مثّلت التجربة الأردوغانيّة خلال العقد الفائت نموذجا جذّابا للكثير من الإسلاميّين العرب. لم تأتِ هذه الجاذبيّة فحسب من حقيقة أن الحزب الذي أسّسه أردوغان تحت اسم "العدالة والتنمية" مطلع الألفيّة الجديدة كان سليل الحركة الإسلاميّة التركيّة القريبة فكريّا من مدرسة الإخوان المُسلمين، بل لأنّه أيضاً كان يُقدّم لهؤلاء الإسلاميّين إجابة نموذجيّة للسؤال الشائك الذي كانوا قد بدأوا يطرحونه على أنفسهم: كيف نحقّق مبدأ "التمكين" الإخوانيّ في إطار الدولة العلمانيّة الحديثة ومؤسّساتها؟
التمكين بالديموقراطية
وصل الحزب إلى السلطة عبر الانتخابات، وتمكّن من تقليم أظافر الطغمة العسكريّة التركيّة من خلال القنوات الدستوريّة، ونجح علاوة على ذلك في تحقيق نتائج اقتصاديّة مشهودة ضمنت له قاعدة اجتماعيّة للتأييد السياسيّ المُستدام، ومحضت تركيّا مكانة واعتبارا جديدين في العالم. وبسببٍ من هذا كلّه استطاع الحزب تبني سياسات "أسلمة" داخل المجتمع التركيّ من خلال إعادة الحجاب إلى الجامعات العلمانيّة وأماكن العمل الرسميّة، وإحياء مدارس التعليم الدينيّ، وتوجيه الدعاية نحو "الدفاع عن القيم الإسلاميّة ضد الغزو الغربيّ".
وبهذا المعنى، فقد أظهر الحزب للإسلاميّين في العالم العربيّ الإمكانيّة العمليّة لبزوغ نسخة "مُعتدلة" من الإسلام السياسيّ لا تلقى القبول الدوليّ فحسب، بل تستطيعُ أيضا الموازنة بين متطلّبات الانخراط في اللعبة الديموقراطيّة والاندماج في منظومة الاقتصاد العالميّ من جانب، والتمسّك بخطابٍ اجتماعيّ مُحافظ عن الهويّة الإسلاميّة، وتجسيده واقعيّا في السياسات السلطويّة من جانبٍ آخر. وبكلماتٍ مُختصرة، قدّم الإسلام السياسيّ التركيّ بنسخته الجديدة أمثولة حيّة ونموذجيّة عمّا يُمكن تسميته بـ "التمكين بالديموقراطيّة".
ومن جانبٍ آخر، كان وصول الحزب إلى السلطة في تركيّا بالذات، عاصمة الإمبراطوريّة العثمانيّة وآخر معاقل الخلافة الإسلاميّة، قد أضفى على تجربته السياسيّة هالة معنويّة كبيرة ومنحها عوامل جذبٍ إضافيّة للإسلاميّين خارج بلاد الأناضول، إذ بات يُنظر إليه على أنّه جزءٌ من حركة شاملة لإحياء تراث الإمبراطوريّة وتجديد هيبتها التاريخيّة وإعادة الروح الإسلاميّة إلى تركيّا من جديد بعد عقود العلمنة المفروضة بالحديد والنار. ولم تكن هذه الصورة مُضلِلّة بالكامل، فقد تمثّل الإسلاميّون الأتراك هذه المبادئ، أكان في خطابهم العام أو في سياستهم الخارجيّة التي أصبحت تُشدّد بشكلٍ أكبر على استعادة موقع تركيّا من خلال الصلات التاريخيّة التقليديّة لإمبراطوريّة الأستانة بمحيطها العربيّ الإسلاميّ المُجاور. وهكذا، فعندما اندلعت ثورات الربيع العربي، وبات واضحا أنّ تنظيمات الاخوان المُختلفة أصبحت قاب قوسين أو أدنى من الوصول إلى السلطة في أكثر من بلدٍ عربيّ، لم تعد تركيّا مُجرّد نموذجٍ يرنو إليه الأخوان المسلمون بالمعنى العاطفيّ فحسب، بل غدت بنظرهم حليفا موضوعيّا وراعيا أساسيّا لمساعيهم المحمومة لتحقيق تمكينهم الخاص بهم.
