أياً كانت المواقف والتقديرات - وهي عديدة ومتبدِّلة - حول مآل الثورة التونسية فيما تحيي ذكراها الثانية عشرة، فإن التجربة الديمقراطية التونسية تبقى، في محيطها الإقليمي على الأقل، على قيد الحياة. فهي لا تزال ضمن المسار المدني والسلمي مقارنة بباقي الانتفاضات العربية وما أنتجته من وقائع معقّدة ومتنافرة تكاد تجعل من كلّ بلد عربي حالة قائمة بذاتها، على الرغم من القواسم المشتركة.
من الجلي أن المرور من البوعزيزي إلى سعيّد لم يكن محض صدفة، بل هو مسار مركّب جعل تونسيين مجهولين قبل 2011، يدخلان تاريخ تونس الراهن. الأول بإضرام النار في جسده يأساً وكمداً وإطلاق شرارة الثورة، والثاني بتحوّله من أستاذ قانون بلا تاريخ سياسي ونضالي إلى رئيس للجمهورية متبنياً في البداية إستراتيجية شعبوية عائمة قبل أن يسرّع الخطى منذ 25 تموز/يوليو 2021 نحو العودة إلى التفرّد بالحكم.
من منظور معياري، قد نصف الثورة التونسية بأنها مغدورة، أو الانتقال الديمقراطي بأنه معطَّل، إلّا أنّ الأمر أكثر تعقيداً، على الأقل من جهتين: الأولى هي تحوّلات المجتمع التونسي، الخفية منها والظاهرة، بعد سقوط تسلطية بن علي وثانيها تخبّط الدّولة في بحثها عن طبيعتها الجديدة كدولة ديمقراطية ممكنة.
فعلى الرغم من أن ثورة شعبية شاملة على أرض الشرق المسلم تفنّد مقولتي "نهاية التاريخ" و"الاستثناء الشرقي"، لم تكن متوقعة، فإنّ ما حدث فعلاً يدفعنا للتساؤل بشكل مباشر: هل وَلّدت هذه الفاعلية الثورية فاعليةً ديمقراطيةً قابلة للحياة؟ أم أنها لا تزال تحت تهديد الانتكاس؟
ننطلق هنا من ثلاث متغيرات رافقت هذا التحوّل الجاري من فاعلية الثورة إلى فاعلية الدّمقرطة، ونعني بذلك الاحتجاج كفعل مقاوِم، والانتخاب كخيار للبحث عن تمثيلية الإرادة العامّة ضمن مؤسسات حكم ديمقراطي، والحوار كضرب من الديمقراطية التداولية سعياً إلى توافق سلمي بين المتنافسين على العيش المشترك بمعزل عن منطق المغالبة.
الاحتجاج وديمقراطية الساحات
مجتمع الثورة، على لسان أغلب الفاعلين، وأولهم الشباب الحركي، هو مجتمع ساحات واحتجاج وتخوم، يضع نفسه في مقابل ساسة ''الصالونات'' وورثة النفوذ وسلطة المركز. وهو الذي نجح صدقاً في توسيع مجاله الجغرافي والطبقي وفي بلورة شعاراته ومطالبه في قلب موازين القوى نحو التغيير الجذري. وهو مجتمع مقاومة يشدّد على طابعه التلقائي دون حاجة إلى توسّل الأجسام الوسيطة، ويحتفي بميله نحو العفوية وتبني مقولة نهاية الزعامة والتنظيمات الهرمية.
فمقولة "الفاعل الميداني" تأكدت قبل الثورة وأثناءها وبعدها، لأن المطلب الحيوي حين ينشأ من حياة الناس يُنشئ كذلك حامليه وجمهوره. فهو الدّافع الذي يحرّك الأفراد والمجموعات، ويحوّلهم إلى فاعلين من أجل قضاياهم. فهم العالمون بها وبأبعادها، والقادرون على خوض المعارك من أجلها بحماسة.
أصبحت مطالب النخب المدينيّة في عودة الاستقرار والأمن ومناخ الأعمال والعمل هي الأولى، وغابت في الزحام مطالب الثورة الاجتماعية.
التحوّل في طبيعة الحركات ومطالبها مقارنة بالحركات التقليدية يُفصِح عن التحوّل الهيكلي الذي طال المسألة الاجتماعية عموماً، محلياً وعالمياً، حيث أصبحت خطوط الفرز المتحركة تتمّ - حسب السياقات -بين المدْمَجين والمقصيين، فضلاً عن كون المطالب المرفوعة ليست فقط اقتصادية ومادية بمضمونها، بل أيضاً معنوية ولامادية، تتعلق بطلب الاعتراف والحرية والكرامة ورفض الاحتقار، والتّمرد على كلّ أصناف السلطة الهرمية في العلاقات الاجتماعية.
