حلقٌ، عقدٌ، دُملج، خاتم، خِلخال، بْروش، سِوار، حِزام، خيطُ الرّيح، بروش الشَّعر، أقراطُ الأنف والشفاه والبطن... وأنواع أخرى من الحُلِيّ التي اخترعها الإنسان منذ القِدم، واختار لها أطرافاً دون أخرى لتحمِلَها. ربّما أصبحت الحليّ في هذا العصر إكسسوارات للزّينة بشكل حصري، لكنّها في وقت ليس ببعيد، كانت لها أدوارٌ أخرى مختلفة: طردُ الأرواح الشّريرة، اتّقاءُ العين، جلبُ الحظّ، علامة خاصّة بمنطقة أو بعشيرة، أداةُ تصنيف طبقيّ بين الأغنياء والفقراء، الحِفاظ على تقاليدِ العائلات، وغيرها من الغايات التي تخدِمها الحليّ. كذلك، لم تكن الحِلي من المعدن دوماً، بل تعاقبت على صناعتها مواد مختلفة في تاريخ من الجمال والفخر.
بدأتِ الحلي بالأصدافِ كأوّلِ مادة أوليّة في صنعها، ثم الخَشب وريش الطيور والعاج وأسنان الحيوانات والأحجار الكريمة، ثم المعادن بمختلف أنواعها. ولو أنّ الفضّة استحوذت على صِناعة الحليّ في تاريخ المغرب والمنطقة، ليس لغلاء الذّهب ونُدرته، بل لأنّ قيمة الفضّة كانت تتفوق بدّلالاتها الرّمزية على عامل التكلفة المالية: رمزُ النّقاء والصّفاء والوضوح، على عكسِ الذّهب الشّاحب والمصفرّ صُفرة رمال الصّحراء (1)، وغُبارها والحقول الجافّة. لذا ظل الذهب قرين المدن، والمعدن المفضل لدى العرائس فيها.
هذه العودة إلى الحلي وتاريخها، كان خلفهُا افتتاح متحف للحلي في قصبة الوْداية في الرباط، وهي منطقةٌ لها تاريخ مجيد، تتكوّن من أسوار القلعة التي بناها المرابطون، وحي المدينة القديمة وحدائقها. وهي الآن مزار سياحي من أهم معالم الرباط السياحية.
في صناعة الحليّ... نحن الأقدم
بدأ الإنسان صناعة الحلي في العصر الحجري القديم والوسيط، منذ 150 ألف سنة، من أصل حوالي 300 ألف سنة من وجوده على الأرض حسب جلّ الدراسات،. وللعلم فإنّ أقدم أثر للإنسان العاقل على الأرض، وُجد قريباً من منطقة العثور على الحلي الأقدم في التاريخ، في جبل "إيغود". عُثر على هذه الحلي التي تعتبر أقدمَ بالضِّعف من أيّ لقًى أثرية أخرى للحلي في العالم، في مغارة "بيزمون" بالقرب من "الصويرة" على المحيط الأطلسي، على بعد حوالي 500 كيلومتراً جنوبي الرباط. في تلك الفترة، كان البحر يبعد عن المنطقة بنحو 50 كيلومتراً، فيما لا تفصلهما الآن سوى 12 كيلومتر. لقد انتقل الإنسان من منطقة سَكنِه في المغارة وحواليها إلى هذا الشاطئ، وجمع أصدافاً معيّنة، واستعملها كقلائد وأساور، مما يعني أنّ لهذه الأصداف قيمة خاصة عنده. أثبت تحليل هذه الحلي بأنها صُبغت بمادة المُغْرة الحمراء، التي كان الإنسان القديم يطلي بها جسده أيضاً، وهي صبغة طينية طبيعية، عبارة عن مزيج من أكسيد الحديد وكميات متفاوتة من الطين والرمل.
تقوّض هذه الحلي القراءات الشائعة لنمط حياة الإنسان القديم، الذي يظن الكثيرون أنه كان مكتفياً بالصّيد لسد الجوع، وإيجاد مأوى والصّراع حول الأمرين، وغيرها من الأسباب التي دعت الإنسان إلى الاقتتال منذ البداية. وُجدت الأصداف نفسها في مواقع أخرى في المغرب. هناك تواصل إذاً بين هذه المجموعات البشرية، بالنظر إلى استعمالهم للأصداف نفسها، وهناك وجود مشتركات ثقافية بينها، بالنظر إلى تقاسم الدّلالة الرمزية لها.