"حماس" تلحق بركب أخوانها
كانت حركة "حماس" قد وصلت إلى السلطة فعلا في انتخاباتٍ ديموقراطيّة عام 2006، أي قبل اندلاع ثورات الربيع العربيّ بسنوات عدة. صحيح أنّ السياق كان مُختلفا، لأنّ السلطة الفلسطينيّة لم تكن دولة حديثة بالمعنى التقليديّ للكلمة، ولأنّها كانت تعمل قبل كلّ شيء تحت مظلّة الاشتراطات الإسرائيليّة، إلا أنّ مشاركة الحركة في انتخابات البرلمان كانت تعكس بحدّ ذاتها تطوّرا في نظرة "حماس" لمسألة المشاركة في السلطة على هذا المستوى، وخاصّة إذا أخذنا بعين الاعتبار رفض الحركة المشاركة في أوّل انتخابات عام 1996، رغم أنّ الاشتراطات الإسرائيليّة والمعنى الذي تقوم عليه السلطة الفلسطينيّة لم يتغيّرا بين الزمنين.
أبدت تركيّا الأردوغانيّة تعاطفها مع الحركة منذ انتخابها ورفضت إقصاءها سياسيّا ودعت المجتمع الدوليّ للتعامل معها. وقد بذلت محاولاتٍ لتخفيف الحصار المُشدّد على غزّة بعد سيطرة "حماس" عليها عام 2007، وهي المحاولات التي شهدت ذروتها بإرسال سفينة "مافي مرمرة" التي حملت المساعدات الإنسانيّة إلى غزّة عبر البحر في ربيع العام 2010. ومع طرد قيادة "حماس" من دمشق وتضرّر علاقتها بطهران، مع صعود نجم الإسلام السياسيّ في المنطقة ووصوله إلى السلطة في مصر أخيراً، غدت الأرضيّة مُمهدة بشكلٍ أكبر لنشوء علاقة وثيقة بين الطرفين. جاءت اللحظة المناسبة لـ "حماس" للالتحاق بركب أخوتها. فبالإضافة للعوامل العاطفيّة والعقائديّة، أصبح هناك الآن أساس سياسيّ لهذه العلاقة مع اشتراط تركيّا رفع الحصار المضروب عن غزّة لتطبيع علاقاتها مُجدّدا مع إسرائيل.
أصبحت إسطنبول، إلى جانب الدوحة، مقرّا للنشاط السياسيّ لقيادة "حماس" في الخارج، ومحورا حيويّا لنقل الأموال لأعضاء الحركة وأجهزتها في المناطق الفلسطينيّة المُحتلّة. وفي المقابل، تعزّز الحضور التركيّ في قطاع غزّة من خلال تمويل الحكومة التركيّة والهيئات القريبة منها لمشاريع بناء المستشفيات والمساجد والوحدات السكنيّة ومحطّات تحلية المياه، وتقديم المئات من المنح التعليميّة لطلاب غزّة في الجامعات التركيّة، بالإضافة لافتتاح عددٍ من المؤسّسات التركيّة فروعٍا لها في غزّة تنشط بشكلٍ رئيسيّ في مجال تقديم المعونات الإغاثيّة للفقراء والمعوزين (من بين هذه المؤسسّات "مركزٌ ثقافيّ عثمانيّ" يُقدّم خدمات التعليم والتدريب). وقد انعكس توثّق عرى هذه العلاقة على خطاب حركة "حماس" الذي بات يُقدّم تركيّا على أنّها أحد الداعمين الرئيسيّين للقضيّة الفلسطينيّة ويتطوّع لإظهار التطابق بين مصالحها ومصالح الشعب الفلسطينيّ. ودأبت الماكينة الإعلاميّة للحركة على مديح أردوغان وتصويره على أنّه المُنجد والمُخلّص للفلسطينيّين بعد أن خذلهم القريب والبعيد. ووصل هذا الانشغال حداً دفع الحركة معه إلى وضع صورة ضخمة لأردوغان (إلى جانب صور أمراء عائلة آل ثاني) في أكثر نقاط مدينة غزّة ازدحاما مع عبارة تقول: "القدس تنتظر الرجال".
