يوم الغدر بجمهور "الأولتراس"

لم يعد غريباً أن نرى مدرّجات كرة القدم في مصر خالية من روابط تشجيع الأندية التي ترفع شعار "الكرة للجماهير"، إذ يتم السماح لعدد قليل بالحضور بمعرفة الأمن. وتتحكم في الدخول إلى المدرجات شركة "تذكرتي"، التي تفرض تسجيل البيانات الشخصية حسب بطاقة الرقم القومي على موقعها الإلكتروني.
2023-02-08

إسلام ضيف

كاتب صحافي


شارك
مجزرة استاد بورسعيد

في صباح الأول من شباط/ فبراير 2012، كانت محطة مصر للسكة الحديد بالقاهرة تهتز بالهتافات الحماسية للجماهير المحتشدة في انتظار القطار المتجه إلى بورسعيد حيث تقام المباراة المرتقبة في بطولة الدوري المصري لكرة القدم بين فريقي النادي الأهلي و"النادي المصري" البورسعيدي.

عندما أعلن المذياع الداخلي للمحطة عن وصول القطار، تدافعت الحشود نحو العربات لتنطلق الرحلة مرددين هتافات "اديله عمري وبرضه قليل" في عشق النادي الأحمر و"يوم ما أبطل أشجع هكون ميت أكيد"، ولم يتخيلوا بأن تتحقق أناشيدهم وأن تختتم رحلتهم بمذبحة بشعة راح ضحيتها 72 مشجعاً عدا عن مئات المصابين من رابطة مشجعي النادي الأهلي "أولتراس أهلاوي" مباشرة عقب إطلاق الحَكم صافرة إنهاء المباراة.

شاب عشريني من مدينة المحلة، كنتُ قد التقيت به داخل غرفة الاحتجاز المخصصة للسجناء السياسيين بقسم شرطة قصر النيل، قطع المسافة إلى القاهرة بعد أن نصحه طبيبه بالقيام بأنشطة ترفيهية بغرض تخفيف الضغوط النفسية التي يواجهها نظراً لأنه يعاني من نوبات صرع متكررة. وخلال ذهابه لالتقاط صورة تذكارية أمام مقر النادي الأهلي، قامت قوات الأمن المتمركزة أمام النادي بالقبض عليه في يوم الذكرى التاسعة لأحداث ملعب بورسعيد، بعد أن فتشت هاتفه المحمول وعثرت على صورة لشهداء المذبحة تسببت في حبسه على ذمة قضية سياسية بتهمة الانضمام لجماعة إرهابية على الرغم من مواجهة الشاب لهم بالتقارير الطبية التي تثبت طبيعة مرضه.

تعكس واقعة الشاب وصول التعامل الأمني مع ذكرى الحادثة إلى حد الجنون. وفي الحقيقة لم تكن حالته فريدة، فقد امتلأت غرفة الاحتجاز يومها بعشرات الشباب المقبوض عليهم بطريقة عشوائية من مباحث قسم الشرطة المسؤول عن تأمين محيط النادي ومنطقة وسط القاهرة.

تهديدات وزارة الداخلية لأعضاء الرابطة والاقتحامات الأمنية لمنازلهم، كانت سبباً في إعلان المجموعة من قَبل عن عدم التواجد في أي مكان لإحياء الذكرى الخامسة في عام 2017. وقالت في بيان لها أنه تم القبض على عدد من أعضاء المجموعة وحبسهم بتهم ملفقة، كما أكدوا على أنه لا يمكن إغفال دور الداخلية الأبرز خلال ارتكاب المذبحة.

قضت محكمة الأمور المستعجلة بحظر نشاط روابط "الاولتراس" في أيار/ مايو 2015، واعتبارها منظمات إرهابية! رفع اللافتات الخاصة بهم أو ترديد هتافاتهم يُعد جريمة بموجب هذا الحكم الصادر.

