السيارة سيدة الحداثة

هنا معرض السيارات بكورنيش الدار البيضاء. يهب نسيم البحر فيُشبع المخَّ أوكسيجيناً. خيام كبيرة مضاءة جيداً جداً. أرضية وثيرة ملونة على خشب يصدر صريرا يشعر الفرد بوقعه. شابات وسيارات وتكييف وموسيقى. مرايا عملاقة تضاعف مساحة المكان وعدد السيارات والزوار.
2016-06-09

محمد بنعزيز

كاتب وسينمائي من المغرب


شارك
من معرض "Cars and Tea" - المغرب

هنا معرض السيارات بكورنيش الدار البيضاء. يهب نسيم البحر فيُشبع المخَّ أوكسيجيناً. خيام كبيرة مضاءة جيداً جداً. أرضية وثيرة ملونة على خشب يصدر صريرا يشعر الفرد بوقعه. شابات وسيارات وتكييف وموسيقى. مرايا عملاقة تضاعف مساحة المكان وعدد السيارات والزوار.
يكلف الدخول لمعرض السيارات ثلاثة دولارات بينما يكلف الدخول لمعرض الكتاب دولارا واحدا. ينعكس الثمن على الفضاء والحضور. معرض الكتاب بلا تكييف. ونصف الكتب المعروضة صدرت منذ ألف عام. نصف المعرض للسلَف الصالح.
في معرض السيارات كل شيء جديد، ولا مكان للسلف الصالح. هنا الهيمنة لعظمة الغرب وحداثته. السيارة هي سيدة الحداثة الغربية. هنا ماركات ألمانية وإنكليزية وفرنسية وأميركية وسويدية ويابانية. اليابان غرب رغم أنها تقع في الشرق. الغرب فكرة لا مكان.
يطل السوسيولوجي البصاص داخل السيارات فلا يرى إلا وجهه منعكسا على الزجاج. ما يوجد بالداخل غامض. حول السيارات حور عين يحملن على صدورهن وظهورهن رمز السيارة. أمام كل سيارة فخمة شابة في العشرين رشيقة تلبس تنورة قصيرة بيضاء. هكذا يفترض البائع الكبير أن ينتبه الزبون لسلعته. كان مدير العلاقات العامة الذي اختار الشابات محترفا. لكن عيون الزوار كانت مهووسة بالسيارات.
ثمن السيارات الفخمة يزيد عن مئة ألف دولار. يبدو أنّ المتاجرة مع الفقراء غير مربحة، لذا فهناك غلبة للسيارات الفاخرة الموجهة للـ "متفوقين" اقتصاديا واجتماعيا. وهم يتنافسون لإظهار القدرة الشرائية. شراء للتباهي لا لقضاء الأغراض. فهم يسكنون في المدن ويعملون بها ويشترون سيارات رباعية الدفع لها محركات شاحنات. لماذا؟
إنّه هوس استهلاك هدفه تحدي الأنداد وسحقهم. في هذا التنافس، كل علامات المجتمع الاستهلاكي الراضي على نفسه حتى السمنة والبلاهة. لذلك يشعر السوسيولوجي البصاص بأنه مندس في فضاء لا يملك حتى هاتف زبائنه.
للسوسيولوجي البصاص، ابن الفلاح الصغير، وعي حاد بشروطه في مدينة عملاقة. لذلك يرى بسهولة ثمار الاصطفاء الاقتصادي. يرى كم تحفز ماركات السيارات الفاخرة الحقد الطبقي. هنا حلبة صراع رمزية فادحة.
التعبير البدائي عن الحقد هو خدش صباغ السيارات الفاخرة بقطعة معدنية. وحين يأتي صاحب السيارة يشعر كأن الخدش في وجهه وقلبه. خدش الصباغ أصعب من خدش الحياء. أفضل تعبير عن المحبة الحاقدة لمن اشترى سيارة تشبيهه بمن تزوج ثانية. وليس هذا هو التشبيه الوحيد، التشبيه الخبيث هو "من طلب مني سيارتي كأنه طلب زوجتي".
لاستغلال هذه المحبة، استغلت الحكومة تزايد مبيع السيارات الفاخرة في 2014 فزادت في ضريبة القيمة المضافة 5 في المئة للسيارات التي يزيد ثمنها عن أربعين ألف دولار و20 في المئة لتلك التي يزيد ثمنها عن مئة ألف دولار. ولم تتراجع المبيعات.
ارتفعت مبيعات السيارات الجديدة في المغرب بنسبة 8 في المئة في 2015 وبلغت رقما غير مسبوق هو 13.0316 سيارة جديدة. ارتفع عدد سيارات نقل الأشخاص بالمغرب من مليون ونصف سنة 2006 إلى مليونين ونصف في 2015، يتجمع نصفها في مدينتي الرباط والدار البيضاء، على خط شاطئي يمتد على مئة كلم، تمثل 4 في المئة من امتداد شواطئ المغرب، وهي 3500 كلم.
كيف تتراجع المبيعات والمغريات لا محدودة؟
في الصور الإعلانية التي توزع على الزوار بسخاء، تصف الشركات سياراتها: تحفة في الذكاء، هي الأفضل أو لا شيء. كل الخيارات رهن إشارتك. الأفضل قادم إليك. علبة أوتوماتيكية. وسائل رفاهية وأمان لا مثيل له، تصميم متميز، نأخذ سيارتك مهما كان نوعها، شركات التسليف من دون فوائد وهذا الحلال مطلوب في أجواء رمضان، إضافات تقنية صغيرة لكن متميزة، سرعة حتى 260 كلم.. ثمن مناسب (لمن؟).
