في مجال الإدارة والقيادة، يقولون إن من أنماط القادة: القائد الديمقراطي، والقائد المستبد، والقائد المستبد الطيب. والأخير أخطر من الثاني، ليس فقط لأنه يتظاهر بالديمقراطية فيستمع إلى الجميع قبل أن يستبد برأيه، وإنما لأن الطيبة والود اللذَيْن يتسم بهما يطيلان بقاءه في موقع القيادة. ولا أظن أن الحال تختلف كثيراً فيما يخص هرمية المجتمعات..
فحين تكون قمم الأهرام الاجتماعية، اقتصادياً وسياسياً ودينياً، على درجة كافية من القسوة والغلظة، بل السادية المتلذذة بإنزال العذاب بالمستضعَفين، فإن ردود الأفعال الشعبية، حينما تسنح الفرصة، لن تكون غير أنموذج للتطرف المضاد، حتى تعتدل العلاقات لاحقاً. يكفي، للتدليل على ذلك زيارة لأحد متاحف التعذيب في مواقع محاكم التفتيش الأوروبية (في أمستردام مثلاً)، أو قراءة في نشأة عقوبة السجن، أو الاطلاع على شيء من أحوال أقنان الأرض مع الإقطاعيين، أو العامة مع النبلاء والحكام، لإدراك كيف كانت قاسية ومظلمة معاناة الإنسان الذي لم يحظ بالشرف الاجتماعي في مجتمع أوروبا الهرمي قبل الثورة الصناعية والتطورات اللاحقة عليها. تلك المعاناة التي كانت مباركة من السلطة الروحية بشكل منهجي موسّع كما عرفته أوروبا. فهل كانت التغيرات الثورية لتكون ألطف وأهدأ وأقل راديكالية إذا لم تكن السلطات بمثل هذه القسوة؟!
فإذا جرّدنا تساؤل اللواء عمر سليمان، نائب حسني مبارك، الرئيس المخلوع بثورة يناير، عن توقيت استحقاق الشعب المصري للديمقراطية، من شخص قائله وصفته في موقع السلطة الاستبدادية التي قامت ضدها الثورة، يمكن أن نراه، من وجهة نظرٍ أخرى، سؤالَ حقٍ أريد به باطل. فإذا بحثنا فحوى السؤال على أرضية سوسيولوجية وأنثربولوجية، ربما تعرفنا إلى جوانب مما يعوق التحول الديمقراطي في المجتمعات المصرية.
بعض الملامح عن عوائق التغيير
يمكن الادعاء أنه في الحالة المصرية - وبدون تعميم على البلدان العربية الأخرى - لم يصل أمر السلطة / السلطات إلى استباحة الأجساد في الميادين العامة باسم الخلاص الديني، مع استباحة الأموال والحريات بالقوة الاقتصادية والسياسية،كما كانت حال أوروبا قبل عصر "الحداثة" أو ثوراتها البورجوازية. صحيح أن الاستبداد والقمع كانا متعددي الأشكال والتطبيقات، لا سيما فيما أحدثه محمد علي باشا من تجنيد إجباري لأول مرة في التاريخ المصري الإسلامي، جنباً إلى جنب الجباية الضريبية الظالمة، لكن أضلاع المثلث لم تُحكم قبضتها على قطاعات واسعة من الشعب المصري كما فعلت في أماكن أخرى من العالم. وأقصد بالمثلث: السلطات الدينية والسياسية والاقتصادية.
يمكن مزج الخطاب الديني التقدمي بالخطاب المدني الديمقراطي في مقارعة أنصار الهرمية الطبقية، لا سيما في الأوساط الحضرية المدينية. أما أنصار هرمية الأنساب، لا سيما في الطرق الصوفية، فلا يمكن جذب أسماعهم أصلاً إلا بخطاب ديني متقن، يُجيد الاستدلال بالآية والحديث، ويُحسن المجادلة والرد على نصوصهم من داخل المنظومة التراثية.
