في 6 أيار/ مايو الفائت، أغلقت السلطات العراقيّة أكثر من 12 شارعاً وجسراً حيويّاً في العاصمة بغداد، ردّاً على دعوة للقيام بتظاهرات مليونيّة. تحوّلت بغداد إلى مدينة مقطّعة الأوصال، ليس بين الكرخ والرصافة اللتين يفصل بينهما نهر دَجلة فحسب، وإنما من كل جهة من العاصمة بذاتها. وصار السّير في الشوارع للوصول إلى ساحة التحرير مهمّة شاقّة، وشبه مستحيلة. وردّاً على هذا الإغلاق من قبل السلطات التي ملأت كل شارع وحي برجال الأمن، كتب الإعلامي زاهر موسى يائساً "يا أخي اضربوا الشعب نووي وارتاحوا". وكان يوجّه كلامه هذا، ساخراً من السياسيين المرعوبين القاطنين في المنطقة الخضراء التي أسسها الاحتلال الأميركي ليسكنها "الحاكم المدنّي للعراق" بول بريمر، وقادة جيش الاحتلال، يجاورهم فيها ساسة العراق طلباً للعزلة، وهي التي استمدّت اسمها ("خضراء") من كونها آمنة بينما بغداد كلّها "حمراء" لأنها مُعرَّضة للتهديد بشكل مستمر.
ثلاثة عشر عاماً والخضراء حصنٌ منيع لهؤلاء، حيث يشرّعون فيها القوانين ويعقدون الصفقات الفاسدة بلا رقيب أو حسيب. إلّا أنّ دخول المتظاهرين إليها في 30 نيسان / أبريل (تلاه انسحابهم منها بعد يوم واحد)، ومن ثمّ دخولهم إليها لمرتين أخريين، كان لا بُد أن تلحقه تدابير جديدة، من بينها وعيد وتهديد واعتقالات للمتظاهرين، إضافة إلى تغيير قادة أمنيين بعد أن تعاطف بعضهم مع حركة الاحتجاج. ووضعت القوّات الأمنية حواجز كونكريتية بارتفاع 3 أمتار، مرصوفة على ثلاث مراحل، تَحول دون دخول المتظاهرين مجدداً إلى المنطقة المعزولة عن الناس.
ظاهرة مقتدى الصدر
إلا أنه لم يكن هناك حاجة لكل هذه التدابير. فالمتظاهرون يئسوا مجدداً. مقتدى الصدر أمر جمهوره بالصلاة في المساجد القريبة من منازلهم، وهو عنى ضمناً عدم ذهابهم إلى الاحتجاج. والصدر رجل لا يستطيع أحد أن يحزر تحرّكاته. يضع قدماً في التظاهرات و/أو الاعتصامات إلا أنه سرعان ما يعود لسحبها. يتصرّف بموجب ما تمليه عليه قريرته ويتخذ قراراته من دون أن يستشير أحداً. يعامل المتظاهرين، جميعهم، كقطيع. يتخذ خطوة من شأنها أن "تصلح" عطباً أخلّ بالعمل السياسي العراقي المُحتضِر، وبالخطوة نفسها يركل الأمل ويتركه صريعاً.
اتخذ الصدر خطوات عديدة أخلّت بشعور النّصر، وقتلت كل شعور بالتغيّر إلى الأفضل. انسحب من اعتصامه داخل المنطقة الخضراء قبل أن تثمر نتائج الاعتصام. أَمَر المعتصمين الذين تحلّقوا بالقرب منه بالانسحاب أيضاً، علماً بأنه هو مَن جعلهم يدخلون إلى الخضراء ليسيطروا بذلك على الحيز الذي تُمارَس فيه السياسة وتتُخذ فيه القرارات قبل أن يعود ليأمرهم بالانسحاب. ومن ثمّ اعتكف. قال إنّه سيختفي لشهرين ولن يتكلّم بشيء خلالهما. جرح عميق حدث في نفوس الشباب الغاضب. لكن ثمّة مَن يسأل: لِم يتمسّك الساعون إلى التغيير، خاصة من المدنيين، بالصدر ويتخذونه مظلّة لهم، لاسيما وأن الكثير منهم يختلف معه، بل إنّ الكثير منهم لم يعُد يضع ثقته فيه منذ خاض رجاله الحرب الطائفية إبان أعوام 2006 و2008، ولم يستطع ردعهم؟
يكمن الجواب في الحاجة الملّحة التي دفعت الشبّان المنتمين إلى أفكار علمانيّة ودينية ليمدوّا يدهم إلى السيّد المعمّم، يختلفون معه إيديولوجياً صحيح، لكنه الوحيد، تقريباً، من السياسيين الذي تربّى بينهم. لم تجرّه المنافي إليها إبان فترات الجوع والحصار في تسعينيات القرن المنصرم. عانى مثلهم من ضيق وتضييق نظام صدّام حسين، عاش يتيماً بعد أن قُتل والده مثلما الكثير من العراقيين الذين فقدوا آباءهم. يمتلك أفكاراً تشبههم في النظر إلى البلاد على أنها عظيمة وفيها الكثير الذي لم يُستثمر، ويعتقد مثل اعتقادهم بأهميّة اتخاذ القرار محليّاً بدلاً من ارتهانه لدول الجوار أو الإمبراطوريات التي عبثت كثيراً بأمن العراق ومقدّراته. والواقع أيضاً أنّ ثمّة من ينظر من المحتجين إلى الصدر على أنّه حصان طروادة يدخلون عبره وجمهوره الواسع المطيع إلى معاقل السياسيين، ليغيّروا الواقع السديمي الذي وصلوه. والصدر يعرف ذلك جيّداً، ولهذا كان يُشدّد على "الأسلمة" للحفاظ على جمهوره المُحافظ كلما ارتفع صوت "العلمنة" بينهم، ويتخذ الاستعارات "الرجعية" في خطبه بعد كل بيان يُصدره، فيه احترام للمدنيّة والدولة والتعدّدية.