يحتاج هوس إشباع "البريستيج" مالا لُبْدا. يخلق العجز عن الشراء وعياً حاداً. من لا يملك المال يحلم. يُكثر العاجزون من التقاط صور مع السيارات الفخمة ليأخذوا معهم قطعة من الحلم.
بفضل الإغراء، يجرب الفرد ما لن يكون له أبداً. يركب زوار المعرض السيارات ومعهم أطفالهم. بعد قليل ينزل الكبار ويرفض الأطفال النزول.. للإشارة قبيل الدخول عثرت على شوكولاتة فاخرة في طريقي للمعرض وفسرت ذلك كفأل بأني سأشتري سيارة فاخرة. من يسخر من هذا الفأل يزعم أنه لن يصاب بالدوار في مقعد سيارة ألمانية فخمة.
جلستُ في صالون سيارة فخمة وشرعت أفحص ذاكرتي الانفعالية وأحرر ملاحظاتي بعين السوسيولوجي البصاص. هنا يصعب فصل الذات عن الموضوع.
حول العرش الذي جلست فيه أزرار الرفاهية. لإغلاق الباب هسيس مغر. رائحة الجلد. باب مكسو بالجلد من الداخل. مقاعد جلدية سوداء وبنية. مقود مدبج بالأزرار التي تمنح السائق شعورا بأنه يتحكم. تكييف يعطل أثر تقلبات الطقس. هذه رفاهية تطيل العمر.
بهجة كثيفة في المقعد. لا مكان للملل. هنا تتجلى عظمة الحداثة الغربية. عظمة امتطاء الإنسان لآلة تخدمه. عظمة مزج التقنية واللعب والفائدة والبهاء..
السيارة سيدة الحداثة، لذا تُمنع على النساء في المجتمعات التقليدية. توفر السيارة العزلة الفردانية، قهر المكان والزمان، الرفاهية والأمان، خاصة في المدن حيث الجريمة والمخاطر. السيارة مكان لخلوة عاطفية تفلت من الرقابة الاجتماعية. لهذا لا يرتاح السلف الصالح اليوم للسيارة. إنها أكثر من آلة ووسيلة نقل حين تكون المرأة خلف المقود. تصير السيارة مرادفا للحرية، فالمرأة ستذهب إلى مكان لن يراقبها فيه الرجل. حتى حين تكون المرأة موظفة تسكن الأسرة قرب عملها وليس قرب عمل الزوج.
الحداثة واقع تقني ـ اقتصادي يتجلى في السيارة. والحداثة حالة ذهنية أيضا. حالة بحث دائم عن الجديد. الموضة تقلد العلم في التقدم. صار هذا أيديولوجيا باردة. ما هي أيديولوجيا العصور الحديثة؟ يجيب هابرماس: إنها الأيديولوجيا العلمية التكنولوجية. وتقدم السيارات والهواتف الجديدة خير مثال لهذا التحول الذي يجرف مجتمعات تقليدية. مجتمعات تقاوم. يقول محمد سبيلا: "للتقليد صلابته وأساليبه في المقاومة والصمود أمام الانتشار الكاسح للحداثة، وله طرائقه في التكيف معها ومحاولة احتوائها". من ذلك أن كثيرين يشترون سيارة ألمانية ويعلقون فيها تميمة خماسية أو حدوة حصان للحماية من عين الحسد (المرادف السيكولوجي للحقد الطبقي). وهناك من سيكتب في زجاج سيارته "لا تنس ذكر الله"، ولن يخطر بباله أن يكتب "لا تنس تطبيق قانون السير".
ومن تلك الطرائق حق الشرطة أن تقصد سيارة متوقفة بجانب الطريق لتطلب من الرجل والمرأة اللذين يختليان فيها عقد زواج.. والويل لمن ضبط في خلوة محرّمة. وهكذا يتضح أن وظائف السيارة تقلق لأنها فضاء عصري جدا. وهي مكان سينمائي بامتياز، فمخرجون كثر صوروا أفلاما كاملة في سيارات مكشوفة..
يشعر السوسيولوجي البصاص بالدوار فوق العرش وخلف مقود السيارة الألمانية الفخمة.. يخرج من المعرض ويتأمل الإسفلت. واضح أن تلك السيارة تستحق أن تسير في شوارع مستوية لا توجد بالدار البيضاء إلا في أحياء الفيلات مثل حي كاليفورنيا وكورنيش عين الذئاب. أما شوارع أحياء الفقراء المحفّرة فتتجنبها السيارات الفخمة.. تعكس الفروق بين شوارع الدار البيضاء نظرة السلطة للناس ولسياراتهم.

مقالات من الدار البيضاء

أنا وليالي الضّوء في الغابات

لم أتوقف عن الرسم، لأنني تعلّمتُ نقش الحناء بسرعة بعدها، لوجود جمهور متحمس، مع إمكانية الاختراع، وانجذاباً إلى رائحة الحناء، وتدرجات اللون البني على الأصابع والراحات والأكفّ. كنتُ أخترع بنفسي...

للكاتب نفسه