أصبحت الحليّ في هذا العصر إكسسوارات للزّينة بشكل حصري، لكنّها في وقت ليس ببعيد، كانت لها أدوارٌ أخرى مختلفة: طردُ الأرواح الشّريرة، اتّقاءُ العين، جلبُ الحظّ، علامة خاصّة بمنطقة أو بعشيرة، أداةُ تصنيف طبقيّ بين الأغنياء والفقراء، الحِفاظ على تقاليدِ العائلات..
وبعد أن استعمل الإنسان الأصداف والأحجار في المراحل الأولى من اكتشافه لفكرة الحلي، في العصر الحجري القديم، أضاف إلى مواد الحلي خلال تطور نظام حياته، العظام والأسنان، وقشرةَ بيض النعام والعاج. ثم وصل إلى المعادن (نحاس وحديد وفضة وذهب...)، ثم اكتشف المرجان وعجين الزّجاج لاحقاً، مع تطور تقنيات صناعة الحلي التي اعتمد فيها بالتدريج على تقنيات التسليك والقولبة، والتلحيم، والنقش، والتحبيب.
في المغرب، عرفت الصّياغة تقنياتِ "السّبك" بإذابة الفضة مع الزّرنيخ؛ ثم تقنية "النيلة" التي يُضاف فيها إلى الفضة اللونُ الأسود المستخلص من مواد نباتية، فيتمازج الأسود مع لمعان الفضة؛ ثم تقنية "الطلاء" التي تعتمد على مزج ألوان مختلفة مستخلصة من اللؤلؤ، تُصاغ في أشكال نباتية أو هندسيّة؛ ثم تقنية "التسليك" التي تعتمد أساساً على صِياغة خيوط أو فتلها، مع حُبيبات صغيرة يتمّ لحمها؛ ثم تقنية "الحفر" بأنواعها، و"النقش" بأدواته؛ وأخيرا تقنية "التذهيب" التي تعتمد على تذويب الذهب مع الزرنيخ، لتذهيب معادن أخرى من بينها الفضة والبرونز.
حلي الفقراء وحلي الأغنياء
في التاريخ المتقدم، تَكوّن صَداق (المهر) للمرأة في المغرب من طقم من الفضة، وكلّما كان العريس وأهله على يُسر من أمرهم، كُبر حجم مجموعة الحلي وعدد قِطعها. يكتفي البسطاء بعقد خفيف مع حلق وخْلالتَيْن صغيرتين، (نوع من البروش الفضي الذي قد يأخذ أشكالاً عديدة حسب المنطقة والقبيلة)، ومْضَمَّة وهي حزام من الفضة عبارة عن دوائر متجاورة وعليها نقوش دقيقة، ووسط كل دائرة في الحزام حجرٌ أخضر. أما عند العائلات الأغنى، فعدد الحليّ أكبر، العقد له أحجام أكبر، وحواليه عقود أخرى، بعضها يضم أحجاراً ضخمة، والأسورة تتضاعف، والخْلالات تتعدد لتُعبّر عن الوجاهة والرفعة، والمضمَّة تتحول إلى حجم قد يبلغ عشر سنتمترات، فيما تكتفي نساء الطبقة الأفقر بأحزمة بسيطة بثلاثة أو أربعة سنتمترات.
موسم الزواج الجماعي بالمغرب
06-07-2016
يأتي التّاج في درجة عليا من المكانة التي لا تحصل عليها غالباً سوى نساء العائلة الملكية التي تبرّعت بجزء من محتويات المعرض، وهي أثمن ما فيه. وتستعمل العرائس التاج بشكل أساسي في حفلة أعراسهنّ، ثم في أعراس القريبات منهنّ.
