تصاعد، على مدى أيام، دفاعٌ مستميتٌ يقابله هجومٌ شرسٌ على صُنّاع المسلسل السوداني "ود المك" الذي يُعرض على بعض القنوات المحلية ومنصات البث الرقمي واسعة الانتشار في مواقع التواصل الاجتماعي. لم يتوقف الهجوم عند حد الانتقاد اللاذع الذي وصل مرحلة سبّ الممثل، بل تعداه إلى بعض منابر المساجد في خطب الجمعة، علاوة على حملات في مواقع التواصل الاجتماعي للتبليغ عن المنصات التي يُبث فيها المسلسل، مطالِبة بإيقافه. هكذا، بين ليلة وضحاها، تحوّل العمل الدرامي الفنيّ محدود الزمن إلى ما يشبه مهدِّدات الأمن الوطني عند البعض.
ما الحكاية؟
كلّ ما في الأمر أنّ المسلسل قدّم شخصيّة إمامٍ وخطيب مسجد فاسد، ضمن أحد أدواره الرئيسيّة والذي لعبه الممثل صلاح أحمد. تظهر الشخصية رجل دينٍ لا يتورع عن توظيف الدِين لخدمة مصالحه الخاصة، ولا عن الانغماس في ملذات الحياة متخفياً خلف لحية زائفة.
إن كان من مهام الدراما أن تعكس صورةً عن الواقع، فقد قام هذا العمل بإظهار جانب واقعي جداً عمّا يدور في المجتمع السوداني، بل وغير السوداني. الشخصية الفاسدة في أي عمل درامي، يمكن أن تتجسّد في رجل دين، أو فنان، أو أستاذ جامعي، أو صحافي، فالفساد لا ينحصر في فئة دون غيرها، لكنّ الجرأة في كسر تابوهات تدور حول صورة "رجل الدين" جعلت صناع المسلسل في مرمى نيران رجال الدين ومناصريهم. خرج بعض صناع العمل - من بينهم المنتِج والممثل نفسه - للرأي العام عبر حوارات صحافية للدفاع عنه، محاولين توضيح العمل الذي لا يستهدف صورة رجال الدين في العموم، بل صورة رجل الدين الفاسد تحديداً، ومطالبين الجمهور بالصبر حتى الحلقات الأخيرة. بالرغم من هذه المحاولات، لم يتوقف الهجوم، لا لسبب سوى لأنه، وربما لأول مرة، نُزِعَت القدسية الممنوحة مجاناً "لرجل الدين" وأُسقِطَت حصانة الشيوخ من النقد.
هذا الرفض الواسع وسط رجال الدين ومناصريهم جاء كنتيجة طبيعية لصورة ذهنية زاهية بُنيت على مدى سنوات طويلة، حظي فيها رجال الدين بمكانة رفيعة في السياسة مما جعلهم من ثوابت الدين نفسه. على مدى سنوات حكم الإسلاميين في السودان – الذي استمر لمدة ثلاثين عاماً - كان لرجال الدين تأثير بارز، وتحولوا في مرات عديدة إلى مجموعات ضغط لا تستطيع الحكومة الفكاك منها، خاصة ذلك الصوت السلفي الذي كان مرجعاً مؤثراً في قرارات مهمة تتعلق بمصائر البلاد. هذا الامتياز السياسي منح رجال الدين قدسية مضاعفة في مجتمع محافِظ أصلاً ومتدين بطبيعة الحال، مستفيدين طبعاً من سطوة السياسة.
ماذا لو لم تكن الشخصية الفاسدة "رجل دين"؟
من الطبيعي تعرض الأعمال الدراميّة للنقد أو للهجوم، سواء على المستوى الفني أو على مستوى الموضوع. كما أنّ المجتمع السوداني ليس مختلفاً عن المجتمعات التي تضع حدوداً للدراما حول القضايا التي يسمح بمعالجتها، وخلال هذا الموسم الرمضاني تعرضت عدة أعمال درامية عربية للهجوم الشرس، مثل مسلسل "دفعة لندن" الذي خلق أزمة بين العراقيين والكويتيين الذي رأى فيه البعض أنه يشوه صورة المرأة العراقية. الذي يعنينا هنا هو النقد الذي يتعلق بموضوع ومحتوى الأعمال الدراميّة، لأنه يتصل مباشرة بمسألة حرية التعبير التي أُعيد طرح السؤال حولها الآن مع هذا الهجوم الضاري.
