الديموغرافيا والكوميديا في المغرب

فاز "حزب الأصالة والمعاصرة" في الانتخابات الجماعيّة في أيلول / سبتمبر 2015 بأغلبيّة المقاعد في البوادي المغربية. وهكذا وجد الحزب الذي يرفع شعار الحداثة نفسه مضطرّاً لتكييف خطابه مع الحصيلة.
2016-06-23

محمد بنعزيز

كاتب وسينمائي من المغرب


شارك
فادي الحموي - سوريا

فاز "حزب الأصالة والمعاصرة" في الانتخابات الجماعيّة في أيلول / سبتمبر 2015 بأغلبيّة المقاعد في البوادي المغربية. وهكذا وجد الحزب الذي يرفع شعار الحداثة نفسه مضطرّاً لتكييف خطابه مع الحصيلة. التطبيق: في جلسة منقولة على التلفزيون مطلع الشهر الجاري، قال برلماني من الحزب ان البادية بائسة حزينة تعاني الهشاشة والفقر بسبب إهمال المناطق القروية والجبلية. ردّ عليه رئيس الوزراء أنّ سكّان البادية أصحاب حياء وقناعة ويضربون البندير (الدف) بعد العشاء. وانتقد عبد الإله بنكيران ضاحكاً "استغلال بعض النصّابين للقرى وتحويلها إلى خزّان انتخابي"، وختم أنّه كمديني قد يكون أكثر رأفةً بالقرويين.
بهذا المدخل بلع "حزب الأصالة والمعاصرة" الطّعم وصار يقتصر على المطالبة بتمثيل سكان البادية وكأنه سلّم بتمثيل حزب العدالة والتنمية لسكّان المدن. تكريسا لهذا كتب قيادي في حزب الأصالة والمعاصرة دفاعا عن المغرب العميق المتهم بـ "ضرب البندير"، وفسر ما خطه قائلا إن "الاهتمام اليوم بهذا الموضوع يجعلنا نكتشف من جديد بؤس وشقاء سكّان هذه المناطق". وندّد القيادي بالرّواية التحقيرية وهذا الإصرار من جانب السيّد رئيس الحكومة لمحاصرة التاريخ البطولي والشجاع لهذه المناطق والضحك السياسي على المغاربة بالقهقهات المحتقنة بالحقد الدفين..
فإذا بالقيادي يعتز بقريته وقبيلته، ونسي أنه كيساري سابق يجب أن يكون لديه أفق أرحب. ما أشد بؤس اليساريين حين يرتدّون لمظلّة القبيلة.
هكذا تتنازع الأحزاب فهم وتمثيل سكّان البادية والنطق باسمهم في زمن الفرار من الأرض. هناك تحولٌ ديموغرافيّ كبير في المغرب. صار ثلثا سكانه يسكنون المدن، لذا لا يمكن تجاهل آنيّة تعارض المدينة والبادية في المجال الاجتماعي والسياسي والفني.
أسباب نزول هذا الكلام هي فيديو الحلقات الأولى من كوميديا "كبور والحبيب" التي تتناول الهجرة من البادية للمدينة (كتبها الفنانان حسن الفد وهيثم مفتاح) وقد تجاوزت ملايين المشاهدات على يوتيوب في ظرف أسبوع. تكشف المشاهدة المكثّفة حيويّة موضوعٍ لا يتقادم وهذا يستحقّ الرّصد. فهو يؤكد استمرار وصفة ترييف الشّاشة الصّغيرة في المغرب، ويكشف أنّ الهجرة الدّاخلية لا تقلّ قسوةً عن الهجرة الخارجيّة.