الفضة التي فوق كل معدن
قررتْ أمي الأمازيغية بمجرد انتقالنا من منطقة الريف إلى طنجة "تشليلَ" مضمّتها الفضية، أي تصبغها بماء الذهب، فالموضة لم تعد ترحم التراث والعادات. لم تعد الفضة رائجة بعد الهجرة الكثيفة من البلدات والقرى إلى المدن الكبرى التي فضّلت دوماً الذّهب على الفضة، لكنّ نسبة المدن في الدول كانت ضئيلة، لذا لا نجد الذهب حاضراً بشكل لافت في الحلي القديمة. رغم أنّ الأمازيغ كانوا يتاجرون في الذهب، لكنهم ظلوا يفضلون التزين بالحلي الفضية، والأكل في الأواني المصنوعة من هذا المعدن.
بدأ الإنسان صناعة الحلي في العصر الحجري القديم والوسيط، منذ 150 ألف سنة، من أصل حوالي 300 ألف سنة من وجوده على الأرض. وعثر على الحلي الأقدم في التاريخ في مغارة "بيزمون" من جبل "إيغود"، بالقرب من "الصويرة" على المحيط الأطلسي.
استحوذت الفضّة على صِناعة الحليّ في تاريخ المغرب والمنطقة، ليس لغلاء الذّهب ونُدرته، بل لأنّ قيمة الفضّة كانت تتفوق بدّلالاتها الرّمزية على عامل التكلفة المالية: رمزُ النّقاء والصّفاء والوضوح، على عكسِ الذّهب الشّاحب والمصفرّ صُفرة رمال الصّحراء، وغُبارها والحقول الجافّة.
يظهر هذا الحب للفضة في الشعر والحكم والأمثال الشعبية، ومن الأمثال التي يتداولها المغاربة عن الفضة، المثل الشعبي القائل "الله يْعطيك شِي نُقرة فين يَغْبر نْحاسَك" (أدعو الله أن يرزقك فضة يختفي معها نُحاسُك)، حيث اعتُبرت الفضة دلالة على أقصى درجات النّعمة التي تُسبَغ على المرء.
من التزيين إلى التمائم والتعويذات والقوى الخارقة
تحمل الحليّ بعض التمائم السّحرية من الرموز السامية القديمة، كالهلال والنجمة والمثلّثين المنقلبين، ورمز لربة النسل والخصوبة ("تانيث") التي عبدها أيضاً الفينيقيون والرومان والإغريق. ورمز "تانيث" هو مثلّث تعلوه دائرة، ويفصل بين هذين الشّكلين الهندسيين خط أفقي، تعبيراً عن شكل امرأة، هي "تانيث". وهناك رمز الإلهة "إيزيس" أيضاً، والتي يُرمز لها بصليب له رأس دائري. وهذا النموذج موجود في مشابك منطقة سوس جنوب البلاد، وعند أمازيغ الطوارق في المناطق الصحراوية المجاورة، وبشكل أساسي في ليبيا. لهذه الحلية شكلٌ آخر في الريف (شرق المغرب بالقرب من الحدود مع الجزائر) كأنّها رأس كبش بقرنين، وتجمع أيضاً الصليب والهلال والنجمة، بالإضافة إلى رمز ثمرة اللوز، التي تعد من الأشجار المثمرة والمعمّرة بمنطقة جبال الريف.
"لالة زينة وزادها نور الحمام"
05-05-2021
نجد كذلك رمز اليد أو الخميسة في مناطق الريف أيضاً بشكل أساسي، وقد تكوّن من الذهب استثنائياً. والخميسة نوع من الحِلية الذّهبية تتوسطها أحجار كريمة، ويمكن أن تستعمل وسط العقد أو الأسورة، أو فيما يُسمّى "خيط الريح"، الذي تلبسه العروس على جبينها ليقاوم العين الشريرة والحسد. كما يقول المثل "خمسة وخميس" في وجه كل من استعجَب أو أُعجب بشيء.
أما القلادة التي يُطلق عليها "سلحفاة"، فهي عبارة عن قلادة طويلة محاطة بنقود فضية على الجهتين، تتوسّطها حلية على شكل سلحفاة، وهي متطابقة مع القلائد الفرعونية من حيث موضع لبسها وتصميمها. قد تعلوها مشابك قريبة من منطقة الكتف، تسمى "ثسغناس" التي كانت ترمز إلى الأنوثة. كما كانت النساء يصفّفن شعورهنّ بكل ما يمكن أن تتحلى به من مجوهرات وحلي فضية، وكان يسمى هذا النوع من التصفيف "أخريب" هو اسم نادر لهذا النوع من تزيين الشعر بالحلي والدمالج.