لم يعد غريباً أن نرى مدرجات كرة القدم في مصر خالية من روابط تشجيع الأندية التي ترفع شعار "الكرة للجماهير"، لكن السلطات لها رأي آخر في هذه المسألة، إذ يتم السماح لعدد قليل بحضور المباريات بمعرفة الأمن، بينما تتحكم في دخول الجمهور إلى المدرجات من خلال شركة "تذكرتي"، والتي لا تسمح بالدخول إلا من خلال تسجيل البيانات الشخصية ببطاقة الرقم القومي على موقعها الإلكتروني.

وكانت محكمة الأمور المستعجلة قد قضت بحظر نشاط هذه الروابط في أيار/ مايو 2015، واعتبارها منظمات إرهابية! رفع اللافتات الخاصة بهم أو ترديد هتافاتهم يُعد جريمة بموجب هذا الحكم الصادر.

البداية

"Ultras" هي كلمة لاتينية وتعني الفائق عن الحد، وتعبّر عن مجموعات شديدة الولاء للفرق الرياضية، وأفرادها يختلفون عن المشجع التقليدي. على غرار مجموعات "الأولتراس" المنتشرة حول العالم والموجودة في شمال أفريقيا، انتقلت الفكرة إلى مصر في عام 2007 عندما قامت مجموعة من مشجعي نادي الزمالك بتأسيس رابطة "أولتراس وايت نايتس"، وأخرى من مشجعي النادي الأهلي شكلت رابطة "أولتراس أهلاوي" في العام نفسه.

ظهرت مجموعة "أولتراس أهلاوي" لأول مرة في مباراة جمعت بين النادي الأهلي ونادي إنبي في استاد القاهرة حيث أثار رفع لافتة مكتوب عليها شعارهم الشهير "A.C.A.B"، ويعني "كل رجال الشرطة أوغاد" - وهو شعار تتبناه إجمالاً مجموعات "الأولتراس" في كل مكان في العالم – ضجة كبيرة. وقد حاولت قوات التأمين الموجودة منعهم من ترداد أناشيدهم. ومن هنا بدأت قصة العداء بين تلك الروابط ووزارة الداخلية.

منذ بداية ظهور هذه الفلسفة في ملاعب كرة القدم المصرية ومجموعات "الاولتراس" تُضطَهَد من قبل أفراد الشرطة، لذلك كانت تهتف مدرّجاتهم وترفع اللافتات ضد القمع الأمني. قابلت الشرطة أفراد الأولتراس بالقبض على قياداتهم المعروفة باسم "الكابو" قبل المباريات الهامة، ومصادرة متعلقاتهم قبل الدخول إلى أماكنهم في المدرجات، وكثيراً ما كانوا يتعرضون للتفتيش والإهانة من قبل أفراد الأمن.

نظرت لهم الأجهزة بعين الريبة، وفي القلب منها الإعلام الرياضي الذي حاول دوماً إطلاق حملات التحريض ضدهم واتهامهم بتشويه الروح الرياضية وإثارة الفتن بين جماهير الأندية. في المقابل، كانت مجموعات الأولتراس تتخذ موقفاً واضحاً ضد فساد الإعلاميين الرياضيين وفساد الاتحاد المصري لكرة القدم. كما عبّروا عن رفضهم لتحكم الشركات الرأسمالية في المسابقات المحلية، معتبرين ذلك انحرافاً عن جوهر اللعبة وقتلاً للروح الحقيقية لكرة القدم.

حضور في الثورة

من الملفت أن الرسائل التضامنية العابرة للحدود كانت حاضرة في المدرجات قبل اندلاع أحداث "ثورة يناير". تؤكد رابطة "أولتراس وايت نايتس" طوال الوقت على المبدأ القائل "الحدود تراب والنضال واحد"، لذلك لم يكن من الغريب مشاهدة الأعلام الفلسطينية ترفرف في المدرجات بجانب اللافتات الداعمة للمقاومة والشعارات المعادية للعدو الاسرائيلي.

احتفت مدرجات "التالتة شمال" (مكان تجمع أعضاء أولتراس أهلاوي) بالثورة التونسية، ورفعت العلم التونسي لأول مرة قبل اندلاع الثورة المصرية بثلاثة أيام فقط. وفي يوم جمعة الغضب خرج شباب الأولتراس ثائراً ضد نظام حسني مبارك، وكانوا في الصفوف الأولى في المواجهات مع قوات الشرطة ليسقط من صفوفهم الشهيد "أحمد كمال" عضو مجموعة "أولتراس أهلاوي" برصاص الداخلية ويصبح أول شهيد يسقط من روابط "الأولتراس" خلال أحداث الثورة.