فعندما يصل ابن البوادي إلى الدّار البيضاء أوّل مرّة، يُستقبل بشتائم وإهانات منها أنه بليد لا ينطق الأسماء جيدا، ويوصف بلغة عدوانية تشبّهه بالحيوانات وتستعير منها صفاتها. يوصف بأنه جائع بدليل أنّ وجهه أزرق وأنّ رائحته فيها رائحة الحظيرة.. تعكس قساوة الكلمات علاقة المغاربة بالجوع.
يسكن في قفص أو في حفرة. للإشارة 13 في المئة من سكان المدن يقطنون في سكن غير لائق. يسكن في حي هامشيّ فيه كثافة نسائيّة عالية لأنّ الكثير من الرجال في السّجون. يحاول فهم المنظومة القيميّة الجديدة من خلال سرد خبر زواج وعرسٍ مستعجل في فصل الشّتاء لأنّ الدّجاج رخيص. العريس بلجيكي مغربي مسلم يحب العروس ولم يرها سابقا، كما يتفاخر شقيقها. يفتخر الأخ بزواج أخته الصغيرة من بلجيكي يحبها بينما تخرب الأسئلة سرديّته التفاخريّة، لأنّ الحبّ يقتضي المعاشرة. عريس بلجيكي؟ هل الزّواج "أبيض" (بغاية الهجرة مثلاً)؟ لا.
يستنتج البدوي برد فعل فوري فاضح: إذاً الزواج أسود، أي سيكون فيه أولاد.
هكذا يكشف الحوار المستوى الذهني للمتحاورين وانشغالاتهم. حوار أوتوماتيكي عفوي تلقائي مبني على كشف اللاوعي الجمعي. يشبه المونولوج لأنّ الطّرف الآخر يُكْمل الفكرة.
هذه حوارات صادمة تكشف المسكوت عنه في العلاقات السائدة في المجتمع. تكشف، ليس من خلال ما يقال بل من خلال ما يتمّ التّغاضي عنه. الحوار ظاهره الغباء ولكنه يصعق المشاهدين الذين يتماهون معه بسهولة لأنهم يمارسونه.
نرى البدويّ الّذي لم يتعلم كيف يكسب رزقه بالحيلة يتغذّى ويتعشّى بالبيض وحبوب القطاني ويزعم أنّ السبب هو انشغاله الذي يمنعه من طبخ اللّحم والخضر.. من فرط الجوع يلحس الصحن ويتحمّل بؤسه بالذرائع.. يعيش تكيفاً عسيرا. يتحمّل ويتعلّم حماية مصلحته الفردية بأظفاره لكي يبقى حياً فيوصف بأنّه بطن جاعت وشبعت فجأة..
تمرّ الأيام وتتحسن وضعية المهاجر الجديد. والغريب أنه يتناسى أصله بسرعة ويتقمّص دور جلّاده. ينسب التفوق لنفسه ويكرر الخطاب نفسه تجاه المهاجرين الجدد لعرقلة اندماجهم. يستخدم شتائم يبدو أنّه أول من تنطبق عليه.. يعاني من التضليل الذاتيّ ويتعايش معه برضى.
يتمّ تعويض البؤس بتقمّص دور المدينيّ، يتقمّص الخطاب التحقيري تجاه أشباهه بعنف وشراسة وحقد مرير لا يكشف عن تَغيّره بل عن حجم احتقاره لأصله. وقد يدّعي النّبالة باسمه المركب "كبور بناني سميرس" وهذا يشير لعائلات فاسيّة عريقة. بذلك قطع حبل السرّة بأصله الكريه.
هكذا تكشف الكوميديا أمراض الانتقال نحو التمدّن ومنها التفاخر.
فيها انتقل كبور والحبيب من البادية إلى المدينة. انتقلا من سلطة رجال الدّرك الأشدّاء إلى سلطة رجال الشرطة الطيبين. من الكتلة الناخبة البدويّة إلى الكتلة النّاخبة المدينية. لقد ترك بطلا المسلسل الكوميدي البادية وهما فقيران ولا يملكان إلّا ما يلبسانه وتنبعث منهما رائحة البقر. من سلوك كبور والحبيب، لا يبدو أنّهما ينتظران شيئا من أيّ برلماني. يدبّران أمورهما بمفردهما. فمن سيزعم تمثيلهما في البرلمان؟ هل الحزب الإسلامي أم الحزب الحداثي؟
ستجري الانتخابات في تشرين الأوّل/ أكتوبر المقبل، وقانونيا لا يحق لهما التصويت في المدينة لأنّ وزارة الداخلية تشترط ستة أشهر إقامة في مكان معين للحصول على البطاقة الشخصية والانتخابية. لا داعي للعجلة، عليهما انتظار انتخابات 2021.
