من الناحية المعمارية: إتقان وأناقة
"العمارة الصناعية في مصر من محمد علي إلى السادات: مسح ميداني" (1) عنوان بحث منشور بالإنجليزية للباحث المعماري الألماني رالف بودنشتاين، بالتعاون مع الباحث أحمد البنداري الذي تولى مهام زيارة المواقع وتصويرها. عمل بودنشتاين على وضع الخطوط العريضة لتطور العمارة الصناعية في مصر خلال المئتي عام الماضية، بدء من عهد محمد علي في أوائل القرن التاسع عشر وانتهاء بالنصف الثاني من القرن العشرين في عهدي عبد الناصر والسادات، من خلال نماذج مختارة لمصانع أو مجمّعات صناعية لكل فترة تاريخية. وهو يشير إلى القيود التي أحكمت عملية الاختيار سواء المتعلقة بالوقت القصير المتاح للدراسة (ستة أشهر من 2009) أو الصعوبة البالغة في الحصول على الأذونات الرسمية المطلوبة للزيارة والتصوير. وهي تشمل جغرافيّا القاهرة والدلتا والإسكندرية. وبوجه عام يقول المعماري الألماني إنه على الرغم من التراث الغني والرائع من الهندسة المعمارية الصناعية في مصر، فإن هذه المباني مهمَلة ولم تخضع لبحث شامل أو توثيق. وتتكرر في بحثه كلمات مثل: اختفاء مؤسف، هدم، إيقاف تشغيل، إغلاق..
ويضيف أن المباني التابعة لصناعات القطن والنسيج كانت هي الغالبة بين نماذج الدراسة وهذا - كما يقول - أمر متوقع بالنظر إلى الأهمية التاريخية طويلة الأمد لهذا القطاع، خاصة في الوجه البحري. من بين هذه النماذج التي تناولها شركة "ستيا" التي بدأ بناؤها عام 1946 وتألفت إدارتها من يونانيين ومصريين.. برئاسة اليوناني السكندري سيمون بيالوبولو، في حين شغل منصب المدير ستيفانو باباكريستو، وقد هدف المصنع لضم الغزل، والنسيج، والصباغة، وتشطيب القطن والصوف والمنسوجات الصناعية، وأوكلت الشركة مهمة تصميم المصنع المزمع بناؤه للمهندس المعماري فرديناند ديباني، وهو سكندري من أصل سوري لبناني درس الهندسة المعمارية في بريطانيا، ويصف المباني التي صمّمها ديباني ل"ستيا" بأنها "بالتأكيد من المباني الصناعية الأكثر أناقة التي تمت زيارتها أثناء المسح".
ويشرح التفاصيل المعمارية لمصانع "ستيا": المصنع الأصلي - بخلاف الإضافات اللاحقة - تكوّن من صفّين من المباني على قطعة أرض مثلثة الشكل تقريباً، مع حدود شمالية طويلة مستقيمة، وحدود جنوبية شرقية منحنية إلى الداخل. وقد اتبعت الخطوط العريضة للمباني بشكل عام الخطوط العريضة لقطعة الأرض لتحقيق أقصى استفادة من المساحة المتاحة. الكتلة الشمالية عبارة عن قاعة طويلة مستطيلة من طابق واحد. وفي المركز مبنى إداري من أربعة طوابق. الكتلة الجنوبية مثلثة الشكل بواجهة جنوبية شرقية منحنية بشكل جميل.
وتُظهر الواجهات اهتماماً كبيراً بالتفاصيل الأنيقة: إطارات النوافذ، الأفاريز، فتحات التهوية، صرف مياه الأسقف.. وفي مقابل الأفقية الملحوظة لمباني المصنع، يبرز المبنى الإداري باعتباره العنصر الرأسي الوحيد، بواجهة ضخمة وأسطح زجاجية كبيرة بين أعمدة مستديرة، ومدخل مزيّن من الداخل بشكل فاخر بالرخام والحجر الملون..
يقول المعماري الألماني إنه على الرغم من التراث الغني والرائع من الهندسة المعمارية الصناعية في مصر، فإن هذه المباني مهمَلة ولم تخضع لبحث شامل أو توثيق. ويضيف أن المباني التابعة لصناعات القطن والنسيج كانت هي الغالبة بين نماذج الدراسة وهذا متوقع بالنظر إلى الأهمية التاريخية لهذا القطاع، خاصة في الوجه البحري.