"اديله عمري وبرضه قليل" و"يوم ما أبطل أشجع هكون ميت أكيد".. بعض هتافات مشجعي النادي الاهلي خلال رحلتهم الى بورسعيد لحضور مباراة لفريقهم في الاول من شباط/ فبراير 2012. وهم لم يتخيلوا بأن تتحقق أناشيدهم وأن تختتم رحلتهم بمذبحة بشعة راح ضحيتها 72 مشجعاً عدا عن مئات المصابين من رابطة "أولتراس أهلاوي" مباشرة عقب إطلاق الحَكم صافرة إنهاء المباراة.

كارثة أخرى شهدها استاد "الدفاع الجوي" وقتل فيها 20 مشجعاً خارج أسوار الاستاد يوم 8 شباط/ فبراير 2015. رجال الأمن أجبروا الجماهير على المرور داخل قفص حديدي ثم أطلقوا عليهم قنابل الغاز والأعيرة النارية، و العجيب أن النيابة العامة أحالت في هذه القضية أعضاء من الرابطة نفسها بتهمة قتل زملائهم. 

حضرت الروابط الجماهيرية في ميادين الثورة كقوة منظمة لا يستهان بها مدافعة عن ميدان التحرير في موقعة الجمل، ومشارِكة في الأحداث التي أعقبت تنحي مبارك وتولي المجلس العسكري إدارة البلاد. فكان كل الموجودين في الميادين يردد أناشيدهم التي يحفظها شباب الثورة والقوى السياسية.

سقط الشهيد الثاني للرابطة خلال مواجهات أحداث مجلس الوزراء برصاص الشرطة العسكرية في كانون الأول/ ديسمبر 2011 أثناء فترة حكم المجلس العسكري بقيادة المشير محمد حسين طنطاوي، وهو "محمد مصطفى كاريكا" الطالب بكلية الهندسة الذي أصيب بطلق ناري في ميدان التحرير.

الطريق إلى المذبحة

قبل أيام قليلة من وقوع المذبحة في استاد بورسعيد، وتحديداً في 28 كانون الثاني/يناير 2012، تحولت مدرجات ملعب استاد القاهرة إلى ساحة تزلزلها الهتافات المناهضة للحكم العسكري والمطالِبة بمحاكمة المشير طنطاوي رئيس المجلس العسكري الحاكم آنذاك. كان ذلك أثناء مباراة التقى فيها الأهلي مع فريق "المقاولون العرب"، وكانت المرة الأولى التي يتردد فيها هتاف "يسقط حكم العسكر" في ملاعب الكرة والهتاف ضد الشرطة العسكرية التي قتلت الثوار في الميادين ومن بينهم زميلهم في المجموعة "كاريكا".

من الملفت أن الرسائل التضامنية العابرة للحدود كانت حاضرة في المدرجات قبل اندلاع أحداث "ثورة يناير". تؤكد رابطة "أولتراس وايت نايتس" طوال الوقت على المبدأ القائل "الحدود تراب والنضال واحد"، لذلك لم يكن من الغريب مشاهدة الأعلام الفلسطينية ترفرف في المدرجات بجانب اللافتات الداعمة للمقاومة والشعارات المعادية للعدو الاسرائيلي.

- المشهد الأول:

في اليوم المشؤوم، توقف قطار الجماهير القادم من القاهرة فجأة قبل محطة بورسعيد بحوالي 30 كيلومتراً، وطلب الأمن من الجماهير النزول لركوب حافلات تتوجه بهم إلى استاد بورسعيد. منذ اللحظة الأولى لوصول الحافلات إلى محيط الاستاد، تفاجأ الجمهور بوابل من الحجارة والهجوم عليهم من جمهور فريق "النادي المصري" صاحب الأرض الذي توعدهم بالقتل دون أي تدخل من قوات الأمن.