وإلى جانب ما تمدّنا به نظريات الاحتجاج الاجتماعي من عدّة مفهومية ومنهجية لفهم أشكال تعبئة الموارد وتوفّر الفرص وتعدّد السرديات، من المهم أن نفهم أيضاً كيف صار السّخط انفعالاً محفِّزاً يشترك فيه الساخطون جميعاً حتى وإنْ كانت دوافع سخطهم متنوعة. فنظريات الاختيار العقلاني تبقى عقيمة أمام حالات غضب وتمرد وتعبئة لتحركات جماعية وفردية تحفّزها مطالب ماديّة وغير ماديّة.
لقد تملّك الفاعلون الجدد أيضاً قدرات جعلتهم يتدرجون في قربهم من المجتمع المدني، من حالة الغضب كانفعال إلى القدرة على لفت الانتباه إلى قضاياهم وتحويلها إلى قضايا رأي عام قدر المستطاع. وبقدر ما نحصي التطور الكمي للحركات الاجتماعية على مدى السنوات المنقضية (1) وتعاقب دورات التعبئة والاحتجاج، نقف أيضاً على طابعها الكيفي وأشكال تنظّمها الجديدة الأفقية وما بعد الحزبية.
هجرة الشباب الحركي تحديداً للتنظيمات الهرمية جعلته يجد ملاذاً في ما وفّرته الحركات الاجتماعية والفعل الميداني من فضاء حركي ومشاركة. والوله بالأفقية هنا لم يمنع من أنّ يكون للمجموعات الحركية ''قادة" رأي وميدان غير رسميين لكن شرعيين.
ديمقراطية الساحات التونسية ومظاهر فنون الشارع التي انتقلت إلى مجمل الميادين العربية، هي إذاً الوجه المحلي لظاهرة عالمية تتجاوز قيود التجربة المُمأسسة، وهي ردٌّ وتجلٍ علني لجذوة المقاومة سواء نظرنا إليها في مطلبيّتها المتنوعة: العدالة والحرية والكرامة وحقوق الأفراد والأقليات، أو في أدواتها ووسائلها المبتكرة ما بعد-الحزبية.
تونس تنتخب: أمر قطعي لا مفرّ منه
في قول الشاعر التونسي الرّاحل محمد الصغير أولاد حمد ''ذهبنا كلنا للانتخاب ولم يَنتخب منا من نجح'' تكثيف للأزمة العميقة للديمقراطية التمثيلية في تونس، والتي صدمت شارع الثورة بكلّ فاعليه منذ 2011، حين بيّنت أن للثورة مفرداتها وشوارعها وأجيجها، ولصناديق الاقتراع شوارعها، بل وأزقتها الخفية. فسوسيولوجيا التحريض أو الدعاية والحركات الاجتماعية ليست هي سوسيولوجيا المؤسسات ولا هي سوسيولوجيا الانتخابات. فهذه الأخيرة تقدِّم لنا نماذج نظرية مختلفة لفهم السلوك الانتخابي، من ذلك مثلاً نموذج تحليل المتغيرات السوسيو-اقتصادية (الجنس، العمر، الموقع الاجتماعي) في تكييف وتحديد السلوك الانتخابي، أو النموذج الثاني حين يركّز على الارتباط النفسي العاطفي للنّاخب مع محيطه وبيئته الاجتماعية (المهنية، العشائرية، السكنية)، أو النموذج الثالث العقلاني القائم على حساب النجاعة والفائدة الآنية (2).
فتنظيم العملية الانتخابية ذاتها سنة 2011 تحت إشراف شفاف لهيئة مستقلة لم يكن عملاً هيناً، بل نسجّله ضمن الفاعليات الديمقراطية الطموحة، ويسمح لنا باستخلاص ثلاثة دروس على الأقل: أولاً قناعة الأغلبية بأنه لا مصدر آخر للشرعية التمثيلية غير صندوق الاقتراع للمرور من الثورة إلى الدوّلة، ثانياً اكتساح الإسلاميين للنتائج بـ 37 في المئة، ومعهم قوائم "العريضة الشعبية" بـ 6,64 في المئة. وثالثاً أن ما بين ربع ونصف الأصوات ذهب إلى قوائم لم تفز ولو بمقعد واحد (3). منذ البداية، بدت الديمقراطية التمثيلية كتجميع حسابي للأصوات لتمثيل التنوع الفعلي، وصعد الخوف من أن تتحول إلى ذريعة للتمكن من الحكم باسم الأغلبية.
