"ربما سأكون أنا الضحية القادمة"

الصلاحيات والحماية التي تمتّع بها الأخ الذكر على حساب أخته الانثى، أدت في هذه الحالة بالتحديد إلى أن يقوم "كرّار"، ولد العائلة المدلل، بالتحرش بأخته الأكبر طيبة واغتصابها، مما دفعها إلى رفض العيش معه في بيت واحد وسفرها إلى تركيا لتعيش بعيداً عن مغتصبها وعائلتها. وهذه قررت تفضيله مرة أخرى وحمايته على الرغم من إجرامه... فقتلت طيبة!
2023-02-04

ديمة ياسين

كاتبة صحافية، من العراق


شارك
المغدورة طيبة العلي

قد تكون ملابسات قضية طيبة العلي قد صهرت معظم مشاكل المجتمع العراقي في التعاطي مع النساء ووضعتها في وعاء واحد.

 انتشرت قصة طيبة منذ أيام عندما أطلقت منشوراً عبر منصات نسوية، تتهم فيه أخوالها بملاحقتها وتهديدها بالقتل ومنعها من السفر والعودة إلى تركيا حيث كانت تقيم.

لم يأخذ الأمر سوى بضعة أيام قليلة لتُقتل طيبة بالفعل على يد والدها خنقاً في مدينة الديوانية جنوب العراق. سلّم بعدها الأب نفسه واعترف بقتل ابنته بحجة "غسل العار" المعتادة، فمن آمن العقاب لا يهمه الاعتراف بارتكابه للجريمة..

لكن ما فعلته طيبة، والتي كانت على ما يبدو تتوقع قتلها، كان فعل المقاومة الأكبر، وضعت فيه قاتليها في محاكمة علنية أمام الجميع. فقد أرسلت إلى صديقاتها تسجيلات صوتية لمحادثات دارت بينها وبين عائلتها تكشف أسباب وحقيقة ما حدث لها، على أن ينشرن هذه التسجيلات في حال قتلها. وهذا ما حدث فعلاً.

"أنتَ لستَ أباً لنا، أنتَ اباً لكرّار فقط" هذه الجملة التي رددتها طيبة في التسجيل الصوتي لمحادثة محتدة بينها وبين والدها، ربما اختصرت حياة ملايين النساء والفتيات في العراق كما في العالم العربي. "كرّار" هو الأخ الذي قدمت له أسرته كل الصلاحيات على طبق من فضة، بينما حرمت أخته منها. لا لشيء مميز فيه أبداً، هو فقط ولد بأعضاء ذكرية توجته ملكاً ومالكاً لكل شيء، في مجتمع عشائري ما زال يقدس الذكر لأنه حامل اسم العشيرة والأسرة.

إلا أن هذه الصلاحيات والحماية التي تمتّع بها هذا الأخ الذكر على حساب أخته الانثى، أدت في هذه الحالة بالتحديد إلى أن يقوم كرّار، ولد العائلة المدلل، بالتحرش بأخته الاكبر طيبة واغتصابها، مما أدى بها إلى رفض العيش معه في بيت واحد وسفرها إلى تركيا لتعيش بعيداً عن مغتصبها وعائلتها، التي قررت تفضيله مرة أخرى وحمايته على الرغم من إجرامه بحق أخته.

لم تنته مأساة طيبة عند هذا الحد، فهي برحيلها وعيشها بمفردها في بلد آخر، إضافة إلى "تجرئها" واختيارها لرجل بإرادتها ليكون شريكاً لحياتها، تكون قد ارتكبت جرم الخروج عن أعراف العشيرة، و"لوثت" بممارستها لإنسانيتها الطبيعية اسم العائلة الكريمة، المتسترة على المجرم.

ليس سراً أن نساء المنطقة، وخاصة العراق، ما زلن يعامَلن معاملة المملوكات لذكور العائلة والعشيرة وحتى "الوطن". كل الذكور لهم الحق في إبداء آرائهم في الاختيارات الشخصية لأي امرأة كانت، وإن كان هؤلاء الذكور غرباء عنها. أما إن كانوا أقرباء أو ذوي صلة، فقد يصل الأمر إلى تهديدها وإيذاءها جسدياً، بل وقتلها كما حدث مع طيبة وقبلها الكثيرات، وسيحدث لمن بعدهنّ، إنْ بقيت الحماية القانونية غائبة.

