الأباطرة العراة في موقع تفجير الكرادة

الحال، إن الأحزاب الحاكمة في عراق اليوم لا تريد فقط سرقة الأموال ونهب الأرواح بصفقات فسادها، وإنما الاستثمار في كلِّ شعورٍ بشري.. تسليع كل أحاسيس العراقيين وتحويلها إلى أصوات انتخابية. هكذا تسابق الجميع على نصب الميكروفونات لإلقاء الخطابات، بل وتعليق لافتات التضامن بدلاً عن لافتات نعي الضحايا
2016-07-15

عمر الجفال

كاتب صحافي من العراق


شارك
من موقع التفجير في الكرادة

ليس مستغرباً أن يتعاطف العراقيّون مع الانفجار الذي ضرب منطقة صغيرة في بغداد بحجم الكرادّة.. قَدِمَ شُبّان من محافظات الوسط والجنوب لينيروا الشموع في مكان الانفجار، وكان آخرون من محافظات غرب وشمال البلاد ليحضروا لولا مصيبة احتلال "داعش" لمدنهم منذ حزيران / يونيو 2014. إلا أن من استطاعوا الحضور ومن تعذّر عليهم ذلك، قاموا جميعاً بحملة تواقيع لمطالبة الأمم المتحدة بتحقيق دولي في الحادث الذي أودى بحياة أكثر من 300 قتيل وجرح ما يقارب من هذا العدد. هذا العدد الهائل من الضحايا قوبل بتضامن على طول البلاد وعرضها، وبتغطيّة صحافية محلية وعالمية غير مسبوقة، وكانت الأخيرة قد توجت الحادثة بأنها الأكثر حصاداً للأرواح منذ الاحتلال الأمريكي للعراق عام 2003، علماً بأن مناطق عراقيّة أخرى نالت منها التفجيرات وحصدت أرواحاً فاقت الكرّادة، لم تكن لتحظى بربع هذا الاهتمام.
غير أن قلّة قليلة من العراقيين كانوا قد اشتكوا الاهتمام الكبير الذي نالته الكرّادة دون غيرها، فهذه المنطقة الصغيرة الواقعة على الضفة الشرقية لدجلة كانت ملجأ الهاربين من العنف الطائفي في أعوام 2006 و2007. وهي أيضاً متنفّس الباحثين عن لحظة سعادة أو رخاء في شوارعها، إذ تسدّ جوع العجلى بوجبات طعام صغيرة تنتشر على الطرقات أو في المطاعم المتواضعة. توفّر الكرّادة الألبسة للشبّان الباحثين عن صرعات الموضة، أو البدلات لنجوم التلفزيون من الممثلين ومقدّمي البرامج، بالإضافة أيضاً إلى العرسان، الذين يدورون جلّ مناطق العاصمة ومن ثمّ يذهبون إليها صاغرين ليحصلوا على مبتغاهم.
وللكرّادة لدى القادمين إليها من المحافظات مكانة تفوق اليومي، وهي التي تشكل آخر معاقل الاجتماع لجميع العراقيين. فيها تنصب مجالس عزاء عاشوراء بانضباط، وفيها أيضاً تتم الاحتفالات بالأعياد المسيحية. منطقة تشرّع منافذها لكلِّ الفئات، والجميع فيها يحترم الجميع، والكنيسة تبعد أمتاراً عن الجامع وعن الحسينيّة. وعلى الرغم من سيطرة حزب ديني على مساحة واسعة منها، ومن افتتاح فصائل مسلّحة مقرّات على أطرافها، إلّا أنها ظلّت كما هي، متنوّعة: الشيعة والسنّة والمسيحيون يسكنون إلى جانب بعضهم بعضاً. لم يستطع أحد ابتلاعها أو التأثير في تغيير فكر طائفة لطرد طائفة أخرى. وحتّى بيوت المسيحيين التي تركها أهلها وفرّوا بعد أن ضاقت بهم البلاد منذ أواخر الثمانينيات وحتّى الآن، لم يكن أهل الكرّادة من استولى عليها، وإنما فصائل مسلّحة أخرى جاءت بقوّة السلاح من خارجها، قسّمتها وباعتها بعلم دوائر الحكومة العقارية.
وأهل الكرّادة لم يعرفوا اللغة العشائرية إلا في وقت قريب، ولذلك هم يثيرون السخرية لأنّهم يلفظون "المصطلحات" العشائرية بشكل مغلوط. وبذلك فهي أيضاً واجهة حضرية نادرة لبغداد المدينة التي تآكلت بفعل الحروب والحصار. هكذا، ففي الكرّادة تسير السافرة والمحجّبة جنباً إلى جنبٍ، على الرغم من طابع سكّانها الديني، وانتماء الكثير من أهلها في الستينيات إلى حزب "الدعوة" الذي يقف على رأس السلطة اليوم. وهي أيضاً التي تحتوي "الغريب"، وتذوّبه فيها، لاسيما القادم من مناطق ريفية، وبعد أن يسكنها تسارع بنزع كلّ ريفيّته، تغير وجهة نظره تجاه "العيب" و"الحرام"، وتجعله أكثر مدنيّة في حياته، مغيِّرة مسلّماته تجاه نمط عيش المدينة.
وليس غريباً أيضاً أن تنطلق الحراكات السياسية من الكرّادة، وهي التي شكلت الوعي والفكر للاحتجاجات ضدّ فساد الأحزاب الحاكمة التي انطلقت إلى ساحة التحرير القريبة. وفي مقاهيها الصغيرة تأسست مجلات وصحف ومواقع الكترونية ومؤسسات لمساعدة النازحين الهاربين من جحيم "داعش" وفساد الحكومة في عدم توفير المسلتزمات الإنسانية لهم، وفيها أيضاً تمت استضافة أدباء عائدين من المنافي للحديث عن تجربتهم.
راكم في تشكل هذا الوعي ما تقاسيه المنطقة كمركز في جانب الرصافة من بغداد، من سوء الخدمات البلديّة منذ ما يربو عن عقد، وأخذت الشركات الصغيرة تسحب البساط من سكّانها الأصلييين عبر شراء منازلهم بأموال مغرية لتحويلها إلى متاجر لا تراعي الذوق العام، بل وتستولي على الأرصفة والشوارع. وعلى الرغم من حيوية المنطقة، والسعادة القليلة التي تصنعها في نفوس زائريها، إلا أن صور قتلى التفجيرات التي هزّت شوارعها طوال عقد ونيّف ما زالت معلّقة على جدرانها وأعمدتها. وفي الانفجار الأخير، تحوّلت منطقة الكرّادة إلى مقبرة، وهي لم تكن كذلك رغم تعرّضها إلى تفجيرات عدّة، بعد أن تقاطر "البَغادّة" (أهل بغداد) إليها ينيرون الشمع ويترحّمون بصمت على أرواح الضحايا. وطرد بعض أهاليها رئيس مجلس الوزراء حيدر العبادي، حينما حاول تفقدّهم في اليوم التالي للانفجار، من أجل طرد كل هؤلاء السياسيين الذي توافدوا على مكان الانفجار باكين ومتباكين.

