تشهد المحاكم السورية في مختلف المناطق، ومنذ العام 2014، زيادة في عدد قضايا تزوير ملكيات عقارات، وهي تجري بطرائق متعددة، ناظمها الدقة في التزوير بحيث يصعب كشفها بالوسائل المعتادة. ومع تعرض مناطق وأحياء سورية كثيرة لتدمير جزئي أو كلي، ونزوح أصحابها على غير هدى، أصبح إثبات ملكية أي عقار في هذه المناطق أمراً صعباً، خاصة أن إثبات الملكية في سوريا بالأصل عملية معقدة تتداخل فيها عوامل كثيرة.
في النصف الأول من العام الحالي، فاق عدد القيود والتركات في سوريا قرابة 700 ألف معاملة، فيما بلغ عدد العقارات المسجلة وفقاً لأرقام صادرة عن المديرية العامة للمصالح العقارية (وهي أقدم المؤسسات الحكومية السورية) رسمياً 4.7 مليون عقار. وهناك أكثر من مئة ألف صحيفة عقارية (ورقية) تغيب عنها أتمتة الصحائف العقارية، وهو مشروع لم يقيّض له الإنجاز رغم انطلاقه قبل أكثر من عقدين.
مصدر قضائي قدر حالات التزوير الجاري في دمشق وحدها بحوالي عشرين حالة يومياً، وبما لا يقل عن عشرة آلاف حالة إجمالية سنوياً، تليها مدينة حلب فحمص (الأرقام من تحقيق استقصائي أجرته شبكة "أريج" العام 2014)، وتشمل عمليات التزوير نقل ملكيات مبانٍ ومعامل وأراضٍ زراعية وغير زراعية إلى مالكين جدد، ولا سيما العقارات التي يمكن مستقبلاً استثمارها سياحياً أو صناعياً كما في اللاذقية وحلب.
انتشرت هذه الظاهرة أولاً في مناطق العشوائيات التي دُمّر معظمها ونزحت غالبية سكانها (في مختلف المحافظات). وهذه العشوائيات بُنيت أصلاً بطرائق غير قانونية أبرزها وضع اليد وإشغال الملكية. ومع صعوبة استخراج بديل عن سندات التمليك المفقودة نتيجة تعرّض بعض الدوائر العقارية للنهب أو الحرق أو الخروج عن الخدمة لأسباب مختلفة، لن يكون ممكناً أبداً التحقق من ملكية أي عقار، الأمر الذي يعني مستقبلاً مليئاً بالنزاعات التي تهدد السلم المجتمعي إن لم يكن لدى الدولة المقبلة، أياً كان شكلها، مشاريع حقيقة قادرة على امتصاص هذه النزاعات وحلها بشكل عادل.
يمارس التزوير أطراف متعددون لهم مصلحة في العملية التي غالباً ما تتم تحت ستار الحاجة إلى سيولة مالية نتيجة لظروف الهجرة أو للحاجة لإجراء عمل جراحي مكلف، أو نتيجة الحاجة للمال في قضايا أمنية مثل دفع فدية لإطلاق سراح مخطوف أو معتقل. غالباً ما يكون البيع لأي عقار بأقل من القيمة التخمينية له، مما يشكل عامل إغراء مضافاً لإتمام عملية البيع. في حالة موثقة تمّ بيع منزل في باب توما بدمشق بمبلغ يقل عن سعره الأصلي بعشرة أضعاف.
أكثر حالات التزوير العقاري شيوعاً انتحال شخصية مالك العقار وتزوير هويته الشخصية. وهو أمر ليس صعباً في ظل غياب أي عنصر حماية إلكتروني للهوية (توضع صورة المزور مكان صورة الضحية، أو يتم تنظيم ضبط فقدان نظامي لهوية غالباً ما يكون صاحبها خارج البلد، واستخراج بديل عنها). قانون العقوبات السوري يعتبر تزوير الهوية "جنحة" وتزوير العقود "جناية" وعقوبتهما القصوى من شهرين إلى سنتين.
هذه الطريقة حققت نجاحاً لصعوبة اكتشاف التزوير، بما يمكّن المزورين من استخراج كافة الوثائق المرتبطة بعملية بيع العقار، ومنها بيان القيد العقاري، خاصة أن كل البيانات التالية للهوية الشخصية لا تحتوي على صورة شخصية لطالب البيان بما في ذلك قيد النفوس المدني، الأمر الذي يسهّل عملية التزوير.
الحصول على معلومات الضحية ليس صعباً في ظل دأب هؤلاء الأشخاص وبحثهم عن لِقى ثمينة فيها ملايين الليرات (وأحياناً ملايين الدولارات). فكثرة المهجّرين وتاركي بيوتهم تجعل من العثور على المنزل والضحية أمراً سهلاً، خاصة في الأحياء الراقية أو المناطق السياحية (صلنفة، الزبداني، بلودان، وغيرها). وتكون نسبة اكتشاف عملية التزوير ضئيلة عموماً في ظل ضعف الحركة والتردّد إلى هذه المناطق. وحدها الصدفة تكشف العملية.