ما قامت به طيبة، والتي كانت على ما يبدو تتوقع قتلها، كان فعل المقاومة الأكبر، وضعت فيه قاتليها في محاكمة علنية أمام الجميع. فقد أرسلت إلى صديقاتها تسجيلات صوتية لمحادثات دارت بينها وبين عائلتها تكشف أسباب وحقيقة ما حدث لها، على أن ينشرن هذه التسجيلات في حال قتلها. وهذا ما حدث فعلاً.

آخر محاولة فشلت لتمرير قانون مناهضة العنف الأسري في البرلمان العراقي كانت في كانون الثاني/ يناير 2023. وبينما يبقى البرلمانيون ومعهم "اللجان" والمنظمات والأحزاب "يتداولون" صيغاً مختلفة له بين مؤيد ومعارض بحجة "خطر تفكيك الأسرة العراقية"، تقوم أسر عراقية بوأد بناتها بحجج كثيرة، أسهلها استخدام حجّة "الشرف". 

نحن نعيش في عصر تلعب فيه وسائل التواصل الاجتماعي دوراً كبيراً في معظم مجالات الحياة. طرْح الآراء وتبادل الحوار في صفحات التواصل الاجتماعي أصبح جزءاً كبيراً مؤثراً في حياتنا اليومية. المحزن في قضية طيبة العلي هو كثرة الآراء التي تخوض في اختياراتها الشخصية ووصفها بأنها "نزّلت راس العشيرة" لكون طيبة اختارت العيش بمفردها، وجاهرت بحبها لرجل اختارته هي بملء إرادتها. فيما يتجاهل هؤلاء الجرائم الحقيقية التي ارتكبت بحق طيبة، بداية من تحرش واغتصاب أخيها لها وتستر العائلة عليه، ونهاية بقتلهم لها لحمايته وحماية "اسم العشيرة" من المساءلة، بل وعلاوة على ذلك كرمز لإخضاع النساء بشكل مطلق، باعتبار هذا السيف المسلط على رقابهنّ.

أعادت جريمة قتل طيبة العلي وتداعياتها فتح جرح كبير لم يندمل يوماً بل ما زال يتقيح مع استمرار الجرائم المرتكَبة بحق النساء في العراق. هناك شعور متجدد بالغضب والحزن وافتقاد الأمان لدى النساء بشكل عام. "فالوطن" الذي التفتْ بعَلَمِه طيبة العلي في صورتها الأخيرة، خذلها كما خذلتها عائلتها وعشيرتها.

"ربما سأكون أنا الضحية القادمة"، قد يكون هذا أكثر تعليق تتداوله النساء حول جريمة قتل طيبة العلي. فالضحايا في ازدياد يومي، ما نعرف عنهنّ أقل بكثير من اللواتي يُعنّفن ويُقتلن دون أن يسمع بهنّ أحد.

آخر محاولة فشلت لتمرير قانون مناهضة العنف الأسري في البرلمان العراقي كانت في كانون الثاني/ يناير 2023. وبينما يبقى البرلمانيون ومعهم "اللجان" والمنظمات والأحزاب "يتداولون" صيغاً مختلفة له بين مؤيد ومعارض بحجة "خطر تفكيك الأسرة العراقية"، تقوم أسر عراقية بوأد بناتها بحجج كثيرة، أسهلها استخدام مفهوم "الشرف" المشوه والملتوي لإنهاء حياة إنسانة بكل تفاصيلها، كأنها لم تكن يوماً ودون رادع يُذكر، وكل ذلك بهدف إبقاء رأس العشائر وسمعتها واسمها مرفوعاً على أكوام من أجساد وجثث النساء.  

مقالات من العراق

فتاة كقصبة ال"بامبو"

فؤاد الحسن 2024-09-29

"فاطمة" لم تستطع نيل موتها، على الرغم من دنو الموت، وتنفسه الثقيل الملتصق بتراب الأرض. فقد اختُطِفت مِن قِبل عناصر تنظيم "داعش"، على الرغم من سنواتها التسع، التي لم تنضج...

للكاتب نفسه

نخلات غزة تشبه نخلات العراق

ديمة ياسين 2024-02-09

يمسك الميكرفون رجل ستيني يتحدث بإنجليزية مثقلة بلكنة عربية واضحة، تشبه ثقل عناقيد التمر في نخل بلادنا، بطيئة، بل متمهلة، مثل ثمار الزيتون وهي تكبر وتعمّر في أرض فلسطين "لا...

جيل الفراق

ديمة ياسين 2023-09-14

أنا من جيل احتفل بنهاية الحرب صيف عام 1988، في شوارع ضجت بالناس والأغاني والرقص لثلاثة أيام كاملة، بعد إعلان وقف إطلاق النار. مارسنا احتفالاً آشورياً قديماً برش الماء على...