هكذا، لم يكن إذاً التحالف بين العلمانيين والصدر متيناً بل هشّاً. وما عجّل فيه هو الشارع المتفجّر، المنفلت من عقال أي فكر أو حزب أو زعامة، والذي حرّكه شعوره بالظلم العميق، حيث اندفع الشبّان إلى الشوارع في جل المحافظات العراقية في تموز/ يوليو 2015 بعد غياب أبسط حقوقهم: التيار الكهربائي. وسرعان ما لحق بهم العلمانيون. والصدر كان خائفاً من التظاهرات في البداية، إذ أنها كانت ضدّ الإسلام السياسي بكلِّ أطيافه: "باسم الدين باكونا (سرقونا) الحرامية"، هذا الشِّعار الذي رفع لم يكن التيار الصدري الذي يمتلك أكثر من 30 نائباً في البرلمان، و4 وزارات في الحكومة بمعزل عنه كما الأحزاب الإسلامية الأخرى التي ارتدت الدين وسرقت مقدّرات البلاد لأكثر من عشرة أعوام. شكّك الصّدر بحراك الشارع، لكنه تراجع وركب الموجة، وهو الأقدر على تحريكها بحكم تاريخ عائلته التي أورثته فئة اجتماعية تقترب من تقديسه، وزاد هو من عدد هذه الفئة بعد نيسان / أبريل عام 2003 عبر تحدّثه إليهم بلغتهم البسيطة والشعبوية في بعض الأحيان.
والحال، احتاج العلمانيون، على كثرتهم، لمقتدى الصدر، لأنّه قادر على تثوير الفئات الفقيرة في المجتمع، والأهم قدرته على حماية المتظاهرين من رجالات أمن وميليشيات أحزاب السلطة، لأنه يمتلك هو الآخر فصائله المسلّحة. غير أن خللاً واضحاً في تفكير العلمانيين، واليساريين منهم على وجه التحديد، جعلهم يوقظون أنطونيو غرامشي من موته ليكون شاهدَ زورٍ على أَمرٍ لم يكن ليقبل المشاركة فيه. إذ نظّر اليسار لتشكّل "كتلة تاريخية" بين الصدريين والمدنيين على أساس أن الجماعتين تطالبان بالمطالب والحقوق ذاتها. لكن المشكلة أن الجماعتين أساساً لا تمتلكان تصوّراً عن مآل الفعل الاحتجاجي وما ينتجه من عمل سياسي في ما بعد. وربما هذا ما يبرر انسحاب الصدر من جهة، وعدم قدرة اليسار على مواكبة الكتلة التاريخية الموهومة عقب هذا الانسحاب.
الحزب الشيوعي
يعود فشل العلمانيين في امتلاك الشارع وتنظيمه إلى الأيام الأولى لاحتلال بغداد في نيسان / أبريل عام 2003. جاء الحزب الشيوعي، الأكثر تضحية تاريخياً، محمولاً بهتافات الأمس البالية، متناسياً ما عاناه المجتمع خلال عقدين من حرب وحصار دولي. والأخطر أنه سرعان ما ارتضى أن يكون رقماً سهلاً في العمليّة الطائفية، إذ لم يعلن رفضه للاحتلال، ووافق زعيمه على دخول مجلس الحكم الانتقالي ليس بصفته الإيديولوجية كعلماني، وإنما كشيعي. كانت تلك أولى اللحظات التي ارتضى فيها العلمانيون أن يكونوا تابعين لسلطة الاحتلال، مؤتمرين لها، وراضين عن تقسيماتها، وهي التقسيمات التي أدّت إلى تهميشهم في ما بعد، سياسياً واجتماعياً. منذ تلك اللحظة غُيّبت العلمانية، التي تمثّلت بالحزب الشيوعي إلى جانب أياد علاوي، رجل الولايات المتحدة الذي تخلّت عنه لصالح حزب الدعوة الإسلامي. وارتضى "القادة العلمانيون" بأدوات السلطة المفروضة من أعلى، من الاحتلال أولاً ومما تشكّل لاحقاً كسلطة محاصصة، وما فتئوا يرضون إلى حدّ توريثهم الأجيال التي دخلت في حركة الاحتجاج الخلل ذاته: غياب نقد وتفكيك العملية السياسية موضوعياً. ويتمثل ذلك أكثر ما يتمثل بالدفاع المستميت عن النظام والدستور الذي يسيّره، رغم أن كلّ ما جرى من نهب وتدمير تحت المظلّة القانونية تلك، تارة بـ "تأويل" المحكمة الاتحادية للدستور، وتارة أخرى بالقوانين المشّوهة التي أقرّتها الأحزاب ذاتها من خلال البرلمان ومجلس الوزراء.