دخل الأزهر في علاقة موالاة للسلطة السياسية في أحيان كثيرة، وعادى التجديد والإصلاح، إلا أنه أيضاً قاد حركات الثورة ضد الحملة الفرنسية الاستعمارية، وقد خرج من عباءته أهم المفكرين التجديديين، مثل رفاعة الطهطاوي والإمام محمد عبده. وفي كل الأحوال، لم يكن للأزهر، كسلطة روحية ومعرفية، سلطان قضائي تنفيذي يعاقب المخالفين دينياً ومذهبياً بالإعدام بالمقصلة ولا بالخازوق، ولم يدفنهم أحياءً، ولم يحرقهم أمام العامة، ولم يتفنن رجاله في صنع أدوات التعذيب المتعددة الأغراض والاستخدامات، ولم يُقِم فعاليات جماهيرية لإنزال العقوبات البدنية بغرض الإرهاب والترويع، وإن كان السلاطين قد فعلوا أبشع من ذلك لأغراض سياسية، من دون أن يثور الأزهريون ضدهم. ومن العجيب والمربك في آن، أن تزخر وثائق المحاكم الشرعية في مصر لعدة قرون متعاقبة بشهادات على دور القضاء الديني في حل المشكلات الحياتية، لا سيما في القضايا الزراعية والتجارية، وإقامة العدل بين الناس.
الأوقاف المصرية في قبضة السلطة..
20-11-2021
التعليم الأزهري: آفات التعليم العام وجمود مكين
18-12-2013
أما علاقة المزارعين بأصحاب الأراضي، فلم تكن عادلة، لكنها أيضاً لم تكن، في مجملها، كعلاقة أقنان الأرض بأسيادهم في أوروبا. ولم يكن للدولة قبل محمد علي باشا دور متغوّل في حياة الناس بشكل يوحي بانعدام النظام وحلول الفوضى إذا غابت السلطات الأمنية للدولة عن المجتمع. فلهذه الأسباب، ولغيرها، لم ينشأ لدى القطاعات الأكبر من الشعب المصري، خاصة مع استمرار سيادة نمط الإنتاج الزراعي والعلاقات التقليدية، ما يدعو إلى هدم هرمية مجتمعات الشرف، الموروث أو المكتسب، نحو أفقية مجتمع المساواة في الكرامة الإنسانية.
ربما تقودنا المقارنة بين الأزهر في مصر والكنيسة في أوروبا، أو بين القضاء الشرعي ومحاكم التفتيش، إلى اتخاذ موقف دوغمائي أو الانجرار إلى المناظرات الحضارية. لذا، وجب التذكير بأن الأزهر لا يزال، برأيي، مسؤولاً أو شريكاً في المسؤولية عن كثير من مشكلاتنا القيمية والاجتماعية والفكرية، وأبسطها هو ترسيخ الهرمية بخطاب مشايخه الصوفي الذكوري الأبوي. مجادلتي هنا تنصب على قيام الأزهر بدور "الرجعي الطيب" الاحتوائي، الذي يبادر بين الحين والآخر بمواقف تبدو إصلاحية وانفتاحية، حتى يصاب الباحث في شؤون الأزهر بالحيرة: هل كانت هذه الخطوة أو تلك مراوغةً ذكية؟ أم استجابة حتمية تحت وطأة الضغوط؟ أم توجهاً صادقاً أصيلاً؟ وهل الأزهر، كمؤسسة عتيقة، مثل الشيخ الطاعن في السن، لا يتقدم إلا برفق وتؤدة مهما كانت رغبته في الإسراع؟ أم أنه لا يريد، ولا ينوي، التزحزح عن مواقفه التليدة ويتعذر بتقدمه في السن؟!
ربما لو كان الأزهر، أو المؤسسة الدينية بشكل أعم، على درجة عالية من الاستفزاز والعداء للناس وحقوقهم وتطلعاتهم، كما كانت الكنيسة في أوروبا، لكان ذلك من عوامل التمرد على هرمية المجتمع في جانبها الديني والصوفي. لكن ذلك لم يحدث، فلم تحدث نتائجه. ولا أقول "يا للأسف" كما لا أقول "الحمد لله"، فلا أحد يمكنه التنبؤ بسهولة بمآلات هذا السيناريو الذي لم يتم.
