نهب أرواح العراقيين

باتت غمامة الموت المجاني والأمراض السياسية التي تحيط بالعراق تعتم على تلك التي يعاني منها العراقيون في مستهل حياتهم اليومية، وهم الذين يسلكون في سبيل الشفاء منها طرقا محفوفة بالألم. وقد طالت الأمراض السياسية حتى المستشفيات في العراق وغالبيتها قد تحوّلت إلى مسالخ. 
2016-06-02

عمر الجفال

كاتب صحافي من العراق


شارك
حي في العراق (تصوير: الركابي)

باتت غمامة الموت المجاني والأمراض السياسية التي تحيط بالعراق تعتم على تلك التي يعاني منها العراقيون في مستهل حياتهم اليومية، وهم الذين يسلكون في سبيل الشفاء منها طرقا محفوفة بالألم. وقد طالت الأمراض السياسية حتى المستشفيات في العراق وغالبيتها قد تحوّلت إلى مسالخ. "فقط الفقير أو اليائس، وحده من يسمح للمشارط أن تمرّ بجسده في العراق" وفق قول شخص من سكّان بغداد. تتناسل في المشافي الأخطاء الطبيّة، فيما أكل الدهر وشرب على أجهزة غرف عملياتها، ولم تسلم من كساد القطاع الصحي حتى لقاحات الأطفال والأدوية التي شحّ أكثرها أهمية.

تاريخ ملازم للسياسة

تلازم تاريخ الطبابة العراقي مع تاريخه السياسي إلى حدّ بعيد، وهو الذي يضرب بجذوره حتى حكم حمورابي، 4 آلاف عام قبل الميلاد. ويعود تأسيس العراق لأوّل وزارة صحّة إلى العام 1952، فيما تزامن إصدار قانون الصحّة العامّة العام 1958، مع إعلان الحكم الجمهوري الذي تميّز بكفالة العلاج المجاني والوقاية من الأمراض لكافة العراقيين. كما عمل على فتح المراكز الصحيّة وتشجيع القطاع الخاص في افتتاح المستشفيات، على أن يتمّ الإشراف عليها من قبل وزارة الصحّة. وارتقى النظام الصحي العراقي، رغم تبدّل السلطة المتوالي، ليضع العراق في أواسط الثمانينات كواحد من أكثر دول المنطقة تقدمّاً في مجال الطب، محافظاً على مجانيته تماماً التي انسحبت على توفير نحو ألفي نوع أدوية للأمراض المزمنة.

إلّا أن الحصار الاقتصادي الدولي إبان عقد التسعينيات قد دفع بالنظام الصحي إلى درجة مرعبة من التدهور، حيث مات آلاف العراقيين على أسرّة المستشفيات بسبب نقص الأدويّة وعطل الأجهزة الطبيّة وغياب الطاقة الكهربائية. كما انسحب هذا الانحدار على الكوادر الطبيّة، ولاسيما الأطبّاء، إذ تناقص عددهم بشكل هائل بسبب التهديدات التي لاحقتهم من قبل سلطة البعث، ومن ثمّ بسبب الميليشيات التي هجّرت الكثير منهم، وبعدها النزاعات العشائرية التي حولتهم إلى هدف في حال تعرّض مريض إلى الموت، إن كان بخطأ طبي أو من دونه. ما حدا بأن يكون لدى العراق اليوم 7.8 طبيب لكل 10,000 شخص، وفقاً لمنظمة الصحة العالمية، وهو معدل أقل مرتين إن لم يكن ثلاث أو أربع مرات، من جيرانه الأردن ولبنان وسوريا. ويُظهر مسح شبكة معرفة العراق (IKN) عام 2011، علاقة العراقيين بالطبابة في بلادهم، وكيف وصلت إلى الدرك الأسفل، إذ أن نحو 96.4 في المئة من العراقيين ليس لديها تأمين صحي على الإطلاق، كما أنّ 40 في المئة من السكان يُعدِّون خدمات الرعاية الصحية في منطقتهم سيئة جداً. وهذا السوء ليس ناتجاً عن شكوى ترَفيّة، إذ كشفت لجنة الصحّة في البرلمان العراقي العام الفائت، وقوع أكثر من 3 آلاف حالة خطأ طبّي خلال العقد الماضي، الكثير منها أدّى إلى الموت.