أما في أذنيها فقد تبين أن المرأة الأمازيغية الرّيفية كانت تضع حلقاً كبيرة الحجم، تأخذ شكلاً دائرياً، وتحمل في أسفلها نقوداً فضّية تتوسّطها حبّات من العقيق الحر، وكانت لثقلها تخرب شكل آذانهنّ حتى تكاد تخرمها. أما في يديها، فقد كانت تضع ما يسمّى بـ "دمالج" أي أساور، على شكل مستدير ومسنن. وترتدي في أصابعها خواتم فضية، وتضع في حالات خاصة، خلخالاً في قدميها يتخذ أشكالاً مختلفة.
تحمل الحليّ بعض التمائم السّحرية من الرموز السامية القديمة، كالهلال والنجمة والمثلّثين المنقلبين، ورمز لربة النسل والخصوبة ("تانيث") التي عبدها أيضاً الفينيقيون والرومان والإغريق. ونجد كذلك رمز اليد أو الخميسة في مناطق الريف أيضاً بشكل أساسي، وقد تكوّن من الذهب استثنائياً.
في المتحف، بعد المرور بقاعة الحلي البدائية، نجد الحلي المفردة ومعظمها بروشات أو "خْلَالَاتَ". ومعظمها يحمل الرموز الفينيقية والرومانية التي استعملها الأمازيغ في حليهم وتفننوا فيها. نصل بعدها إلى الطقوم التي تبهر الزائر بجمالها ودقة صنعها، وتنوعها واختلافها بين منطقة وأخرى. بعضها يحمل أحجاراً كبيرة، وبعضها يحمل آثاراً رومانية أوما يشبه الشكل الفرعوني، وأخرى حصرية بمنطقةٍ ما في المغرب، لا يوجد ما يشبهها حتى ولو في المناطق الملاصقة لها.
وبلا شك، فجلّ هذه الحلي كانت تُلبس مع القفطان، الذي كان يُصنع من أنواع مختلفة من الأثواب، وأغلاها أطلق عليه "لْخْريبْ" لأنه يخرب الجيوب لغلائه حسب بعض الروايات. كان القفطان خاصّاً بالمناطق المدينية، وفيه أنماط مختلفة حسب أربع مناطق رئيسية: مراكش، الرباط، تطوان ووجدة. بينما كانت القرويات ترتدين الحايك وهو لحاف من الصوف، يغطي جسد المرأة ما عدا الوجه واليدين، ويتم تثبيته بحزام فضي على الخصر، و"خْلالة" على جانب الصدر. يضاف له في المناطق الباردة، كالرّيف والأطلس ملحف آخر له تصميم خاص بكل منطقة. بشكل عام تختلف الإكسسوارات وجودة الثوب مع اختلاف المكانة الاجتماعية لكل أسرة.
عمل نسائي ميداني: قوافل "يطو" في المغرب
03-07-2022
لعل أصعب لحظة في زيارة متحف الحلي، هي لحظة الاضطرار إلى الخروج منه بعد رؤية هذه التحف، التي تثبت أن الفن في المنطقة - رغم ندرة منحوتات تجسد الآلهة أو الملوك، وعدم شيوع رسم اللوحات، كما في أوروبا وآسيا - كان حاضراً بقوة في الحلي والملابس، وفي الأشياء العملية التي كانت تُستعمل في الحياة اليومية، بشكل مُبهر قد لا يوجد مثيل له في أي منطقة أخرى من العالم، من حيث الغنى والتنوع والجمال.
1 - والذهب يستدعي التشاؤم وحتى النحس وفق طقوس الصحراء، كما روى إبراهيم الكوني في "المجوس" الرواية الصادرة في جزئين عن الدارالجماهيرية للنشر والتوزيع، ليبيا 1990و1991 وهي مترجمة الى العديد من اللغات وحائزة على جوائز عالمية.