منذ أن قرر السودان المُضي في سياسة الجراحات العميقة في الاقتصاد التي يشترطها البنك الدولي، تراجعت قيمة العملة الوطنية وتصاعدت معدلات التضخم وقلّ الإنتاج. وكانت النتيجة التردي الاقتصادي في كافة القطاعات وبين كافة فئات المجتمع، ثم جاءت الطامة الكبرى حينما اتخذت الحكومة الانتقالية بعد سقوط عمر البشير في نيسان/أبريل 2019 حزمة الإجراءات الاقتصادية دفعة واحدة دون تدرج.
عندها وقعت الارتدادات الكبرى وتبدلت الموازين. باتت الطبقة الوسطى التي قوامها العاملون في القطاعات المهنية في تلاشٍ مستمر، ما أدى إلى اختلالات اجتماعية وأمنية كبيرة. في مقدمة تلك الاختلالات انتشار عصابات النهب والسرقة في الطرق العامة والشوارع الداخلية، كما راحت تهاجم المنازل والمحال التجارية، فلم تسلم منطقة أو حي من حادثة نهب أو خطف أو سرقة تحت تهديد السلاح، وباتت هذه العصابات تعمل ليلاً ونهاراً في الفتك بالناس.
حملات القاء قبض دون محاكمات
على الرغم من أن السلطات الأمنية والشرطية نفذت حملات مداهمة لأوكار هذه العصابات المعروفة شعبياً ب "9 طويلة" (1)، وألقت القبض على العشرات منهم وفقاً لبيانات الشرطة الرسمية، إلا أنها لم تعلن البتة عن محاكمات، وسرعان ما ينتهى الأمر إلى مجرد حملات دعائية لحفظ ماء الوجه.
الأزمة السياسية السودانية تتمظهر اقتصادياً
30-01-2022
أثارت هذه العصابات المنتشرة في العاصمة الخرطوم بشكل لافت، وفي بعض ولايات السودان، الفزع وسط المجتمع وراح ضحيتها عدد من المواطنين مدافعين عن ممتلكاتهم. ولما كان السودان واحدا من البلدان التي يكاد ينعدم فيها تطبيق القانون، اضطر بعض المواطنين لاتخاذ إجراءات لم تكن معهودة في المجتمع، أي أن يقوم المواطن نفسه بدور الشرطي والقاضي! ووقعت حوادث كثيرة تم توثيقها ونشرها في مواقع التواصل الاجتماعي تعكس حالات القبض على اللصوص والنهابين ثم ضربهم ضرباً مبرحاً يصل الى حدود التعذيب ومحاولة انتزاع توبة منهم بالتوثيق بالصورة والصوت حتى يتعرف عليهم الناس، في محاولة لفضحهم.
باتت الطبقة الوسطى في تلاشٍ مستمر، ما أدى إلى اختلالات اجتماعية وأمنية كبيرة. في مقدمة تلك الاختلالات انتشار عصابات النهب والسرقة في الطرق العامة والشوارع الداخلية، وهي راحت تهاجم المنازل والمحال التجارية، فلم تسلم منطقة أو حي من حوادث نهب أو خطف أو سرقة تحت تهديد السلاح، وباتت هذه العصابات تعمل ليلاً ونهاراً في الفتك بالناس.
ويقوم بعض المواطنين بتسليم اللصوص لأقسام الشرطة، لكن وبشهادة شبه اجماعية، تكون النتيجة هي إطلاق سراحهم دون محاكمات، وهو ما يجده المواطنون مبرراً لأخذ حقهم بأيديهم. ولعل من أشهر هذه الحوادث تلك التي يُحاكَم فيها بعض الشبان الآن في مدينة الخرطوم بحري، إحدى مدن العاصمة الثلاث، حيث قتل بعضهم لصاً حاول نهبهم. وهناك سوى هذا المثال الكثير سواه.
ومن جانب آخر، فإن عناصر هذه العصابات من اليافعين هم أنفسهم ضحايا الفقر الناتج من اختلالات التنمية، لكن الثمن لا ينبغي أن يدفعه المواطن المغلوب على أمره هو الآخر.
عدم استجابة…تطبيق القانون باليد
الذي بات شبه متفق عليه أن المواطنين يشكون عدم تجاوب السلطات في حالات الإبلاغ عن حوادث نهب أو سرقة، وإن كان الأمر برمته ناتجا عن التردي الاقتصادي، فوضع الشرطة نفسه ليس ببعيد عن هذا الواقع الاقتصادي، حيث شروط الخدمة غير مجزية وبالتالي فإن الأداء بلا شك لن يكون بالقدر المطلوب.
لكن حينما يتعلق الأمر بحياة الناس وممتلكاتهم، فليس ثمة احتمال لانتظار أن تتحسن الأوضاع الاقتصادية ويتحسن بالتالي وضع الشرطي وينتظر الناس تطبيق القانون على أكمل وجه.