الحال، إن الأحزاب الحاكمة في عراق اليوم لا تريد فقط سرقة الأموال ونهب الأرواح بصفقات فسادها، وإنما الاستثمار في كلِّ شعورٍ بشري.. تسليع كل أحاسيس العراقيين وتحويلها إلى أصوات انتخابية. هكذا تسابق الجميع على نصب الميكروفونات لإلقاء الخطابات، بل وتعليق لافتات التضامن بدلاً عن لافتات نعي الضحايا. كان كلّ من حضر من السياسيين أو زعماء الفصائل المسلّحة إلى مكان التفجير قد ألقى خطاباً رنّاناً، وصدّر هؤلاء أنفسهم على أنهم "أولياء دم" في أخذ الثأر لعائلات القتلى الفقيرة التي لم تسْعَ يوماً لأكثر من العيش بسلام، بأمان اجتماعي واقتصادي لهم ولأولادهم. لكن أولياء دم لمن وعلى من؟ هل بدا الواقع رومانسيّاً حين تجاور اسما علي وعمر إلى جانب بعضهما في لائحة نشرتها المستشفى التي تلقت جثامين الشباب الذين قُتلوا في الإنفجار؟ بل إنه أمر مفروض وحاضر، ولا يستطيع أحد تغييره: هذا بلد متنوّع، كما الكرادة. كل تفجير أو عمل إرهابي يطيح بقتلى وجرحى من جميع الأديان والطوائف، وهو الواقع الذي حاول الجميع قلبه في محاولة لتصوير القتلى على أنّهم من طائفة ولون واحد، ولذلك وجب الأخذ بالثأر لهم، وجعلهم رعيّة من رعاياهم.
هؤلاء بطبيعة الحال ليسوا "أولياء دم"، إذ كانت أياديهم ملطخة بجثث المغدورين وهم يلوّحون باستنكار التفجير. كان من الممكن الإشارة بأصابع ثابتة لتورّط كل واحد من الساسة أو زعماء الفصائل المسلحة الحاضرين، تورّطهم بصفقة فساد تتعلّق بالأمن أو الاقتصاد أو الصحة أو التعليم، أو على أقل تقدير بمصادرة حريّات سكان بلاد ما بين النهرين، وهي كلّها تسلك طريق الموت. بيْد أن الصفعة التي وجّهت لـ"أولياء الدم" كانت كبيرة وصداها ظلّ يتردّد على مواقع التواصل الاجتماعي، إذ تم سحب الشرعيّة عنهم. تركهم بلا ثقةٍ. عراة كالإمبراطور لكن ليس طفلاً مَن يشير إلى عريهم وإنما أهالي بغداد جميعهم: "لكنكم بلا ملابس" وكأنّ الجميع يردّد. أثبت عدم الثقة بإجراءاتهم توقيع نحو 100 ألف عراقي على وثيقة لمطالبة الأمم المتحدّة بإجراء تحقيق دولي بحادث الكرادة. وهذا الطلب لم يأتِ من فراغ، وإنما من الفساد، من الفشل في حمايتهم، ومن شيوع الموت بهذه الطريقة دون أن يجد رادعاً.
وهم أخرجوا كل بغيض وطائفي ودفعوه إلى مكان التفجير من أجل قلب الحقائق، وإقناع أهل بغداد بأنهم يتعرّضون لـ"إبادة جماعية" على يد دول إقليمية. وحاولوا أيضاً تحويل فسادهم الأمني وعدم قدرتهم على حماية الناس إلى "مؤامرة". لكن هل أخبر أحد هؤلاء، جميعهم، أن وجودهم في السلطة هو لكشف المؤامرات والإطاحة بها وليس للحديث عنها وشرح مفاصلها. هل أخبر أحد هؤلاء أن فساد المؤسسات الأمنيّة هو مؤامرة، كونه ناتج من فعل داخلي ويسهل السيطرة عليه؟

للكاتب نفسه

العراق الشاب.. أعزلٌ في وجه "اللادولة"

عمر الجفال 2019-10-22

تندّر السياسيون على دعوات الشباب للتظاهر قبل انطلاقها بساعات. عاملوهم على أنّهم قاصرون. أطلقوا عليهم لفظ "العوام": لا يستطيعون تنظيم أنفسهم، غارقين في الجهل، يصعب فهم لغتهم التي يروّجون فيها...