هل من خارطة طريق؟
لا يهدف التحليل السوسيولوجي الكيفي، عادةً، إلى رسم طريق مستقبلي، حتى لو تطلع إلى شيء من التنبؤ. فهو من ناحية ليس ورقة سياسات Policy Paper، وليس مانيفستو أيديولوجي يهدف إلى الحشد والتعبئة. هذه الخاتمة ضرورية حتى لا يُظنّ – خطأً – أن المقال يرمي إلى اليأس والتسليم وفقدان الأمل في التغيير في المدى المنظور. صحيح أنه يجادل بأن تغيير البيئة الاجتماعية والثقافية التي سيناط بها احتضان الحكم الديمقراطي التشاركي في المستقبل، والذود عن قيمه ومعاييره، سيستغرق زمناً أطول من جيل واحد على الأقل، إلا أنه ليس دعوة إلى الانسحاب أو فتور الهمة بأي حال من الأحوال. العكس تماماً هو الصحيح، فهي دعوة إلى تكثيف العلم والعمل...
في الحالة المصرية - وبدون تعميم على البلدان العربية الأخرى - لم يصل أمر السلطة / السلطات إلى استباحة الأجساد في الميادين العامة باسم الخلاص الديني، مع استباحة الأموال والحريات بالقوة الاقتصادية والسياسية،كما كانت حال أوروبا قبل عصر "الحداثة" أو ثوراتها البورجوازية.
ربما لو كان الأزهر، أو المؤسسة الدينية بشكل أعم، على درجة عالية من الاستفزاز والعداء للناس وحقوقهم وتطلعاتهم، كما كانت الكنيسة في أوروبا، لكان ذلك من عوامل التمرد على هرمية المجتمع في جانبها الديني والصوفي. لكن ذلك لم يحدث، فلم تحدث نتائجه.
أما من حيث العلم، فمنذ يناير 2011 وما تلاها من محطات، لا تزال العلوم السياسية تتلقى الضربات تلو الضربات، ما جعل أساتذتها وباحثيها يهيمون بين الحيرة والعزلة المؤقتة عن المجال العام، أو ينخرطون في أنشطة ميدانية (أحياناً بشكل مبالغ فيه) لمحاولة حل أزمة الفجوة بين عالمهم الأكاديمي السابق للثورة وبين الواقع. بلغ الأمر ببعضهم، في بعض النقاشات الودية، إلى التشكيك في وجود نظرية سياسية أصلاً، كما وصل بآخرين إلى محاولة البدء من جديد في حقل العلوم الاجتماعية بمداخل أخرى ومناهج مختلفة.
إن كان هذا المقال في موقف دعوةٍ إلى شيء، فهو يدعو إلى تعميق دراسة أحوال المجتمعات المصرية بمناهج أنثربولوجية وسوسيولوجية كيفية، وأن تتوسع دائرة البحث والدراسة، في مصر، خارج العاصمة والإسكندرية. يمكن أن تكون دعوة إلى إعادة الاعتبار المنهجي وإعادة التوازن الجغرافي، ويمكن، بصيغة أخرى، أن أسمّيها دعوة لمثقفي الطبقة الوسطى المدينية إلى التعرف عن كثب على أحوال الشعب الذي تعيش أغلبيته الساحقة خارج دوائرهم، إما دوائرهم الحضرية، أو دوائرهم الطبقية، أو كليهما.
الصعيد المصري أنهكه النسيان
07-09-2021
بصيغة ثالثة، يمكن أن نطلق عليها دعوة إلى بدء تفكيك الهرمية الجغرافية بين القاهرة والأقاليم. ليتواضع أهل القاهرة في نظرتهم إلى جذور "الدولة القبيلة" وشرايينها وروافدها خارج العاصمة، ويكفّوا عن الاستعلاء على ما لا يفهمون من علاقات وبنى اجتماعية وأعراف وقيم خارج بؤر التمدن الحديث في بعض نواحي القاهرة والإسكندرية ومدن القناة. فإذا كان المقبول أن نرفض إجمالاً ما لا نهتم بمعرفة تفاصيله، فليس من المعقول أن نزعم الرغبة في تغييره من دون إلمام بدقائقه، أو بالعزلة عنه وعدم الاتصال به.
