديين الرئيسيين، وهما الأمة والاتحادي الديموقراطي، اللذين يستندان إلى طائفتَي الأنصار والختمية، وذلك بتعيين اثنين من بيتي المهدي والميرغني مساعدَيْن له. ورغم أن حزب الأمة بقيادة الصادق المهدي ظل في خندق المعارضة، مع التبرؤ من أي صلة سياسية للحزب بابن الصادق، عبد الرحمن، الذي أصبح مساعداً للبشير، إلا أن الحزب الاتحادي الديموقراطي واصل تقاربه مع الحكومة لدرجة المشاركة في انتخابات العام الماضي التي قاطعتها بقية قوى المعارضة، والدخول في التشكيلة الحكومية وتولي أحد أبناء الميرغني منصب كبير مساعدي رئيس الجمهورية إلى جانب وزارات عدة.
هل يرغب البشير في تغيير قاعدته السياسية، والاستعاضة عن الإسلاميين بجماهير الأحزاب التقليدية التي انقلب عليها، خاصة أنّ خطوةً مثل هذه تتسق مع تحولاته في السياسة الإقليمية وانضمامه إلى المحور الخليجي - المصري المناوئ للجماعات الإسلامية؟ الإجابة قد لا تكون يسيرة، وذلك بسبب التغييرات الكبيرة التي شهدتها الساحة السياسية الداخلية من ناحية، والتطورات الإقليمية والدولية من ناحية أخرى.
فالأحزاب التقليدية لم تعد تمثل مخزوناً جاهزاً يمكن استخدامه عند الطلب. فحزب الأمة مثلاً كان يتمتع بغلبة واضحة في إقليم دارفور ـ وفي آخر انتخابات برلمانية تعددية جرت في العام 1986 اكتسح حزب الأمة دوائر الإقليم، لكن بعد تفجّر العنف فيه وبروز العديد من الحركات المسلحة، ومعها قيادات مهما كان الرأي فيها إلا أنها شكلت خصماً ينافس على الوضعية المتميزة التي كان يتمتع بها حزب الأمة فيه. والشيء نفسه ينطبق على الحزب الاتحادي الديموقراطي الذي كان يشكّل تحالفاً بين مجموعات وسطية من أهل المدن وطائفة الختمية. وفي الآونة الأخيرة، غلبت توجهات ومصالح الختمية على الحزب الذي أصبح معبراً عنها أكثر من كونه حزباً وسطياً.
إضافة إلى هذا، فإن معظم قيادات الأحزاب السياسية شاخت، الأمر الذي لا يجعلها معبرة عن جيل الشباب الذي يشكل أكثر من نصف سكان البلاد.
من الناحية الأخرى، فإن نظام الإنقاذ يمثل نهاية دورة سياسية كاملة ابتدأت منذ ثورة تشرين الأوّل/ أكتوبر الشعبية في 1964 التي أنهت الحكم العسكري الأول 1958- 1964، وقيادات تلك الثورة إمّا غادرت مسرح الحياة بفعل الموت مثل الترابي ومحمد ابراهيم نقد زعيم الحزب الشيوعي السوداني السابق، أو تقدّمت في السن كما هو الحال مع الصادق المهدي وفاروق أبو عيسى، الزعيم المعارض حالياً وأحد رموز تلك الثورة وكليهما في الثمانينيات من عمره.
ضعف القيادات وتضعضعها، تقابله المشاكل التي تواجهها البلاد والتي تزداد تعقيداً وتمدّداً بسبب انتشار العنف، الأمر الذي أدى إلى تدويلها، حيث يلعب الاتحاد الأفريقي دوراً في الوساطة بمساندة غربية واضحة. ومؤخراً توصلت وساطة الاتحاد الأفريقي إلى خارطة طريق لمعالجة قضايا السودان من خلال حوار سلمي، وهي الخارطة التي وافقت عليها الحكومة ورفضتها المعارضة المسلحة والمدنية بداية.. لكن هناك مؤشرات على القبول بها، على الأقل من بعض أطراف المعارضة بعد الضغوط الإقليمية والدولية التي مورست عليها.
القبول بخارطة الطريق تلك لا يعني أنّ الأمور وُضعت على طريق الحل تلقائياً، وإنّما التحول من حالة الحوار بالرصاص أو في المنافي إلى طاولات الحديث داخل البلاد. لكنّ القضايا الخلافية تظل عديدة، والمواقف متباينة، الأمر الذي يضع مستقبل البلاد على المحك. ففي أي طريق ستسير وإلى أي مدى ستستغل دروس الماضي الثرية التي مرت بها. وفوق هذا، فما هي الخيارات التي سيلجأ إليها البشير باعتباره الأكثر تأثيراً في مجمل المشهد السياسي السوداني في الوقت الحالي.