يقوم بعض المواطنين بضرب اللصوص ضرباً مبرحاً يصل الى حدود التعذيب ومحاولة انتزاع توبة منهم بالتوثيق بالصورة والصوت حتى يتعرف عليهم الناس، في محاولة لفضحهم. وفي حالات أخرى، وحين يتم تسليم اللصوص لأقسام الشرطة، تكون النتيجة هي إطلاق سراحهم، وهو ما يجده المواطنون مبرراً لأخذ حقهم بأيديهم.
في خضم هذا المناخ الملتبس، تبرز أصوات تدعو لضرورة أن نترك القانون يأخذ طريقه مهما ساءت المنظومة الشرطية والعدلية وتضعضعت ثقتنا بها، داعية الى عدم انتهاج العنف وتعذيب اللصوص بديلاً لإنفاذ القانون. غير أن هذه الأصوات لا تجد عادة من يستجيب لها وسط تمدد هذه الظاهرة. فالأمر يتعلق بالمال والممتلكات وقبل ذلك بالأنفس، بل أنه في بعض الأحيان يتعرض مطلقو هذه النصائح إلى هجوم مستمر كونهم لا يشعرون بفداحة ما يحدث للمواطنين.
ولأن القضية هنا قتل روح، تصاعد السؤال الديني حول هذا الفعل: قتل اللص! إذ نشرت بعض الصفحات على مواقع التواصل الاجتماعي فتاوى تبيح قتل عصابات النهب والسرقة وفقاً للشريعة الإسلامية، حيث أفتى أحد الدعاة بصريح العبارة ودون تردد، بينما أفتى أحد أبرز مشايخ جماعة "أنصار السنة المحمدية"، وهي جماعة رئيسية في البلاد، بأن يشكل المواطنون مجموعات لحماية أنفسهم إذا تقاعست الشرطة في ذلك، ثم انتهى إلى النتيجة نفسها قائلاً: إنْ قُتل اللص أو الناهب أثناء التدافع ف"دمه هدر"، أي أن الشريعة أهدرت دمه، فلا ذنب ولا إثم على قاتله في هذه الحالة، على الرغم أن الشيخ حض على ضرورة إيصاله للشرطة حياً. لكنه عاد وذكر أن الناس يشكون من عدم محاكمة اللصوص وأن السلطات عادة ما تُطلق سراحهم.
أثارت هذه الفتاوى اهتماماً لافتاً، وكأنها وقعت للبعض "في جرح". وقد يقول قائل إن الكثيرين في مثل هذه الحالات لا ينتظرون فتوى حيث أن ذلك مبرَّر بغياب القانون ووفق حق الدفاع عن النفس. لكن صدور رأي ديني صريح ربما يضيف قيمة دينية على الفعل. ويكفل القانون السوداني حق الدفاع عن النفس بشروط.
السودان… هل وقع الجميع في براثن العجز؟
17-09-2022
السودان في مواجهة تحديات إعادة التأسيس
22-09-2021
والسؤال هنا لا ينبغي أن ينحصر حول الفتوى وما إذا كانت صحيحة أم خاطئة، فالجدل ليس فقهياً، بل في لُب السؤال الكبير: لماذا يضطر الناس لتطبيق القانون باليد؟"، وهو سؤال شائك وكثير التعقيد ولا تشفي الغليل الإجابة عليه بأن الناس وصلوا مرحلة اليأس من القانون - الغائب أصلاً. وخطورة الأمر في أن يتحول الجميع لتطبيق القانون باليد، وعندها لن يتوقف الأمر عند حدود الفوضى المستشرية بل يتعداها لحالة اللا دولة التي بدأ السودانيون يرون ملامحها تبرز كل يوم.
تصاعَد السؤال الديني حول قتل اللص. ونُشِرت فتاوى تبيح قتل عصابات النهب والسرقة وفقاً للشريعة الإسلامية، فأفتى بها أحد الدعاة بصريح العبارة ودون تردد، بينما أفتى أحد أبرز مشايخ "أنصار السنة المحمدية" - وهي جماعة رئيسية في البلاد - بأن يشكل المواطنون مجموعات لحماية أنفسهم إذا تقاعست الشرطة في ذلك، ثم انتهى قائلاً: إنْ قُتِل الناهب أثناء التدافع ف"دمه هدر".
المسألة الاقتصادية غاية في التعقيد، وهي ليست عابرة، خاصة في بلد مثل السودان غارق في الصراع السياسي وتتفشى فيه الميليشيات. إلا أن طمأنينة الناس وأمنهم حتى في ظل اشتداد الفقر هي مسألة حياة وموت وغير قابلة لأي شكل من أشكال التهدئة غير المجدية.
ويبقى أن المسألة معقدة بشكل يفوق الاكتفاء بتأييد فتوى أو رفضها، لأن الجميع بات يستشعر غياب الأمن والطمأنينة بينما الاقتصاد يهرول بالناس إلى الهاوية.
1 - أتت التسمية من التقنية المستخدمة في السرقة، إذ تحمل الدراجة النارية شخصين أحدهما للقيادة والآخر للسرقة. ويقال أن اصل التسمية هو امتداد يد السارق على طولها والتفافها على شكل رقم 9 لانتزاع الغرض المسروق من صاحبه.