لم يكن للدولة قبل محمد علي باشا دور متغوّل في حياة الناس بشكل يوحي بانعدام النظام وحلول الفوضى إذا غابت السلطات الأمنية للدولة عن المجتمع.
وأما من حيث العمل، فإن أحداً لا يمكنه اتخاذ موقف الدعوة إلى تحول اقتصادي واجتماعي هائل، على غرار الثورة الصناعية في أوروبا، لإعادة تشكيل العلاقات والقيم وتغيير شكل المجتمعات والعمران. مثل هذه التغيرات تحدث بالتراكم، وتحت وطأة الاستجابة لضرورات التقدم في الحياة. وعلى الرغم مما أحدثته ثورة الاتصالات من تغيّر في نمط العلاقات الشبكية وتقليل سلطة الهرميات، إلا أن آثار ذلك يبدو أنها لا تزال محصورة في مساحة علاقة الدولة بالمجتمع والمؤسسة بالأفراد، ويبدو أنها لا تزال ضعيفة الأثر في المجتمعات التقليدية على مستوى البنية الاجتماعية الداخلية، لا سيما مع انتشار أمية القراءة والكتابة وارتفاع مستوى الأمية الإلكترونية خارج المدن الكبرى.
إذا كان من دور يقوم به الطامحون في التحول الديمقراطي في مواجهة هرمية المجتمع وتسوية العلاقات فيه أفقياً، لا سيما إذا كان موقعهم خارج السلطة، فأظنه ينصب على محورين:
- أولاً: توسيع رقعة العمل المدني بمفهومه الواسع، والذي أعرّفه بأنه "كل عمل جماعي غير حكومي غير عسكري لا يهدف إلى الربح الشخصي"، سواءً كان مؤسسياً مسجلاً، أم في هيئة مبادرات طوعية غير مسجلة في الجهة الإدارية. فكل التقاء بين أفراد المجتمعات المصرية، داخل المجتمع المحلي الواحد أو عبر أكثر من مجتمع، متجاوز لانتماءات الولادة والنسب والطبقة، إنما هو خطوة على طريق مجتمع الكرامة الإنسانية ذي العلاقات الأفقية.
هل تتحول مدننا إلى مطارات؟
27-12-2020
صحيح أن بعض أشكال العمل المدني قد يتجه إلى ترسيخ الطبقية عبر اشتراطات العضوية أو طبيعة النشاط وقيمه الموجهة له، لكني أظن أن المفهوم عموماً من الدعوة إلى تعزيز العمل المدني وتوسيع الانخراط فيه، في سياق هذا المقال، بعيد عن دوائر نوادي الروتاري والروابط التي تجمع سكان "الكومباوندات" وطلاب الجامعات الخاصة والأجنبية، بالضبط كما هو بعيد عن جمعيات المغتربين المخصصة لأبناء قرية بعينها أو مركز ريفي محدد في جنوب الوادي أو شمال الدلتا من المقيمين في القاهرة والإسكندرية.
وإذا كانت الرؤية موجهة نحو تجاوز هرمية المجتمعات المصرية نحو أفقية العلاقات وشبكيّتها، ففي هذه الحالة يمكن للمتمرسين في العمل المدني المؤسسي والعمل الحزبي أن يخففوا من حدة النقد الأيديولوجي للعمل الخيري والعمل الثقافي غير المستقل عن مؤسسات الدولة. فبعيداً عن الجدل حول أهمية العمل الخيري، أو دوره التسكيني السياسي الاقتصادي، فإن الزاوية التي ننظر إليه منها هنا، باعتباره أحد أشكال العمل المدني وأوسعها انتشاراً، زاوية مختلفة عن وجهة النظر الاقتصادية السياسية المعادية للنيوليبرالية.
