"عزيزة" شخصية محوريّة في رواية "الحرام" الصادرة عام 1959 للكاتب يوسف إدريس، وهي إحدى عاملات التراحيل الزراعية في قرية فقيرة من قرى الدلتا، حيث تصوّر الرواية حياتهنّ كفئة مقهورة في المجتمع الريفيّ المصريّ. وقد جسدت السينما المصرية (1) شخصية المرأة المغلوبة على أمرها، التي اضطرها الفقر الشديد إلى الخروج بحثاً عن لقمة العيش، والحصول على أجرة يومية بسيطة علاوة على المرور بسلسلة من الاستغلالات، وصولاً إلى تعرضها للاغتصاب. لا تزال حكايتها عالقة في الأذهان إلى اليوم بعد أن ازدادت تحديات الكفاح اليوميّ للعاملات الزراعيّات.
في افتقاد "فؤادة"
12-12-2017
يعتمد القطاع الزراعيّ في مصر بشكل كبير على النساء العاملات، وتشكل نسبتهنّ في العام 2020 نحو 58 في المئة من إجمالي العمالة الزراعية، بحسب "منظمة العمل الدولية". كما أن 99 في المئة من هذه العمالة مدفوعة الأجر تعمل بلا عقود عمل، ودون تأمينات صحية أو اجتماعية، وهي جزء من جيش "الاقتصاد الموازي" غير الرسمي. تستحوذ النساء على النسبة الأكبر -79.5 في المئة - من العمالة غير مدفوعة الأجر في الريف وفقاً لـ "الجهاز المركزيّ للتعبئة العامة والإحصاء". وبحسب العرف السائد، تعمل المزارعات بلا أجر في فلاحة أرض الأب أو الزوج، بدلاً من الاستعانة بعمالة زراعية تتقاضى أجراً نظير العمل، وإلى جانب ذلك يقمن بتربية الطيور والماشية وتصنيع منتجات الألبان منزلياً تمهيداً لبيعها في الأسواق... علاوة على تحملهنّ لأعباء العمل المنزلي.
وعلى الرغم من كونهنّ يشكلن النسبة الأكبر من هذا القطاع، إلا أنهنّ منسيّات.
لقمة عيش "مغمّسة بالذل"
يتجه المالك الزراعي إلى استغلال اليد العاملة النسائية مستفيداً من الفجوة في الأجور بين الرجال والنساء. ويتم الاعتماد بشكل أكبر على النساء في أعمال حصاد المحاصيل الزراعية وتعبئة الخضروات والفاكهة حيث تُدفع لهنّ نصف الرواتب المخصصة للرجال، وليس أمامهنّ سوى الاستمرار في العمل. ولأنهنّ من الريف الغارق في جحيمه، يدركن جيداً أن الحياة تسحق من يقف لالتقاط أنفاسه في انتظار بديل أفضل، فمنهنّ من حمّلتها الظروف مسؤولية أسرة بأكملها على عاتقها، ومنهنّ من تساعد أهلها بما تتحصل عليه من أجر زهيد.
أما بالنسبة إلى أرباب العمل والسماسرة، فلسنَ سوى "أنفار" يتم جلبهنّ متكدسات في شاحنات متهالكة عن طريق المقاول بطلب من المالك، دون أي التزام بتوفير الحماية لهنّ خلال عملهنّ الموسميّ.
تتعرض كثير من العاملات لضربات الشمس وتأثيرات المبيدات الكيميائية وسط ظروف تنعدم فيها الحماية الصحية، بينما يمتد العمل لساعات طويلة وهنّ في وضعية الانحناء القاصمة للظهر ولو توقفن للاستراحة قليلاً فإنهنّ يتعرضن للتوبيخ والخصم من قبل المشرف.
وتكشف تقارير عديدة عن إسناد مهمة رش المحاصيل بالمبيدات الضارة للمرأة العاملة في قطاع الزراعة: مبيد "الفوسفين" الذي يستخدم لمقاومة دودة القطن مثلاً، مما يؤدي إلى الإصابة بالدوار وصعوبة في التنفس كما أنه قد يؤثر على الصحة الإنجابية للعاملات.