في منتصف الخمسينيات الفائتة، شهد المصنع توسعات على الجزء المتبقي من الأجزاء الغربية من قطعة الأرض وعلى الأراضي المشتراة على طول جانبها الشرقي. وقد صمّمها كذلك فرديناند ديباني، وكانت مراعية للتفاصيل المعمارية للمصنع الأصلي، إلا أنها تضمّنت ميزات تقنية مبتكرة مثل استخدام أعمدة خراسانية مثمّنة الأضلاع برؤوس اتخذت شكل فطر عيش الغراب لدعم كتل الأرضيات المتصلة لمصنع الصوف الجديد، وهو حلّ تم اختياره لاستيعاب الأحمال الثقيلة واهتزاز أنوال نسيج الصوف في المبنى الضخم ذي الطوابق الستة.
وقد أعيدت تسمية الشركة بشركة "النصر للأصواف والمنسوجات الممتازة" بعد تأميمها في عهد عبد الناصر، ولكنها احتفظت باختصارها الأصلي كعلامة تجارية معتمدة.
مصنع الشركة الجديد في عهد السادات
وفي عهد السادات، بين عامي 1971 و1974 قامت الشركة التي يصفها الباحث المعماري الألماني بـ"شركة القطاع العام ذات النجاح الاستثنائي" ببناء مصنع جديد للصوف على قطعة أرض شاغرة تقع على بعد بضع مئات من الأمتار إلى الشمال الشرقي من المصنع القديم، لعدم وجود مساحة إضافية متاحة داخل حدود المصنع القديم. التصميم هذه المرة كان لشركة هندسة معمارية سكندرية. ويذكر الباحث أنه قد أتيح له الاطلاع على المخططات الأصلية لهذا المبنى المحفوظة بتوقيع المهندس المعماري في أرشيف الشركة.
تُظهر الواجهات اهتماماً كبيراً بالتفاصيل الأنيقة: إطارات النوافذ، الأفاريز، فتحات التهوية، صرف مياه الأسقف.. وفي مقابل الأفقية الملحوظة لمباني المصنع، يبرز المبنى الإداري باعتباره العنصر الرأسي الوحيد، بواجهة ضخمة وأسطح زجاجية كبيرة بين أعمدة مستديرة، ومدخل مزيّن من الداخل بشكل فاخر بالرخام والحجر الملون..
يفترض المعماري الألماني أن تشييد مثل هذا المبنى من قِبَل شركة تابعة للقطاع العام في أوائل السبعينيات من القرن الماضي غرس شعوراً بالفخر بين المارّة، حيث كانت المصانع المملوكة للدولة لا تزال تُصمّم وتُبنى بمهارة، في إطار سياسة السادات للانفتاح، لتكون بمثابة رموز للتقدم والتنمية، وباعتبارها معالم للسلطة أو للدولة، وليس لرأس مال الشركة.
الكتلة الرئيسية لهذا المصنع الجديد تكوّنت من خمسة طوابق تضم صالات كبيرة للورش يشغل كل منها طابقاً كاملاً بارتفاع كبير لكل طابق مقارنة بارتفاعات طوابق المباني الملحقة. ومن أجل الحد من عدد الأعمدة داخل الصالات والإبقاء على قدرة تحميل كافية للمعدات الثقيلة والأنوال ومولدات الديزل والآلات الأخرى، تم بناء جميع الطوابق باتباع نظام مبتكر مزدوج الأرضية. هذا بالإضافة إلى مبنى إداري ملحق من ثلاثة طوابق، ومبنى ممتد من طابق واحد لأعمال صباغة الصوف وورش الإصلاح وصالات التخزين وتجهيزات إمدادات المياه والطاقة. وعلى قطعة أرض مجاورة أقيم نادٍ رياضي للعمال والموظفين. ويشير الباحث إلى وجود تشابه بين مبنى الصوف الجديد للشركة ومجمّع التحرير، المبنى الإداري الضخم في وسط القاهرة الذي بُني بين عامي 1950 و1954، أي بدأ بناؤه في عهد الملك فاروق واكتمل بعد ثورة 1952.
وأخيراً، يفترض المعماري الألماني أن تشييد مثل هذا المبنى من قِبَل شركة تابعة للقطاع العام في أوائل السبعينيات من القرن الماضي غرس شعوراً بالفخر بين المارّة، حيث كانت المصانع المملوكة للدولة لا تزال تُصمّم وتُبنى بمهارة، في إطار سياسة السادات للانفتاح، لتكون بمثابة رموز للتقدم والتنمية، وباعتبارها معالم للسلطة أو للدولة، وليس لرأس مال الشركة.
ذاكرة الأسر
إلى جانب الخسارة الاقتصادية والمعمارية الفادحة، فإن هدم مصنع يكون له تأثيره المحزن لدى الأسر التي ارتبطت به بشكل مباشر، مما يجعله جزءاً راسخاً من ذاكرتهم. منة الله أحمد (29 عاماً) حاصلة على بكالوريوس هندسة. عمل والداها الراحلان بشركة "ستيا". والدها فنّي صيانة خرج على المعاش عام 2007 على درجة مدير إدارة، ووالدتها كانت عاملة في "مشغل البنات" وكانت مهمتها رفع وفحص أثواب الصوف، تتعامل يدوياً مع المنتج النهائي وليس على آلة. وقد جاء تعارفهما من خلال الشركة عبر صديق مشترك.