الهرب إلى الخارج

وعلى الرغم من امتلاك القطاع الحكومي العراقي اليوم نحو 2198 مؤسسة صحيّة، بين مستشفيات متخصصة وأخرى عامّة تستقبل المرضى على مدار الساعة، إلّا أنّ "خدماتها متواضعة" وفقاً للجهاز المركزي للإحصاء. ويؤكد هذا الواقع الطبيّ السيئ القصص التي يبرع العراقيون في سردها والتي تتعلّق بالطبِّ والمستشفيات الحكوميّة. فلا تكاد حياة عراقيٍّ تخلو من حدث مروِّع حصل معه في هذه المراكز الصحيّة الحكوميّة، بدءاً من خطأ التشخيص مروراً بعدم توفّر الأجهزة الطبيّة، وليس انتهاء بالوصول إلى داء جديد يضاف إلى العلّة القديمة بسبب الإهمال، أو نقص الأدويّة، أو التلوّث في غرف العمليات أو صالات النقاهة. وتحوّل الموت داخل دور الطبابة هذه جميعها إلى أمرٍّ عاديّ. علماً أن أغلب مراجعي هذه المستشفيات هم من الفئات الفقيرة في المجتمع، وهي فئات تشكِّل نحو نصف المجتمع العراقي البالغ تعداده نحو 36 مليون نسمة.

وقد تسبب هذا الواقع المتدّني بانسحاب خدمات الصحة من المجال العام، لتصير سوقاً رابحة مع التنامي الملحوظ في العقد الأخير لمكاتب وساطة متخصّصة في تدبير العلاج في الخارج، وبشكل خاص في الهند وإيران وتركيا، وفي الحالات المستعصيّة دول أوروبا. يقصد هذه المكاتب الميسورون أو غيرهم من قليلي الحيلة الذين يضطرون لبيع ممتلكاتهم لعلاج أمراضهم في الخارج، وذلك لتسديد التكلفة العالية التي تطلبها هذه المكاتب مقابل خدماتها العديدة: بدءاً بإرسال الفحوصات أو الحالات إلى مستشفيات في الخارج، مروراً بعقد صفقة تكلفة العلاج بين المستشفى والمريض، ووصولاً إلى التكفّل بتأمين السكن وحجز التذاكر وإيجاد مترجم. هناك منظومة كاملة بُنيت للعلاج في تلك الدول بسبب خراب منظومة الصحّة في العراق، على الرغم من أن العراق يحوي نحو 68 مستشفى خاصّاً، إلّا أنّ هذه اضطرت أسوة بتلك الحكومية إلى تحويل اختصاصها إلى الأمراض والعمليّات الجراحية البسيطة المتعلّقة بالولادة أو الكسور وما شابه.

إنفاق بلا نتائج

ولا يمكن عزو واقع الصحة المتقهقر هذا إلى شحّ الإنفاق، إذ على الرغم من أن الحكومات المتعاقبة على العراق منذ احتلاله في نيسان / أبريل عام 2003 تُنفق جلّ الموازنات السنويّة على الأمن (كما فعلت الحكومات السابقة للاحتلال)، إلّا أن الصحيح أيضاً أن الإنفاق على الصحّة لم يكن قليلاً، إذ يخصّص العراق نحو 121.2 دولارا للفرد، وفقاً لمنظمة الصحة العالمية. كما أنّ الإنفاق على الصحّة قفز من 2.7 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2003 إلى 8.4 في المئة في عام 2010، وهو ما يعادل نحو 6 مليار دولار سنوياً، بحسب البنك الدولي.
إذاً فلِما يبقَى الواقع الصحّي بهذا السوء؟ والإجابة على غالبيّة الأسئلة في العراق تسلك طريقاً واحدة: النهب والفساد. وثمّة من يسأل: لكنّ الأمر هنا يتعلّق بأرواح الناس! والإجابة أيضاً أنّ الأمن هو لبّ حياة الناس، وهو يعاني فساداً هائلاً أيضاً.

وهنا، لا بدّ من الإشارة إلى أن وزارة الصحّة تُعدُّ أكثر الوزارات تحسّساً من الإعلام، هي تمنع دخول الصحافيين إلى مؤسساتها إلا بإذن خطّي، وتطلب مقدماً خطّة تصوير محدّدة من الإعلاميين، كما أنّها، حتّى وقت قريب، كانت تمنع إدخال الهواتف المحمولة التي تحمل الكاميرات داخل المستشفيات خشية من القيام بالتصوير. الوثيقة ترعبها تماماً. الأزبال تنتشر حتّى داخل غرف العمليّات، وبعض المرضى يظلّ ينوح ألماً لساعات دون أن يسأله أحد عن حاجته، والرشا علامة مميّزة في كل المؤسسات الحكوميّة، بل يُرجّح بأن تكون المراكز الصحيّة أكثرها ابتزازاً وقبولاً للرشاوى وهي التي تعرف أن الإنسان رهين صحة جسده. عليه وإذا كانت وزارة الصحّة (التي تتنافس عليها الكتل السياسية وكأنّها وزارة سيادية كونها مُربِحة) تعقد صفقات فاسدة كبيرة، فإن غضّ الطرف عن الموظفين الصغار يصبح أمراً عاديّاً.

