العراق: البحث عن الفساد بعد كل مقتلة

لا يُمكن لجهةٍ، محليّة كانت أم عربيّة أم عالميّة، إحصاء أعداد ضحايا السيّارات المفخخة من القتلى والجرحى في العراق، لأنّ هذه السيّارات الملغّمة بشتّى أنواع المتفجّرات، والتي قتلت وأعاقت ويتّمت مئات الألوف من العراقيين وزرعت الرعب في نفوس الجميع، صارت وكأنّها ديكور في بانوراما الخراب الذي يؤثث المُدن العراقية من شمالها إلى جنوبها.
2016-07-04

عمر الجفال

كاتب صحافي من العراق


شارك
مكان التفجير الإرهابي في الكرادة (03-07-2016 )

لا يُمكن لجهةٍ، محليّة كانت أم عربيّة أم عالميّة، إحصاء أعداد ضحايا السيّارات المفخخة من القتلى والجرحى في العراق، لأنّ هذه السيّارات الملغّمة بشتّى أنواع المتفجّرات، والتي قتلت وأعاقت ويتّمت مئات الألوف من العراقيين وزرعت الرعب في نفوس الجميع، صارت وكأنّها ديكور في بانوراما الخراب الذي يؤثث المُدن العراقية من شمالها إلى جنوبها. أحصت منظمة (Iraq body count) مقتل نحو 251 ألف عراقيّ جرّاء عمليات العنف المتواصلة منذ احتلال العراق من قبل الجيش الأميركي في نيسان / أبريل 2003 وحتّى حزيران / يونيو من العام الجاري. ولم تتمكن المنظمّة من فرز قتلى السيارات المفخّخة عن غيرهم، لكن المتابع للشأن العراقي يعلم تمام العلم إن تلغيم المركبات وتفجيرها في الأسواق والشوارع المكتظّة كانت، وما تزال من أكثر الطرق التي سلكتها التنظيمات الإرهابيّة للإطاحة بأكبر عدد من العراقيين. وإزاء هذا الواقع البشع الذي وُضِعَ فيهِ سُكّان البلاد، فما الذي فعلته الحكومات العراقيّة المتعاقبة للحيلولة دون وقوع قتلى بهذه السهولة وبالطريقة نفسها في كلّ مرّة؟ الجواب سهل: المزيد من صفقات الفساد، وأعداد القتلى والمصابين ليست ذات أهمية طالما أن الأحزاب الحاكمة وتجّارها يزدادون غنى.