يستثني قانون العمل المصري الموحد رقم 12 لسنة 2003 النساء العاملات في الزراعة البحتة من فصله المتعلق بتشغيل النساء، وبالتالي لا يعترف بهنّ ضمن نطاقه. دوافع المُشرّع في استثناء الزراعيات من أحكام القانون، استندت إلى اعتبار طبيعة عمل المرأة في الريف أنها على سبيل المساعدة التي تقدمها في الأعمال المنزلية، أي أنها فقط تساعد الرجل في الزراعة.
تحصد عربات النقل المكتظة بالمكافحات أرواحهنّ باستمرار على مرأى ومسمع الجميع، في تطبيع مع هذا النزيف المتواصل، إذ تتوالى حوادث الطرق الوعرة خلال رحلات قد لا تصل بهنّ في نهاية المطاف إلى الحقول أو المزارع، بل إلى القبور. حادثةٌ وقعت في حزيران/يونيو 2022 - وهي ليست الأولى من نوعها - حيث انقلبت في ترعة النوبارية في محافظة البحيرة، سيارة على متنها 15 عاملة تراحيل لم تكن أعمار أكبرهنّ سناً تتجاوز الـ 20عاماً، فتوفيت فتاتان وأصيبت سائر العاملات.
تحت مقصلة العنف
غالباً ما تتعرض النساء والفتيات العاملات بالزراعة إلى الاعتداءات الجنسية، فالكثير من مناطق العمل الزراعيّ، هي معاقل لممارسة شتى أنواع العنف، بداية من التوبيخ بألفاظ جنسية والتحرش، وحتى التعرض للاغتصاب. في حين أن بعض الأسر قد تحكم على بناتهنّ المتعرضات للاغتصاب بالموت خصوصاً في مناطق الصعيد لأن تلك الأسر ترى في ذلك "عاراً" عليها. تجد تلك النساء أنفسهنّ أمام ثنائيّة من الانتهاكات تعكسها القصة التي ترويها "هناء عبد الحكيم" رئيسة نقابة صغار الفلاحين بالمنيا لفتاة تبلغ من العمر 15 عاماً ذهبت مع والدتها للعمل في أحد الحقول بقرية تابعة لمركز "سمالوط" حيث تعرضت الفتاة للاغتصاب على يد عامل تراحيل، وعند علم أهلها انقضوا عليها بالسكاكين وذبحوها في قلب القرية بدعوى "غسل العار".
القانون.. إله الذكورة وقاتل أحلام النساء في مصر
15-01-2022
مصريات يصرخن: حياة مهددة خلف جدران الزوجية
11-11-2021
وبشكل عام، ترتفع معدلات العنف القائم على النوع الاجتماعي في مصر. وتستمر عمليات ختان الإناث على نطاق واسع في الريف المصريّ على الرغم من محاولات القضاء عليه، فضلاً عن استمرار ظاهرة الزواج المبكر. وفق دراسة عن العنف الزوجي ضد المرأة (2) صادرة عن "جهاز التعبئة والإحصاء" فإن 91.8 في المئة من النساء اللاتي تعرضن لعمليات الختان، هنّ أكثر المتعرضات للعنف الزوجي. وسجلت محافظات وجه قبلي نسبة عنف قدرها 32.2 في المئة بالمناطق الريفية مقابل 11.9 في المئة بالمناطق الحضرية، أما بالنسبة لمحافظات وجه بحري، فقد سجلت نسبة عنف نحو 23.9 في المئة بالمناطق الريفية مقابل 11.5 في المئة بالمناطق الحضرية.
تمييز تشريعيّ
من الملفت أن قانون العمل الموحد رقم 12 لسنة 2003 يستثني النساء العاملات في الزراعة البحتة من فصله المتعلق بتشغيل النساء، وبالتالي لا يعترف بهنّ ضمن نطاقه. تنص المادة رقم 97 من القانون على التالي: "يستثنى من تطبيق أحكام هذا الفصل العاملات في الزراعة البحتة"، ومن ثم حرمانهنّ من أيّ حقوق، وهو تمييز صارخ ضدهنّ.