تقول إنهم عرفوا ما يحدث في الشركة قبل أشهر من خلال مجموعات فيسبوكية خاصة بمنطقة سموحة (حيث تقطن حالياً ويقع مقر الشركة)، وإن والدتها حزنت بشدة عندما علمت بخبر بيع الشركة، خاصة على مصير العاملين. وإن والدها كان سيكون أكثر تأثراً وكان سيشعر بالقهر لأنه أكثر ارتباطاً بالمصنع وبالآلات التي أصلحها بيديه على مدار أكثر من ثلاثة عقود، وهو الذي استمر في العمل بالشركة حتى أواخر حياته حيث توفي بعد خروجه على المعاش بعامين.
في السنوات الأخيرة لعمل أبيها في الشركة بدأت تسمع كلمة "خصخصة" وسألته عمّا تعني ولماذا سوف يترك بعض زملائه عملهم بالشركة. تقول إنه لم يكن يتبقى على خروج والدها على المعاش وقتها الكثير، ولكن زملاء له أصغر سناً وكثيراً من العاملين ومنهم شباب قاموا بتسوية معاشهم وأخذ مبلغ كمكافأة قبل انتهاء مدة خدمتهم.
كانت منّة في الخامسة عشر من عمرها عندما توفي والدها، إلا أن لديها الكثير من الذكريات معه مرتبطة بعمله هناك: في الثالثة عصراً موعد انتهاء العمل.. خبطة الباب.. تحضير الغداء في الثالثة والنصف.. أيّام "المأموريات" وخروجه المبكر عن الموعد الرسمي ليأتي ويأخذني أيضاً من الحضانة.. عدم ذهابي للحضانة في يوم إجازته لأمكث معه.. اصطحابه لي إلى المدرسة الإعدادية في طريق عمله صباحاً.. الوجبات التي تقوم والدتي بإعدادها ليأخذها معه. وكان قد اصطحبها إلى المصنع وهي طفلة وتتذكر شعورها بالرهبة من المساحة الواسعة للغاية وضخامة الآلات وصوتها. حتى الشوارع المحيطة بالشركة التي شهدت بالتأكيد سير والديها خلال خطوبتهما القصيرة بعد أن قاموا بـ"التزويغ" ذات مرة مثلاً قبل موعد الخروج الرسمي، أو وهو يصطحب زوجته وهي حامل بها وجلوسها لتستريح في موضع ما هناك.. السير بالقرب يثير الكثير من المشاعر لدى منّة قد تنتهي بالبكاء.. تقول: "ارتباطنا بالأماكن مصدره الأشخاص الذين نحبهم وكانوا يعيشون فيها"، بالإضافة إلى كون الشركة مصدر الرزق الذي تربّوا منه.. ولا يزال الجزء الأكبر من دخلها حتى الآن مرتبطاً بها من خلال معاشيْ والديها.
في مصر: مشاريع سكنية بدل الصناعات الحيوية
18-02-2021
جدارية الصناعة المصرية .. كيف تغادرها الأيقونات؟
15-07-2021
وكانت والدتها، التي توفيت قبل أشهر، قد عُيِّنت بالشركة عام 1973 عندما كانت في الثامنة عشر من عمرها، وقدّمت استقالتها في منتصف التسعينيات بعد أن وضعت "منة" - طفلتها الأولى - للتفرغ لمسؤولياتها الأسرية.. وكان عدد من أفراد عائلة والدتها التي تقطن في منطقة "الحضرة" حيث مقر الشركة يعملون بها أيضاً: والدها وعمّها اللذان كانوا من الأجيال الأولى للعاملين بها، وإحدى شقيقاتها. وقد كان هناك حضانة لأطفال العاملات تابعة للمصنع. كما حكت لها والدتها عن فطورها الصباحي الذي كانت تشتريه من محل في طريقها إلى العمل، أو تقوم مع زميلاتها بإعداد بعض الأطعمة ليتناولنها بصورة جماعية.