الفساد يغذي الإرهاب

عقود أجهزة الكشف عن المتفجّرات واحدة من أكثر الصفقات التي درّت الأموال السهلة على الأحزاب العراقيّة الواصلة إلى السلطة بعد احتلال بغداد عام 2003. وهي طبعاً حالت دون الكشف على هذه السيارات والسيطرة على الظاهرة. تضخيم المؤسسة الأمنية والإنفاق عليها كان دون جدوى، والاستثمار في لوم الجماعات (الأخرى) على عدم استتباب الأمن بقي مُدرّاً للأصوات الانتخابية للبقاء في السلطة. تسرّب اليأس إلى الجميع، وأخذ سكّان بلاد ما بين النهرين بالتعايش مع الانفجارات.
الحكومات المتعاقبة راحت تستثمر في "الانفلات الأمني" من أجل تضخيم ثروتها ومكانتها السياسية، ما أسهم أيضاً في تغويل الطوائف على نفسها. مهدت حكومة نوري المالكي في دورتها الأولى (من 2006 إلى 2010) الطريق لاقتصاد الموت هذا عبر تضخّيمها منظومات أمنيّة وعسكريّة، واستحداث أخرى متضاربة التبعيّة لثلاث جهات، هي مكتب رئيس مجلس الوزراء (بوصفه أيضاً القائد العام للقوّات المسلّحة)، ووزارتي الداخليّة والدفاع. أنتج هذا منظومة أمنية معقدة زادت بدورها الوضع الأمني تعقيداً، إذ على الرغم من ازدياد الإنفاق المالي، وبمقابله ازدياد القتلى أيضاً، باتت مُساءلة أية واحدةٍ من هذه الجهات الأمنية بشأن خرقٍ أمنّي شبه مستحيلة لتضارب مسؤولياتها، وهو ما شكّل منفذاً أساسياً لخلاصها من تهمة الإهمال أو التواطؤ أو صفقات الفساد.
وحين حصد العنف والسيّارات المفخّخة التي رافقت نوري المالكي في العام 2007 (ضاربة مُدن العراق وبشكل خاصّ بغداد) نحو 26 ألف قتيلاً، تعاقدت الحكومة العراقيّة مع شركة بريطانية لاستيراد أجهزة كشف المتفجّرات "السونار" بقيمة 66 مليون دولار. حينذاك كُرِّست الأجهزة الدعائية لمديح "الجهاز السِّحر" الذي سيخلّص العراقيين من الموت في الشوارع جرّاء الانفجارات. إلا أن الجهاز سرعان ما أثبت عدم فاعليّته. واتضح أنه ليس سوى قطعة بلاستيكية لا نفع منها، حيث كانت السيارات المفخخة تتسلل أمامه بكلّ أريحية. وأُدان القضاء البريطاني رجل الأعمال الذي باع العراق الأجهزة بالسجن لعشرة أعوام عام 2013، بينما أعلن المالكي عن إجراء تحقيقات حول فاعليتها في العام ذاته. وبالرغم من أنه أوعز بنفسه، وبكتاب خطيٍّ، باستيراد دفعة أخرى من الأجهزة، إلا أنه استطاع الإفلات من أي مُساءلة. وبدلاً من محاكمة لجان فحص الجهاز ورجل الأعمال المقرّب من المالكي المسؤول عن استيراده، حكم على مدير عام مكافحة المتفجرات السابق بالسجن لأربعة أعوام، ليتحمّل القضيّة وحده، علماً أن الأخير كشف في كتب رسميّة عديدة سرّبها للإعلام عن عدم رضاه عن الجهاز، لثبوت فشله في العمل الميداني.. والمفارقة أن الجهاز ما يزال حتّى الآن مُستخدماً من قبل القوات الأمنية المرابطة في نقاط التفتيش التي تغص بها شوارع العراق!!

السيارات الكاشفة الهوليوودية

صفقة أجهزة السونار مُربحة، بغض النظر عن حياة السكّان وعن ضرورة حمايتهم. وعلى هذا الأساس أخذت تُعقد الصفقة تلو الأخرى لاستيراد أجهزة عديدة لحماية بغداد والمحافظات. وعادت حكومة المالكي (وكان أيضا يتولى فيها منصب وزير الداخليّة بالوكالة) لتتعاقد في دورتها الثانية (2010 - 2014) على استيراد عربات سونار بقيمة 600 مليون دولار، لتنصّب على مداخل بغداد البالغة نحو 17 مدخلاً. صُوّرت السيارات في إعلام الأحزاب وكأنها مُستخرجة من فيلم هوليودي: ستكشف المتفجّرات عن بُعد. ستجول في الأزقة وتطيح بالإرهابيين. مرّت الصفقة بسلامٍ وظلّت المفخخات تحصد الأرواح. ثم استثمرت محافظة بغداد نحو 27 مليون دولار لشراء عربات من منشأ آخر. ونتيجة كل تلك العقود والإنفاق عليها (جرت بين عامي 2013 و2014) كانت مزيداً من القتل والدماء، إذ سقط نحو 30 ألف عراقي قتيلاً خلال العامين المذكورين.

 

فيصل لعيبي - العراق

 

الصقر مكان السونار!

مع إبعاد المالكي عن منصب رئيس مجلس الوزراء، وحلول حيدر العبادي محلّه، تحدّث الإعلام عن أملٍ في القضاء على الفساد وإعادة الأمن إلى المدن المنكوبة. لكن هذا لم يكن، بطبيعة الحال، سوى أمل زائف. فقد عاد العبادي ليكون راقصاً جديداً في حفلة الموت العراقي الصاخبة. إذ استمر استيراد عربات السونار منذ 2014 وحتّى الآن، على الرغم من شحّ السيولة الماليّة، وازدياد التهديد الأمني من قبل تنظيم "داعش" الذي كان يقف على أعتاب بغداد. وكما في السابق، حيث كلّما أُثيرت ضجّة بشأن صفقة فساد تُسارع الحكومة إلى فتح تحقيق بالقضيّة ومن ثمّ تتستّر عليها، جرت الأمور مع حكومة العبادي مع أجهزة السونار المستوردة حديثاً.