التزوير في الوكالات القضائية التي تخوّل القيام بعمليات البيع والشراء تشكل النسبة الثانية في جرائم التزوير العقاري، وبطرق متعددة منها سحب الوكالات عبر الماسح الضوئي (السكانر) وختمها بأختام حقيقية أو مزورة، وقد تسبّب هذا التزوير بضرر كبير للمهجرين سواء كانوا خارج البلاد أو داخلها.
يقوم المزوّر بتنظيم وكالة ترسل أصولاً إلى المصالح العقارية تلتزم بموجبها بتنظيم عملية نقل الملكية من مبدأ حق المالك في البيع، وهذه العملية تحتاج سلسلة من الإجراءات غير السهلة (ومنها التدقيق في صك الملكية) ويمكن المضي بها بموجب الوكالة دون الحاجة لوجود البائع الذي هو الشخص المزوِّر، مما يجعل عمل المديريات العقارية مطابق شكلاً ومضموناً للنص القانوني ولسياق العملية نفسها، كما يصعب هنا في هذه السلسلة اعتبار وجود فساد وظيفي إذ لا يملك موظفو العقارية حق التدخل في سيرها بناء على شكوك أو ظنون معينة.
تخضع عملية كشف التزوير هنا للصدفة بشكل رئيسي، أو لوجود جيران ينتبهون إلى تغير صاحب العقار. في اللاذقية مثلاً، ساهمت معرفة الجيران بإخبار مغترب سوري يعيش في كندا منذ عقود أن منزله في "مشروع الأوقاف" قد تم بيعه. عاد الرجل إلى البلاد ليبدأ دعوى استعادة الملكية بشكوى جنائية أدت إلى القبض على بعض الأشخاص الصغار المتورطين دون القدرة على معرفة امتدادات هؤلاء في جهاز الدولة.
يعتبر بعض القضاة الذين التقيناهم أن الظاهرة لطالما كانت موجودة قبل الأزمة الراهنة، وأن زيادتها هي نتيجة للظروف الأمنية التي تشهدها البلاد، كما أن الحكومة اعترفت بوجودها وعلمت على الحد منها، فقد أصدرت العام الماضي قراراً عن المكتب الخاص يقضي بعدم تنظيم أية عملية بيع عقار دون وجود موافقة أمنية وفي جميع المناطق المنظمة وغير المنظمة (رقم 5246 تاريخ 16 أيلول/سبتمبر 2015).
كما أصدرت وزارة العدل قانوناً يقضي بعدم اعتماد أية وكالة إلا بعد مراسلة الجهة التي أصدرتها (الكاتب بالعدل) للتأكد من مصداقية الوكالة والطلب بتجديدها قبل انتهاء صلاحيتها، والطلب بحضور الشخص الموكل أمام الكاتب بالعدل (القانون رقم 15 تاريخ 24 آب/اغسطس 2014).
هذه الإجراءات خففت من الظاهرة بنسبة الثلث وفقاً لمحامين في اللاذقية، وإلى تلك الإجراءات أضيف تعميم (رقم 77 تاريخ 9 تشرين الثاني/نوفمبر 2014) يطلب إجراء الكشف الحسي على العقار والتأكد من شاغليه وسؤال الجوار والتثبت من صحة القيد العقاري، وتبعه اجتهاد بعض القضاة بضرورة حضور البائع والشاري إلى المحكمة حتى بوجود وكالة رسمية معتمدة.
وصول قضايا التزوير إلى المحاكم يعتبر بداية لحلقة طويلة من الانتظار لكل من المالك الأساسي والشاري الأخير، وكلاهما، كما يفترض القانون، قد أقدما على البيع والشراء بـ "حسن نية". تحتاج عملية تدقيق البيع والشراء إلى التأكد من وجود التزوير وإثباته، وهذا يستغرق وقتاً، وفي حال ثبوته يكون الحكم عادة بتثبيت البيع للشاري الأخير، والتدقيق في عملية البيع بين المالك الأساسي والشاري الأول أو صاحب الوكالة المزورة، حيث يبدأ انكشاف سلسلة الخيوط التي أنتجت التزوير، ويحكم القاضي عادة ضد الأخير بتهمة التزوير، وغالباً ما يكون هذا الشخص قد توارى عن الأنظار هارباً بالملايين، ليدخل المالك الأساسي والشاري الأخير متاهة حل القضية بطرق قانونية.. دون نتيجة غالباً. فهل هناك حلول ممكنة لهذه التعديات المستمرة؟
الأمر في غاية الصعوبة، فسَنّ قوانين جديدة لن يحل المشكلة في ظل ضعف قدرة الجهات المعنية وافتقادها أدوات كشف التزوير والحد من هذه الظاهرة، وعدم قدرتها على ملاحقة الرؤوس الكبيرة التي تقود هذه العمليات مستفيدة من مواقع نفوذها الرسمية وغير الرسمية وانتشار فوضى السلاح والمسلحين.