بعد كلّ هذا، كان من الطبيعيّ أن تشعر حركة "حماس" بنوعٍ من الخذلان بتوقيع الاتّفاق التركيّ الإسرائيليّ الأخير. فقد وصل الإسلاميّون الأتراك بعد التغيّرات الكبيرة التي شهدتها المنطقة والتي جاءت غالبيّتها بما لا تشتهي سفينة رجب طيبّ أردوغان، إلى قناعة بضرورة تبنّي سياسة أكثر براغماتيّة وعدم وضع قضيّة حصار غزّة كعقبة على طريق استدارتهم نحو إسرائيل مُجدّداً، لما تمثله الأخيرة من أهميّة حيويّة للمصالح التركيّة في المنطقة وتحديدا في مجال الأمن.
المكاسب الإسرائيليّة المُحتملة
على الرغم من ذلك، فإنّ الصفقة الأخيرة قد لا تعنيّ أنّ النفوذ التركيّ على قطاع غزّة وعلى قيادة حركة "حماس" سوف ينحسر. صحيحٌ أنّ تركيّا لن تفكّ الحصار الإسرائيليّ بالكامل، إلا أنّ الصفقة ستُتيح لها على الأرجح الاستمرار في تكثيف حضورها في القطاع من خلال تمويل المزيد من مشروعات البنية التحتيّة في مجال الكهرباء والماء والصحّة والإسكان، وعبر فتح السوق الغزّي بشكلٍ أكبر أمام بضائعها. وهذا الأمر ربما يَطرح بحدّ ذاته التساؤل عمّا إذا كانت هذه الصفقة تتقاطع في جوهرها مع السياسة الإسرائيليّة تجاه غزّة.
فمنذ انتهاء الحرب الإسرائيليّة التدميريّة على القطاع المُحاصر صيف العام 2014، والدوائر الأمنيّة الإسرائيليّة مُنشغلة بتصميم السياسات المُعدّة لضمان عدم انهيار الوضع في غزّة وانفجاره في وجهها مُجدّدا، وخلق وقائع على الأرض توفّر أساسا لحلّ طويل الأمد يُريحها من أعباء القطاع بالمعنى السياسيّ ويكفل لها بقاء يدها الأمنيّة العليا عليه لضمان الهدوء. وقد بدأت هذه الدوائر في الآونة الأخيرة بالترويج لمشروعات عدة لتحقيق هذا الأمر، من بينها اقتراح نوقش في الكابينت الأمنيّ الإسرائيليّ مُؤخّرا يقضي ببناء جزيرة اصطناعيّة قُبالة شواطئ غزّة تحت الرقابة الإسرائيليّة لتسهيل حركة مرور البضائع والأفراد من وإلى القطاع.
وهنا يُمكن للصفقة مع تركيّا أن تخدم أكثر من هدف:
فمن جهة أولى قد يعني تزايد النفوذ التركيّ في غزّة تحرّر إسرائيل بشكلٍ أكبر من أعباء التعامل مع هذا الملفّ من زاوية سياسيّة، وتعميق تحوّله إلى ملفّ إغاثي من خلال تسليم حصّة من "اقتصاد المساعدات" للحليف التركيّ الجديد، وبالتالي تخفيف الضغط والاحتقان المتصاعد في غزّة بسبب تفاقم التبعات الإنسانيّة للحرب والحصار (أعلنت تركيّا غداة الاتّفاق أنّها سترسل 11 ألف طن من المساعدات الإنسانيّة لغزّة عبر المعابر الإسرائيليّة كخطوة أولى).