غالباً ما تتعرض النساء والفتيات العاملات بالزراعة إلى الاعتداءات الجنسية، فالكثير من مناطق العمل الزراعيّ، هي معاقل لممارسة شتى أنواع العنف، بداية من التوبيخ بألفاظ جنسية والتحرش، وحتى التعرض للاغتصاب. في حين أن بعض الأسر قد تحكم على بناتهنّ المتعرضات للاغتصاب بالموت خصوصاً في مناطق الصعيد لأن تلك الأسر ترى في ذلك "عاراً" عليها
عمل المزارعات في أطر غير قانونية خارج حماية الدولة، يعرضهنّ إلى احتمالات الطرد من العمل دون أسباب، أو الحرمان من الراتب تحت أي ذريعة من الممكن أن يختلقها صاحب العمل. دوافع المُشرّع في استثناء الزراعيات من أحكام القانون، استندت إلى اعتبار طبيعة عمل المرأة في الريف أنها على سبيل المساعدة التي تقدمها في الأعمال المنزلية، أي أنها فقط تساعد الرجل في الزراعة.
قانون التنظيمات النقابية رقم 213 لسنة 2017 يتيح للعمالة الزراعية الحق في تأسيس نقابة، ومع ذلك واجهت السيدة "هناء" العديد من المعوقات أثناء رحلتها لتأسيس نقابة صغار الفلاحين في المنيا (3)، وتقول "عندما توجهتُ إلى مسؤول القوى العاملة، رفض استلام الأوراق الخاصة بالتأسيس، وحاول تعجيزي على الرغم من اكتمال العدد المطلوب وهو 60 عضواً. وانزعج عمدة القرية من الفكرة، حتى أنّه أطلق حملة تشويه وتحريض ضد المشاركات في تأسيس النقابة"، وأرجعت الفضل في إتمام التأسيس إلى إصرار العضوات ووقوفهنّ خلفها لتأسيس أول نقابة لصغار الفلاحين تنطلق من صعيد مصر.
على الخطوط الأمامية للتغيرات المناخية
بالتزامن مع الحديث عن تبعات التطرف المناخيّ، فإنّ العاملات بالزراعة هنّ الأكثر تضرراً من التأثيرات السلبية الناجمة عن هذه التقلبات، والتي قد تؤدي إلى مزيد من البؤس والامراض المهنيّة، للعمالة الزراعية. تقديرات برنامج الأمم المتحدة للبيئة أوضحت أن 80 في المئة من المتأثرين بتغير المناخ هم من النساء، مما يجعلهنّ أكثر عرضة للعنف، ويعود ذلك إلى أنهنّ يشكلن غالبية الفقراء حول العالم.
ويتوقع "المعهد الدولي لبحوث السياسات الغذائية" انخفاض غلة المحاصيل الزراعية في مصر بأكثر من 10 في المئة مع حلول عام 2050 بسبب ارتفاع الحرارة وزيادة الملوحة في مياه الري، خصوصاً في منطقة الدلتا التي تضم أكثر من ثلث الأراضي الزراعيّة في مصر.
1 - فيلم "الحرام" من بطولة فاتن حمامة وعبد الله غيث، مقتبس من رواية "الحرام" ليوسف ادريس. والفيلم من إنتاج سنة 1965، كتب السيناريو والحوار سعد الدين وهبة وأخرجه هنري بركات.
2 - https://marsad.ecss.com.eg/67624/
3 - فيديو رئيسة نقابة صغار الفلاحين، رابط: سلسلة أفلام مسجلة "لواحدة مننا" يقدمها المؤتمر الدائم للمرأة العاملة بالتعاون مع دار الخدمات النقابية والعمالية انطلاقا من تاريخ النساء الحافل بالكفاح... دار الخدمات النقابية و العمالية على Facebook