- المشهد الثاني:

الاعتداء على لاعبي فريق الأهلي بالألعاب النارية أثناء إجراء عمليات الإحماء على أرضية الملعب، والغريب أن لا أحد تدخل سواء من أفراد الأمن أو من المسؤولين عن الاستاد. بدأت المباراة وسط أجواء من الهلع، وخلال سيرها تعددت حالات نزول الجماهير من المدرجات، واكتفى الأمن بالمشاهدة.

- المشهد الثالث:

فاز الفريق المصري في المباراة، وبمجرد إطلاق الحكم لصافرة النهاية، قامت إدارة الاستاد بإطفاء الأنوار. اقتحمت الجماهير المضيفة أرضية الملعب بكامل عددها متجهين نحو جماهير الأهلي في الجهة المقابلة وكان هناك اختفاء مريب لقوات الأمن المركزي. بدأت الأخبار تأتي من ملعب بورسعيد وتتحدث عن سقوط قتيل تلو الآخر، وقال بعض شهود العيان أن كل من كان يحاول الهروب إلى بوابات الخروج كان يجدها مغلقة بإحكام، مما تسبب في زيادة أعداد الضحايا.

- المشهد الرابع:

بعد تداول أنباء الحادثة امتلأت محطة مصر بأعداد غفيرة من أهالي وأصدقاء المشجعين في مشهدٍ مهيبٍ، جميعهم في انتظار القطار العائد من بورسعيد على أمل أن يجدوا ذويهم أحياء. عاد القطار إلى القاهرة في فجر الثاني من شباط/ فبراير 2012 محملاً بجثث الضحايا، وسيطر الهتاف بصوت واحد على المشهد "يا نجيب حقهم يا نموت زيهم".

حضرت الروابط الجماهيرية في ميادين الثورة كقوة منظمة لا يستهان بها مدافعة عن ميدان التحرير في موقعة الجمل، ومشارِكة في الأحداث التي أعقبت تنحي مبارك وتولي المجلس العسكري إدارة البلاد. فكان كل الموجودين في الميادين يردد أناشيدهم التي يحفظها شباب الثورة والقوى السياسية.

قوات الأمن لم تقم بإجراء عمليات التفتيش المعتادة عند مداخل الاستاد قبل المباراة، في حين أن جماهير النادي البورسعيدي كانت مسلحة بالسكاكين والهراوات. وتم العثور على جثث لعدد من مشجعي الأهلي مقتولين إما بطعنات أو بضربات في الرأس.

"أنس محي الدين" هو أصغر شهيد في المذبحة، لم يكن يتخطى حينها الخامسة عشرة من عمره وهو ما لم يشفع له عند قاتليه. وكلما جرى الحديث عن ذكرى مجزرة بورسعيد، يحضر وجه "أنس" الضاحك في الذاكرة.

صدرت في هذه القضية أحكام نهائية بالإعدام على 10 متهمين من جمهور النادي المصري، كما وُجِّهَ اتهام إلى عدد من أفراد الشرطة بالتقصير والحكم على قيادات أمنية بالسجن 5 سنوات فقط، من بينهم اللواء محسن شتا الرئيس التنفيذي السابق لـ "النادي المصري" الذي حصل لاحقاً على عفو رئاسي رقم 416 لسنة 2016. ليس الأمر مجرد واقعة شغب ناجمة عن تعصب كروي، وإنما هي جريمة مدبرة مكتمِلة الأركان للتخلص من جمهور "الأولتراس" في مصر، فبعد مرور ثلاثة أعوام فقط على أحداث بورسعيد، نفذت وزارة الداخلية مجزرة أخرى ولكن هذه المرة ضد جماهير نادي الزمالك "أولتراس وايت نايتس". كارثة جديدة شهدها استاد "الدفاع الجوي" وقتل فيها 20 مشجعاً خارج أسوار الاستاد يوم 8 شباط/ فبراير 2015. رجال الأمن أجبروا الجماهير على المرور داخل قفص حديدي ثم أطلقوا عليهم قنابل الغاز والأعيرة النارية، والعجيب أن النيابة العامة أحالت في هذه القضية أعضاء من الرابطة نفسها بتهمة قتل زملائهم. 

مقالات من مصر

للكاتب نفسه