 

"انفجار شاحنة ملغمة أمام مطعم في بغداد أثناء تناول السحور: مقتل أكثر من 125 شخصا وإصابة 147 آخرين، بعضهم بوضع الخطر (...)
زار رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي منطقة الانفجار في حي الكرادة التجاري المزدحم، لتفقد الآثار التي خلفها ومعاينة الضحايا من المدنيين، لكن  مواطنين غاضبين هاجموا الموكب في المكان عينه، مما اضطره للانسحاب.
وأصدر العبادي مجموعة من التوجيهات في سبيل تعزيز الأمن في بغداد والمحافظات، من بينها سحب أجهزة كشف المتفجرات لدى الأجهزة الأمنية، وإعادة تنظيم الحواجز الأمنية، وتزويد مداخل العاصمة والمحافظة بأنظمة "رابيسكان" المستخدمة في المطارات لفحص السيارات. واخترق قراصنة الكترونيون موقع وزارة الداخلية العراقية، ووضعوا عليه صورة لطفل من ضحايا التفجيرات، وإلى جانبه جهاز مزيف للكشف عن المتفجرات (...)"
عن موقع BBC في 3 تموز / يوليو 2016

.. ولكن يبدو أنّ الوقت قد حان لاختراع وسائل جديدة للنهب، وهذه المرّة من عائدات الحكومة ومن جيوب المواطنين المنكوبة. فتمّ استحداث "منظومة صقر بغداد" الالكترونية التي تضع ملصقاً على السيارات يحمل بيانات حائز السيّارة من أجل القضاء "تماماً" على السيارات المفخخة وفوضاها.. بعقد بلغت قيمته 50 مليون دولار! استمرّ العمل بهذه المنظومة لنحو 4 أشهر. لم يعرف أحدٌ من يقف خلفها، ومن هي الشركة المنفِّذة. كانت كوادر الشركة تقف على الحواجز الأمنية وتضع ملصقاً على السيّارات وتجبي من كل سيّارة نحو 12 دولاراً، إلا أن خلافاً تفجّر بين الأحزاب على حصص الصفقة جعلها تتبادل الاتهامات بشأنها. في الواقع، تبيّن نهاية حزيران / يونيو أن الشركة المنفذة عراقيّة ومختصّة بالمقاولات والتجارة العامّة المحدودة، وهي لم يسبق لها القيام بأعمال أمنية مماثلة، فضلاً عن أنها لا تمتلك أيّة أجهزة تعينها على القيام بأعمال تتعلّق بالمراقبة الأمنيّة. هل يبدو غريباً، أن يكون من كشف بنود العقود وصفقة الفساد هم الأحزاب والنواب ذاتهم الذين امتدحوا المشروع ودافعوا عنه في بدايته؟
الحال، لا يبدو الوضع الأمني المتفجّر في العراق معقّداً كما تحاول الأحزاب تصويره. هناك أجوبة على كل حدث أمني أودى بحياة العراقيين. دائماً يجب التفتيش عن فساد أو صفقة زبائنية، وستبدو الأجوبة سهلة وطيّعة: كيف سقط ثلث البلاد؟ لغرق الجيش بالفساد والفاسدين. كيف تمّ تهريب معتقلي التنظيمات الإرهابيّة من السجون؟ بالرِشا التي تسلّمها القادة الفاسدون... وأحداث كثيرة أخرى لا تُعدّ ولا تحصى. وطالما أن ماكينات عديدة تعمل ليل نهار من أجل صناعة أجوبة وأعداء لكلّ حدث، سيظلّ الموت هو الجواب الأبقى في هذه البلاد المنكوبة.

مقالات من العراق

فتاة كقصبة ال"بامبو"

فؤاد الحسن 2024-09-29

"فاطمة" لم تستطع نيل موتها، على الرغم من دنو الموت، وتنفسه الثقيل الملتصق بتراب الأرض. فقد اختُطِفت مِن قِبل عناصر تنظيم "داعش"، على الرغم من سنواتها التسع، التي لم تنضج...

للكاتب نفسه

العراق الشاب.. أعزلٌ في وجه "اللادولة"

عمر الجفال 2019-10-22

تندّر السياسيون على دعوات الشباب للتظاهر قبل انطلاقها بساعات. عاملوهم على أنّهم قاصرون. أطلقوا عليهم لفظ "العوام": لا يستطيعون تنظيم أنفسهم، غارقين في الجهل، يصعب فهم لغتهم التي يروّجون فيها...