وفي محك الأزمة السياسية الحالية، تجلّت عواقب هذا الخلل المتوارث عند العلمانيين، وقد بدا واضحاً حجم التناطح بينهم، (وهم غير المنظمين في كتلة) وبين الصدريين الأكثر تنظيماً في العراق. العلمانيون يبتغون حكماً تعددياً، بل ويكتفون بإصلاح أياً كانت مضامينه أو صيغه، فيما يرتأي الصدريون الانقلاب على كل شيء ومحرّك جمهورهم هو اليأس. والواضح أنّه لا يمكن لتيّار مثل التيّار الصدري أن يقبل شريكاً في "ثورة" له الغلبة فيها، ولا يمكنه أيضاً أن يتنازل عن إيديولوجيته التي تحرّكها الغيبيات، وتُسيطر عليها الأفكار الرجعيّة تجاه المرأة والحريّة والمعتقد، وهو بذلك لم يكن يُشرك العلمانيين في اتخاذ القرارات. وإذا ما كان الصدر سيقبل بالواقع التعدّدي الذي أراده العلمانيون، فإن رجاله، الذين لطالما تمرّدوا عليه وانشقّوا عنه وأسسوا فصائلهم المسلحة طوال العقد الماضي، كانوا سينقضّون، أول ما ينقضّون، على العلمانيين ذاتهم. هكذا أخبرت تجارب المنطقة والتاريخ، إلّا أن العلمانيين عادوا ليرسبوا في هذا الدرس.
ارتباك شامل
وقد بدا سؤال "ماذا بعد؟" مُربكاً للطرفين اللذين لا يملكان تصوراً لنهاية الحراك. هل يستمر الاحتجاج حتّى إسقاط العمليّة السياسيّة، أم يتوقّف عند "الإصلاح"؟ ماذا بعد خطوة دخول الخضراء؟ ماذا بعد حكومة التكنوقراط؟ هل هناك تصوّر سياسي لتعديل نظام الحكم القائم، أم يجب هدمه؟ تعديلات في الدستور أم تغييره؟ محاكمة الفاسدين أم عقد مصالحة معهم؟ القبول بالمركزية أم إلغاؤها؟... والعديد من الأسئلة التي لا يمتلك أيٌّ من الطرفين الإجابة عليها. هناك تخبّط بيِّن، وليس هناك وقت لتعديل مسار أي شيء. إلا أن الغلبة بقيت للصدر، وهو مَن يعجّل بخطوة ويرتدّ عنها، بينما يبقى الفشل والتقريع للعلمانيين. وبدلاً من أن يكوّن العلمانيون نواة سياسية داخل المجتمع من خلال النزول إليه والتحدّث بلهجته، والعمل معه في الشارع، وتشكيل النقابات والجمعيّات الضاغطة، مستغلين فشل الإسلام السياسي، والظروف الملائمة لتكوين جبهة علمانية تستفيد من عوار الهويّات الفرعية، معتمدة بذلك على الهويّة الوطنية الجامعة، بدلاً من كل ذلك، لجأ العلمانيون إلى الإسلام السياسي ذاته، من خلال تعاضدهم أوّلاً مع ميليشيات في 2015، وثانياً مع الصدر الذي ترك كل شيء، وأخذ استراحة لشهرين، يصوّرها مناصروه على أنها طبيعية، بسبب حلول شهر رمضان.
إزاء هذا الوضع، فإن مرارة الخذلان يتجرّعها الجميع اليوم. إلّا أنه خذلان يُقسّم على الطوائف والقوميّات كلّها، وهذا يعني توحيدهم أمامه ولمواجهته. ويحتاج هذا التطوّر تصوّراً سياسيّاً جديداً خاصة بعد أن أخذت العملية السياسية النّهّابة والمحاصصاتية تلفظ أنفاسها، وأيضاً بعد أن تحوّل قادتها إلى ما يُشبه مديري حكومة احتلال من خلال المكان الذي يشغلونه والقرارات التي يتخذّونها.
ومرارة الخذلان مُرعبة إذا ما تمّ تجرّعها من دون أن يلحقها دواء شافٍ لها، فكلّ انفلات سيحصل اليوم أو غداً لا يتحمّل مسؤوليته المحتجّون، وإنما أولئك النهابون الذين تركوا ثُلث المجتمع تتعارك مصارينه بسبب الجوع، وتركوا العراقيين بلا حقوق تضمنها الشرائع كلها: الكرامة والأمن والغذاء والسكن والتعليم والطبابة والخدمات.