وزارة الداخلية لا تحب العجلة، وآخر مثال سياسي قدّمته حين أجابت عن سؤال: ما هي الأرقام التفصيليّة لنتائج انتخابات 4-9-2015؟ جاء الجواب ولم يذكر عدد الأصوات التي حصل عليها كل حزب. ولم يذكر نسبة الأصوات الملغاة. ولم يذكر عدد الذين لم يصوّتوا.
أجوبة وزير الداخلية تشبه أجوبة لحبيب وكبور بطلي الكوميديا. لا يمكن اعتبار السياسيين قدوة للشباب في الوضوح. لا تتعامل وزارة الداخلية مع وعي المغاربة: يعرف مهندسو الدّاخلية أنّ العقلاني نادر وغير مؤثر لأن اللاوعي الجمعي هو الحاكم المطلق. لهذا ظلّ التلفزيون المغربي مرتبطا بوزارة الداخلية لمدّة طويلة. وحتى موظفوه المؤثرون حاليا لهم خلفيّة بوليسية، ويقدمون للشعب ما يضحكه.
لذلك قرر السوسيولوجي البصاص التخلص من أوهام المثقف ليستهلك ما يستهلكه الشعب من دون تقديم الدروس للغير. من هذا المنطلق فلنر ما عندنا: في المقهى يشاهد الشبان الفيديو على هواتفهم ويضحكون ويعيدون المشاهدة. ما الذي يبحثون عنه؟
تسلية تنبع من واقعهم الذي يقول إن ساكنة البيضاء زادت بنسبة 20 في المئة منذ 2004، وإن الكثافة السكانية تبلغ 40 ألف نسمة في الكيلومتر المربع في الكثير من الأحياء. وهذا يفرض تجاوز موقف إدانة كوميديا رمضان البدوية لتحليل الظاهرة.
بعد أن يشاهد المغاربة الكوميديا الرمضانية يشتمونها بأنها "حامضة". للإشارة فإنه من فوائد تناول الحامض تقوية جدار المعدة ووقف الإسهال وتسهيل التنفس ومنع تساقط الشعر، ففي الحامض أوكسجين كيماوي.
عاد حسن الفد ببرنامجين كوميديين، الأول يظهر فيه بدويا والثاني يظهر فيه شخصا عصريا. الفرق واضح: وصلت كوميديا البدويّ إلى ملايين المشاهدات لم تصل كوميديا الموظف المدينيّ الذي يغسل أسنانه بالفرشاة إلى عشرها. الأرقام تتكلم. كوميديا حسن الفد مؤثرة وكاشفة، لذلك تجد لها صدى عميقا في الوجدان المغربي. ولزيادة التأثير استعان بمخرج شاب وضع لمسته على التصوير بحيث يساعد الإخراج وأداء الممثلين وحركات الكاميرا في تعميق الدلالات.
تستثير هذه الكوميديا الغرائز الكامنة والمواقف المسبقة للمغاربة ولا تخترعها. يكشف كبور (حسن الفد) الذاكرة المكبوتة المغربية. عادة تُكشف هذه الذاكرة بالتنويم المغناطيسي. لكنّ الكوميديا تكشفها لدى الجموع الّتي تضحك بعمق هستيري وهي ترى وعيها المكبوت مجسّداً عارياً.. يرى كبور يقول إنه يتبع الدرك وليس الشرطة وكأنّ الانتقال المكاني بلا أثر.
تساعد الكوميديا المتفرّج على الاسترجاع بسهولة ودون ألم. استرجاع التاريخ الشخصي الذي تم تناسيه. والضّحك الهستيري ضدّ كبور ليس مجانياً، بل له صلة قويّة بكره الماضي الشخصيّ للمتفرج الذي ترك البلد وجاء للمدينة ولم ينس أبداً نظرات الاحتقار التي تكبّدها قبل أن يتمدّن مظهره. حين سيتمدن لبّه لن تحطم كوميديا "كبور والحبيب" الأرقام القياسية.

 

مقالات من المغرب

الحرّية للصحافيين والسّجن للصحافة

الصّحافيون الثلاثة الأشهر الذين أُفرج عنهم، أُدخلوا السّجن بتهم جنسية، لا بتهم متعلقة بحرّية الصّحافة أو الرأي، كما هو الواقع. وهي استراتيجية مباشِرة إلى درجة تثير السخرية، لكنها أيضاً لئيمة...

للكاتب نفسه