تقول منّة إن مواعيد العمل كانت واحدة لكليهما، من السابعة صباحاً إلى الثالثة عصراً، مع ساعتي عمل إضافيتين كانت والدتها تأخذهما أحياناً لتزيد أجرها. ولأن والديها كانا في مستويين إداريين مختلفين كان أتوبيس الشركة، القديم أخضر اللون بشعار الشركة المميز عليه، ينقل أباها من محل سكنهم القديم في المنشية إلى مقر الشركة ذهاباً وعودة، بينما كان على والدتها العاملة أن تركب المواصلات العامة. "كان والدي أحياناً يترك أتوبيس الشركة ويصطحبها في المواصلات، خاصة وقت حملها، أو تُدعى بصورة ودية لركوب الأتوبيس معه مراعاة لظروفها الصحية في ذلك الوقت". كما كانت والدتها تقبض راتبها كل أسبوعين بينما راتب والدها شهري، بفارق في الراتب تستطيع أن تلمسه حالياً في الفارق الحالي بين المعاشين التقاعديين، الذي لا يفسره فقط - كما تقول - خروج والدتها المبكّر على المعاش، فقد كانت تحكي لها عن الأجر الزهيد الذي كانت تتقاضاه خاصة في بداية عملها.
وتتذكر منّة الرحلات التي كانت تنظمها الشركة، وزارت خلالها القاهرة والإسماعيلية ومطروح.. وقد أرتني صوراً لوالدها بجوار زميل شاب يرتدي الزيّ الرياضي وخلفهما لافتة طويلة مكتوب عليها "الاتحاد العام الرياضي للشركات - بطولة الجمهورية رقم 26"، وصوراً لحفل أقيم له بالنادي الاجتماعي للشركة بمناسبة خروجه على المعاش.. وذهاب والديها عام 2000 في إحدى رحلات العمرة التي كانت تنظمها الشركة ويتم الاختيار فيها بالقرعة..
إلى جانب الخسارة الاقتصادية والمعمارية الفادحة، فإن هدم مصنع محزن للأسر التي ارتبطت به بشكل مباشر، مما جعله جزءاً راسخاً من ذاكرتهم. كانت منّة في الخامسة عشر من عمرها عندما توفي والدها، إلا أن لديها الكثير من الذكريات معه مرتبطة بعمله هناك، وكان قد اصطحبها الى المصنع وهي طفلة وتتذكر شعورها بالرهبة من المساحة الواسعة للغاية وضخامة الآلات وصوتها.
كان هناك حضانة لأطفال العاملات تابعة للمصنع. كما حكت لها والدتها عن فطورها الصباحي الذي كانت تشتريه من محل في طريقها الى العمل، أو تقوم مع زميلاتها بإعداد بعض الأطعمة ليتناولنها بصورة جماعية.
تقول منّة إن أقمشة الشركة كانت مميزة ومشهورة وذات جودة عالية، ولا تزال ملابس والدتها التي قامت بتفصيلها من هذه الأقمشة محتفظة بحالتها، ترتديها شقيقتها الصغرى وتحوز الإعجاب.
في السنوات الأخيرة لعمل أبيها في الشركة بدأت تسمع كلمة "خصخصة" وسألته عمّا تعني ولماذا سوف يترك بعض زملائه عملهم في الشركة. تقول إنه لم يكن يتبقى على خروج والدها على المعاش وقتها الكثير، ولكن زملاء له أصغر سناً وكثيراً من العاملين ومنهم شباب قاموا بتسوية معاشهم وأخذ مبلغ كمكافأة قبل انتهاء مدة خدمتهم.
نظم التوظيف والعلاقات الأسرية
تقول إن عمل أبيها في وظيفة ثابتة أعطى مساحة لوجوده داخل الأسرة، مع الطبيعة القنوعة له وعدم ميله للتنافس أو للهاث لجمع المال وتقديره لأهمية وجوده وسط أبنائه، بينما نظم التوظيف السائدة حالياً إلى جانب الظروف الاقتصادية الصعبة، جعلت الناس يشعرون بعدم الاستقرار المهني وأنهم مهدّدون طوال الوقت بفقدان مصدر رزقهم واضطرارهم للالتحاق بأكثر من عمل لتلبية متطلبات الاسرة، وهذا يؤثر كثيراً على العلاقات داخل الأسر والوقت الذي يقضيه الآباء مع أبنائهم. كذلك ترى أنه حتى العلاقات داخل بيئة العمل باتت محدودة، مع الانكفاء على الأجهزة التكنولوجية، مقارنة بعلاقات والدها مع زملائه في المصنع والتي كانت تمتد لأسر كل منهم ولا يزال زملاؤه يذكرونه رغم كل هذه السنوات منذ وفاته، بالإضافة إلى الأنشطة التي تجمع العاملين من خلال النادي الاجتماعي.. وتقول إن والديها لم يتركا لهما ثروة من عملهما بالشركة فمصاريف تعليمها هي وشقيقتها الصغرى كانت تستأثر بالدخل "وكان حصولنا على شهادة جامعية أولوية قصوى بالنسبة لوالدتي بعد وفاة والدي"، ولكنهما بنيا معهما ذكريات تستطيع أن تعيش عليها طوال حياتها، كما تعلمت منهما الاستقلالية والاعتماد على الذات.
1- https://www.archnet.org/publications/5493 ترجمة الكاتبة