- ثانياً: تطوير خطاب ديني تقدمي متماسك، أي متجاوز للخطبة الوعظية التي تُلقى مرة واحدة، ويحمل في مكوناته عناصر جدلية للرد على أنصار هرمية المجتمع ممن يناصرون انحيازاتهم بخطاب ديني رجعي. بعد كثير من الاستماع، وقليل من المناقشة للخطاب الديني المدافع عن الهرمية في كل من الأوساط القبلية والصوفية ومحبي آل البيت (النسل "الشريف" نسبة إلى النبي ﷺ)، فضلاً عن الخطاب الطبقي الوقح الذي عايشته في سجن مزرعة طرة، حيث كان تسكيني لعدة شهور مع "العناصر المهمة" من الجنائيين، من وزراء ووكلاء وزراء ومساعديهم وضباط سابقين ورجال أعمال فاحشي الثراء، يمكن إجمال إشكاليات الخطاب الديني الرجعي في نقاط محددة:
● لا يستعمل هذا الخطاب إلا منتسب إلى قمة الهرم، أو فاقد الأمل في الانتساب إليه، سواء كان عاجزاً عن ذلك (لغياب فرص الارتقاء الطبقي أو غياب فرص المصاهرة)، أم كان متحققاً في دوائره الدنيا عبر علاقة دونية بقمة الهرم الاجتماعية (مثل أعمال الخدمة في حالة المنتسبين إلى قاع الهرم أو الأعمال الإدارية في حالة المنتمين إلى الطبقة الوسطى).
● الحجج المستخدمة في تسويغ الهرمية الطبقية غالباً ما تكون أضعف بكثير من النصوص التي يجادل بها أنصار هرمية الأنساب و"العرق دساس". حيث يحمل الأخيرون منظومة تراثية متكاملة تراكمت عبر القرون وأحداث التاريخ، ومزايدات الطرق الصوفية من أهل السنة على الشيعة في حب آل البيت وتبجيلهم، وإظهار المبالغة في ذلك.
● يمكن مزج الخطاب الديني التقدمي بالخطاب المدني الديمقراطي في مقارعة أنصار الهرمية الطبقية، لا سيما في الأوساط الحضرية المدينية. أما أنصار هرمية الأنساب، لا سيما في الطرق الصوفية، فلا يمكن جذب أسماعهم أصلاً إلا بخطاب ديني متقن، يُجيد الاستدلال بالآية والحديث، ويُحسن المجادلة والرد على نصوصهم من داخل المنظومة التراثية (وهو أمر ممكن لمن هو مستعد للتمرن عليه من المتصالحين مع الدين ودوره في الشأن العام والحياة الاجتماعية). أما خطاب "التوعية" و"التنوير" المدني، ولو بأقل قدر من الاستعلاء - وهو استعلاء كامن فيه بالضرورة - فهو أقصر الطرق لإنهاء الحوار قبل بدئه.
منذ يناير 2011 وما تلاها من محطات، لا تزال العلوم السياسية تتلقى الضربات تلو الضربات، ما جعل أساتذتها وباحثيها يهيمون بين الحيرة والعزلة المؤقتة عن المجال العام، أو ينخرطون في أنشطة ميدانية (أحياناً بشكل مبالغ فيه) لمحاولة حل أزمة الفجوة بين عالمهم الأكاديمي السابق للثورة وبين الواقع.
إن كان هذا المقال في موقف دعوةٍ إلى شيء، فهو يدعو إلى تعميق دراسة أحوال المجتمعات المصرية بمناهج أنثربولوجية وسوسيولوجية كيفية، وأن تتوسع دائرة البحث والدراسة في مصر، خارج العاصمة والإسكندرية. وهي يمكن أن تكون دعوة إلى إعادة الاعتبار المنهجي وإعادة التوازن الجغرافي.