كان جلياً أن شارع الانتخاب متحوِّل وأن إستراتيجية "حركة النهضة" للبقاء في الحكم عن طريق شرعية الانتخابات وحدها تصطدم بواقع انتخابي جديد. ولئن أسعفها تفكك "نداء تونس" وانتحار اليسار من تلقاء نفسه، فإن صعود "قلب تونس"، حزب رجل الأعمال ومدير "قناة نسمة"، نبيل القروي، إلى المقعد الثاني أضر بها، خاصّة بعد تشبثها بإشراكه في الحكم.
صدمة فوز الإسلاميين، خاصة في الأوساط النسوية والطبقات الوسطى المتعلّمة، غيّر السلوك الانتخابي للقوى غير الإسلامية سنة 2014، حيث ساعد تأسيس "نداء تونس" (4) حول شخصية تاريخية من الزمن البورقيبي في توجيه التصويت نحو غاية واحدة، هي منع فوز ثانٍ لـ"حركة النهضة" حمايةً للدولة.
الخوف كمحرك للتاريخ والسياسة في تونس
24-06-2017
من هنا أصبحت تونس، التي تتنافس على الفوز بثقة الناخبين، منقسمة بين علمانيين من مشارب شتى وإسلاميين على الرغم من تفرّقهم، ولكنهم متفقون ومتضامنون، وأصبح واجب الناخب ''الديمقراطي العلماني'' التصويت لإنقاذ الدولة لا لتحقيق أهداف الثورة، حيث كان هذا التصويت يضع ''دولة بورقيبة العصرية'' قبالة ''دولة الغنوشي الدينية''.
وأصبحت مطالب النخب المدينيّة في عودة الاستقرار والأمن ومناخ الأعمال والعمل هي الأولى، وغابت في الزحام مطالب الثورة الاجتماعية.
هكذا نجحت مقولة "التصويت المفيد" لصالح ''حزب الباجي'' في تعديل موازين القوى وحصوله على 86 مقعداً من جملة 217 مقعد. ثم تلاه حزب "حركة النهضة" الإسلامي بـ 69 مقعداً متراجعاً بـ 20 مقعداً عما سبق، وصعد إلى المرتبة الثالثة "حزب الاتحاد الوطني الحر" الذي أسسه رجل الأعمال المثير للجدل سليم الرياحي (لِما تعلقتْ به من تهم فساد مالي) بنسبة 4.2 في المئة وحصوله على 14 مقعداً. وتفكّك "نداء تونس"وتشظى (5)، وتحوّل الحزب الذي عهد على نفسه مهمة إنقاذ دولة الاستقلال ومكاسبها إلى عبء ثقيل على الوطن خيَب آمال ناخبيه أولاً، قبل أن يصبح ضحيّة تَفرّق دمها بين فرقائه، فلا الدولة أُنقذت ولا الثورة حُصّنت.
رسالة الانتخابات المحلية لسنة 2018 كانت مشفّرة لكل الأحزاب حيث حصلت القوائم المستقلة المختلفة على 32.2 في المئة من الأصوات وتقدمت على "حركة النهضة" و"نداء تونس".
كان جلياً إذاً أن شارع الانتخاب متحوِّل وأن إستراتيجية "حركة النهضة" للبقاء في الحكم عن طريق شرعية الانتخابات وحدها تصطدم بواقع انتخابي جديد. ولئن أسعفها تفكك "نداء تونس" وانتحار اليسار من تلقاء نفسه، فإن صعود "قلب تونس"، حزب رجل الأعمال ومدير "قناة نسمة"، نبيل القروي، إلى المقعد الثاني أضر بها، خاصّة بعد تشبثها بإشراكه في الحكم.
من جهته، نجح المرشح المستقل، قيس سعيّد، في المرور إلى الدور الثاني تحت أنظار قادة "نداء تونس" المتناحرين فيما بينهم، ثم الفوز برئاسة الجمهورية محوِّلاً الوسيلة التي كان ينتهجها الغنوشي، أي الشرعية الانتخابية للهيمنة على الدولة، إلى سلاح ضد كلّ منظومة حكم العقد الماضي.