ومن جهة ثانية، سيعني تكثيف جرعة مشروعات البنى التحتيّة المموّلة تركيّاً في مجالاتٍ حيويّة كالطاقة والمياه والإسكان خلق مصالح محليّة مؤيدة للتسويّة والهدوء ورفع كلفة أيّ مواجهة عسكريّة جديدة مع إسرائيل خشية خسارة هذه الامتيازات مقابل تخفيض ثمن أيّ حربٍ إسرائيليّة جديدة ضدّ غزّة (يوضّح هذا الأمر بالذات الوظيفة السياسيّة المزدوجة للمعونة الإنسانيّة، فطالما هنالك من هو مستعدٌ دائما للجبر فلماذا لا تواصل إسرائيل الكسر؟). هذه السياسة مُتّبعة من قِبل الدوائر الإسرائيليّة بُعيد انتهاء الحرب على غزّة عام 2014. إذ تلعب قطر مثلا، من خلال سفير لها منتدب لإعمار غزّة دورا أساسيّا في الإشراف على مشروعات البنية التحتيّة، ومن خلاله تتواصل مع إسرائيل بشكلٍ مباشر بشأن مشروعاتٍ أخرى أهمّها مدّ أنبوب لنقل الغاز الطبيعيّ من الحقول الإسرائيليّة في البحر المتوسّط إلى محطّة الكهرباء في غزّة التي لا تعمل بطاقتها الكاملة منذ سنوات عدة.
ومن جهة ثالثة، قد تكون الصفقة خطوة في طريق قديمٍ جديد لـ "تأهيل" حركة "حماس" والضغط عليها للاندماج بشكلٍ أكبر في النظام الإقليمي والقبول بالاشتراطات الإسرائيليّة. فصحيحٌ أنّ إسرائيل اشترطت منع تركيّا أنشطة الحركة العسكريّة انطلاقا من أراضيها، إلا أنّها تنازلت عن شرطها بضرورة حظر تواجدها السياسيّ هناك. وتضمّن الاتّفاق الأخير مُلحقا يُشير إلى تعهّد تركيّ بالعمل مع حركة "حماس" لإطلاق سراح الجنود الإسرائيليين الأسرى في قطاع غزّة. وهكذا، فقد يخلق الاتّفاق الأساس لتفاهماتٍ أوسع بشأن مستقبل غزّة بين "حماس" وإسرائيل وكسرا نهائيّا لوحدانيّة التمثيل الفلسطينيّ، وتعزيزا لمشروع فصل غزّة، وخاصّة مع وجود الوسيط التركيّ الذي بات يتمتّع الآن بعلاقة مميّزة مع الطرفين.
خاتمة
أصدرت حركة "حماس" في أعقاب الاتفاق بين تركيّا وإسرائيل بيانا وجّهت فيه الشكر والتقدير لرجب طيّب أردوغان ولمواقف تركيّا الأصيلة في دعم الشعب الفلسطينيّ وجهودها في رفع الحصار عن غزّة، دون أن تأتي ولو بكلمة واحدة على الاتفاق الأخير الذي مثّل فعليّا تراجعاً عن كلّ هذه المواقف لمصلحة علاقة متينة مع إسرائيل. ولعلّ هذا البيان كافٍ ليكشف كيف أدّت سياسة "حماس"، والتي لم تر أبعد من منظارها الأيديولوجيّ الضيّق ومصالح سلطتها المحدودة، إلى فقدان الحركة لمناعتها، وكيف أنّ المقاربة المائعة لموضوع المساعدات الإنسانيّة وعدم إدراك ما تنطوي عليه من وظيفة سياسيّة، قد جعلت الفلسطينيّين عاجزين عن تبنيّ موقف مستقل بشأن القضايا الأكثر مصيريّة، وأظهرتهم بمظهر من يبيع مواقفه مقابل حفنة من الطرود الغذائيّة وأطنان الطحين. وهكذا، فبينما يشتري السلطان راحته بسفن المساعدات، يلعق الفلسطينيّون في غزّة خيبتهم وخذلانهم، منتظرين المستقبل الذي لم يعد لهم يدٌ في تقرير ما سيكون عليه.