المال مقابل أرواح العراقيين

وعلى الرغم من محاولة إحاطة الحكومات العراقيّة المتعاقبة بعمل القطاع الصحّي وصفقاته بسريّة تامّة، إلّا أن فرض مجلس الأمن الدولي توظيف شركة تدقيق حسابات دوليّة على أموال "صندوق تنمية العراق"، أدّى إلى كشف "نبذة" من فساد قطاع الصحّة، ومن بينها "إنشاء" مستشفيات لا وجود لها على الأرض، واستيراد أجهزة وأدوية غير صالحة للاستعمال بمبالغ تقدّر بمليارات الدولارات مقابل كلّ هذه الصفقات. ووفقاً لشركة إرنست ويونغ المشرفة على الحسابات الماليّة لصندوق تنمية العراق، فإن وزارة الصحّة تعاقدت بين عامي 2009 و2011 على بناء 8 مستشفيات في 7 محافظات عراقيّة بكلفة نحو مليار و148 مليون دولار، 6 من هذه المستشفيات لم تخصص لها أرض، و2 منها لم ينجز منها سوى 29 في المئة من البناء، بالرغم من أنّ موعد التسليم كان في آذار/ مارس عام 2015.

وإذا ما كان هذا يتعلّق بالبناء، فإن شراء الأجهزة الطبيّة، التي ينتظر العراقيون بالدور لفترات تمتد مرّات لأشهر لإجراء الفحوصات الطبية عليها، قد تبدو نكستها أكبر. إذ تعاقدت "شركة كيماديا" التابعة لوزارة الصحّة على استيراد أجهزة في الطب النووي والرنين المغناطيسي والمفراس الحلزوني عام 2014، وبمدة تجهيز 12 شهراً، بمبلغ يقدر بنحو 42 مليون دولار. إلّا أنه بعد مرور الوقت تبيّن أن ليس هناك مبان لاستقبال هذه الأجهزة!
في الواقع، فإن صفقات الفساد هذه لا تمثّل إلا عيّنة بسيطة عن واقع القطاع الصحي في البلاد، الذي يترك العراقيين، والفقراء منهم على وجه التحديد، يموتون بسبب انتظار الأدوار الطويلة على فحوصات أمراض السرطانات والكلى والأورام، وكثيراً منها أصابهم جراء الحروب المتواترة، فيما تتسرّب أموالهم إلى شركات وهميّة كما أثبتت الشركة الدولية المدقّقة للحسابات. ليس كافياً أن العراقي يستفيق ليجد موته جاهزاً في طرقات بلده المتخم بالعنف، فتكتمل مأساته بحكومات وجدت في آلامه ونهب عمره استثماراً لمراكمة الأموال المنهوبة عبر عقد الصفقات الفاسدة. خاسر هو في أية حال. فحتى المجانية التي ورثها من قانون الصحة، وهي كل ما تبقى له بعدما انعدمت الخدمات الصحية، قررت الحكومة العراقيّة سلبها منه مع مطلع العام الجاري بإلغاء مجانية النظام الصحّي!

مقالات من العراق

فتاة كقصبة ال"بامبو"

فؤاد الحسن 2024-09-29

"فاطمة" لم تستطع نيل موتها، على الرغم من دنو الموت، وتنفسه الثقيل الملتصق بتراب الأرض. فقد اختُطِفت مِن قِبل عناصر تنظيم "داعش"، على الرغم من سنواتها التسع، التي لم تنضج...

للكاتب نفسه

العراق الشاب.. أعزلٌ في وجه "اللادولة"

عمر الجفال 2019-10-22

تندّر السياسيون على دعوات الشباب للتظاهر قبل انطلاقها بساعات. عاملوهم على أنّهم قاصرون. أطلقوا عليهم لفظ "العوام": لا يستطيعون تنظيم أنفسهم، غارقين في الجهل، يصعب فهم لغتهم التي يروّجون فيها...