لماذا نتطلع إلى صورة زاهية لمجتمعاتنا في الدراما، بينما واقعها غير زاهٍ على الدوام؟ ولماذا نتوقع من الدراما أن تعكس الصورة المشرقة، في حين نطالبها بدفن الرؤوس في الرمال عندما يتعلق الأمر بفساد أو بخلل أخلاقي ما موجود في المجتمع أصلاً؟
على الرغم من ميل أمزجة السودانيين عموماً للدراما العربية والتركية والهندية، بحكم وفرة الإنتاج والعرض، إلا أن اللافت أن السودان قد شهدت مؤخراً قفزة في الإنتاج الدرامي جعل كثيرين يغيّرون البوصلة باتجاه الشاشات السودانية، وهو ما سيفرض اختباراً لحرية التعبير في المجتمع السوداني بعيداً عن السلطة السياسية.
ثمة سؤال ملح: ماذا لو لم تتجسّد الشخصية الفاسدة في العمل الدرامي الذي يثير الجدل في السودان بـ"رجل دين"؟ ماذا لو تجسّدت بـ "مدرّس" أو "طبيب" فهل كانت ستواجه الهجوم أو الرفض نفسه؟ ربما تكون الإجابة "نعم" بدرجة كبيرة. وقد تختلف مستويات الهجوم والرفض ومنصاته، فالمجتمع السوداني عموماً قد خرج للتو من سنوات قهر واستبداد طوال، ومن المبكر استيعاب الحرية خارج سياق الحرية السياسية، وخاصة حرية العمل الفني. كما أنّها ليست المرة الأولى التي تتعرض فيها حرية التعبير في الأعمال الفنية للاختبار ففي العام 2015 تم إيقاف المسلسل الإذاعي "بيت الجالوص" بعد بث عدد محدود من الحلقات، والإيقاف تمّ بواسطة جهاز الأمن الوطني، بإيعاز من قيادات صحافية قريبة من السلطة. كانت أحداث الدراما الإذاعية – وقتها – تدور حول رجل أعمال فاسد يرشي صحافيين للتغطية على ماضيه غير المشرّف، ولم يُسمح باستئناف بث المسلسل إلا بعد ثورة كانون الأول/ ديسمبر 2018.
الرابط المشترك بين موضوع المسلسلَيْن هو الفساد! ولكن لماذا نتطلع إلى صورة زاهية لمجتمعاتنا في الدراما، بينما واقعها غير زاهٍ على الدوام؟ أو أنّها تقبل أن تكون زاهية مرة وغير زاهية مرة أخرى؟ ولماذا نتوقع من الدراما أن تعكس الصورة المشرقة، في حين نطالبها بدفن الرؤوس في الرمال عندما يتعلق الأمر بفساد أو بخلل أخلاقي ما موجود في المجتمع أصلاً؟ سؤال شائك ذو أبعاد دينية وأخلاقية ونفسية اجتماعية، ومرتبطٌ أساساً بشكل وثيق بمسألة الحرية وتقبل المجتمعات لها، بل وحتى فهمها في سياقها الكامل غير القابل للتجزئة.
السودان بلد لا يهتم كثيراً بالإنتاج الثقافي والفني، بل تكاد تنعدم فيه هذه الأنشطة مقابل النشاط السياسي الواسع. تعلو في المجتمع السوداني السياسة والاهتمام بها أكثر من أي شيء آخر، على الرغم من ثراء تعدده الثقافي والإثني الواسع. لسنوات طويلة - هي فعلياً قليلة- لم تخرج الدراما السودانية عن "الدائرة الآمنة"، تناقش فقط مفاهيم الخير والشر العامة، دون المساس بـ "المسكوت عنه". هذا المسكوت عنه ليس بالضرورة سياسياً كما جرت العادة، بل إنّ أشده هو ذلك المدفون بين طبقات المجتمع الذي لا يريد أن "يرى" إلا تلك الصورة الزاهية على الدوام.
وعلى الرغم من ميل أمزجة السودانيين عموماً إلى الدراما العربية والتركية والهندية، بحكم وفرة الإنتاج والعرض، إلا أن اللافت أن السودان قد شهدت مؤخراً قفزة في الإنتاج الدرامي جعل كثيرين يغيرون البوصلة تجاه الشاشات السودانية، وهو ما سيفرض اختباراً لحرية التعبير في المجتمع السوداني بعيداً عن السلطة السياسية.