وبناء على ما سبق، فإن ملامح الخطاب الديني التقدمي المنشود في هذا المضمار يمكن أن يتشكل وفقاً للمحددات التالية:
● لا يمكن أن يصدر خطاب ديني صادق منفصلاً عن الإدراك والتصور الديني للمخاطِب، فالخطاب انعكاس للقناعات الداخلية. وعليه، فلا يمكننا تصور صدور خطاب ديني صادق يدعو إلى المساواة بين البشر على لسان متصوف يعتقد في هرمية الأقطاب والأولياء والعارفين (ولا يشغلنا هنا الاعتقاد في تفاوت المكانة عند الله وإنما انعكاس هذه الهرمية على العلاقات الاجتماعية بين البشر، أي في عالم الشريعة لا الحقيقة، بلغة الصوفيين أنفسهم). فهذا المخاطِب لا يمكن أن يكون متحمساً ولا صادقاً لمجرد أنه تلقى تكليفاً من وزارة الأوقاف مثلاً لتكون خطبة الجمعة عن المساواة. وبشكل عام، أستبعد أن يتشكل خطاب ديني يدعو إلى المساواة الحقيقية وإعلاء الكرامة الإنسانية فوق الشرف الاجتماعي من داخل المؤسسة الدينية (أزهر أو دار إفتاء أو وزارة أوقاف)، ولا بد أن يتولد الخطاب الديني التقدمي من خارجها، حتى لو صار له أصداء ومناصرون داخلها.
● المراد هو إنتاج خطاب، لا إلقاء خطبة، فلا يكفي تجميع النصوص الدينية عن الكرامة والمساواة ورصّها بعضها فوق بعض، بل المقصود أن يبنى منها بناء متماسك، له أسس وإطار وأصول وفروع، فنصل إلى المساواة في الحقوق والواجبات (المواطنة) بخطاب متصالح مع الدين، إن لم يكن دينياً خالصاً.
● وعلى سبيل المثال، فإن ضبط علاقة أحاديث "العرق دساس" و"إن الله اصطفى ولد إسماعيل من ولد آدم، واصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشاً من كنانة... واصطفاني من بني هاشم"، وكذلك أحاديث فضل آل البيت، من ناحية، بآية "وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ" وآية "إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللهِ أَتْقَاكُمْ"، من ناحية أخرى، يتطلب نظرة أعمق من مسألة العام والخاص، أو المطلق والمقيد. أساس الأمر يكمن في ضبط علاقة السنة بالقرآن، والتسليم بالهيمنة المطلقة للقرآن على السنة ابتداءً، ثم فهم المقصد القرآني كمثال لما ينبغي أن يكون، وتحرك النبي، كقائد اجتماعي، في زمانه ومكانه في كثير من الأمور بالمسلمين من حيث هم ومن حيث كانت أوضاعهم الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، لا من حيث يريدهم القرآن أن يكونوا (كقضية العبودية وتحرير العبيد مثلاً). السنة الصحيحة زاخرة بنصوص مؤيدة للقرآن، وهي أضعاف أضعاف القلة من النصوص المثيرة لشيء من الالتباس لمن لا تتضح لديه المسائل الأصولية في ضبط علاقتها بالقرآن. ومن النصوص الصحيحة الصريحة في نفي تمييز النسب "الشريف" وآل البيت عن غيرهم حديث "لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها"، وحديث خطبة الوداع ’"وإن أول ربا أضعه ربا العباس بن عبد المطلب".
من مراجعات يناير في سجون يوليو: مقدمة
02-02-2023
أخيراً، فإن استسهال الدوائر النخبوية ذات الميول العلمانية للدوران في أفلاك مغلقة داخل العاصمة، مسقِطين أهمية تشكيل خطاب ديني تقدمي (بأدواته السليمة) من حساباتهم لهو أشبه ما يكون بالتغافل عن وجود فيل ضخم في الغرفة. أما عزلتهم الاختيارية داخل ملتقياتهم القاهرية والسكندرية فهو التغافل عن ديناصور أسطوري في المدن والأرياف، سواءً بسواء.
* كتبت المسودة الأولية لهذا المقال في سجن مزرعة طرة، أيلول / سبتمبر 2016، أي الشهر العاشر من سجن الكاتب الذي امتد إلى 84 شهراً، أو سبع سنوات. وقد تم تطوير محتواه عن النص الأصلي نظراً لتطور أفكار الكاتب خلال هذه السنوات.