وغدا المنتخَب شعبياً هو التجسيد العملي لثورة الصندوق التي قلبت السحر على الساحر في مرة أولى، قبل أن ينقلب السحر على الساحر مرة ثانية مع نتائج الاستفتاء على دستور قيس سعيّد في 25 تموز/ يوليو 2021، ومقاطعة كل الطيف السياسي لمساره ورفضه لدستور يكرِّس الحكم الفردي، ثمّ نسبة مشاركة في الدور الأول من الانتخابات التشريعية الأخيرة لم تتجاوز 11.2 في المئة.
هل ينهي الدستور الجديد الصراع الاجتماعي؟
21-09-2022
بضربٍ من انقلاب الأوضاع، عزلت انتخابات 17 كانون الاول/ ديسمبر 2022 حاكم تونس الجديد. فالحدس الشعبي تخلى هذه المرّة عن مشروع الرئيس، بعد ثقته فيه كجدار صد لعودة المنظومة السابقة، فهو لم يعد يرى في عرضه السياسي إرادة بناء ولا مشروعاً وطنياً جدياً، ولم يستجب لندائه ''للخروج لثورة الصندوق''.
خواء عرض الرئيس حين مرّ من خطاب ''الدستور المكتوب على الجدران'' إلى ما هو جدّي، صار يمثّل خطراً على الدولة والمجتمع والاقتصاد، ولا وقع له في حياة الناس أمام غلاء الأسعار وأزمة التموين وتواصل البطالة، والسعي لقتل السياسة... كل هذا أفقد المشروع الرئاسي تدريجياً أحزمة دعم شعبية كان يفاخر بها في وجه النخب.
بكلمة، شعبوية قيس سعيّد لم تُقْرِن مشروعية الاحتجاج بشرعية الانتخاب الديمقراطي، بل انتقلت من وعود غائمة بالخلاص إلى دولة تسلطية عمادها حكم رجل واحد، يدها اليمنى تعسفية ويدها اليسرى مشدودة إلى إكراهات التقشف.
تشريعيات تونس 2022: اللاحدث التاريخي..
27-12-2022
محصلة القول إن الاقتراع المباشر أظهر في الأخير قوتين سياسيتين قارتين لهما حضور مجتمعي وأطر تنظيمية: الإسلاميون وأتباع النظام القديم بتعبيراتهم المختلفة، في مقابل صعود سريع ونزول أسرع لتعبيرات هجينة ("العريضة الشعبية"، "الاتحاد الوطني الحر"، "قلب تونس"). كما أنه أظهر مؤخراً جاذبية الشعبوية التي جسّدها عرض الرئيس قيس سعيّد.
كل هذا في حين ظلت الأطروحات الليبرالية واليسارية كتصورات ومشاريع حكم بلا إطار سياسي، ونواة قاعدة انتخابية. فشلت إذاً الممارسة الانتخابية في جعل الفاعلية التنافسية جزءاً من تجذير الفاعلية الانتخابية، بل تحوّلت على مراحل إلى ممارسة زبائنية لا ثقة للناس فيها.
بضربٍ من انقلاب الأوضاع، عزلت انتخابات 17 كانون الاول/ ديسمبر 2022 حاكم تونس الجديد. فالحدس الشعبي تخلى هذه المرّة عن مشروع الرئيس، بعد ثقته فيه كجدار صد لعودة المنظومة السابقة، فهو لم يعد يرى في عرضه السياسي إرادة بناء ولا مشروعاً وطنياً جدياً، ولم يستجب لندائه ''للخروج لثورة الصندوق''.
خواء عرض الرئيس، حين مرّ من خطاب ''الدستور المكتوب على الجدران'' إلى ما هو جدّي، صار يمثّل خطراً على الدولة والمجتمع والاقتصاد، ولا وقع له في حياة الناس أمام غلاء الأسعار وأزمة التموين وتواصل البطالة، والسعي لقتل السياسة... كل هذا أفقد المشروع الرئاسي تدريجياً أحزمة دعم شعبية كان يفاخر بها في وجه النخب
عنوان هذه الثقة المنهارة في وعود الساّسة وفي العملية الانتخابية هو تراجع الإقبال على مكاتب الاقتراع من 41 في المئة سنة 2011 إلى 11 في المئة سنة 2022، وتراجع شعبية الرئيس نفسه. العزوف عن التصويت وحرق الدستور على قارعة الطريق ووصم السياسيين، وتبرير عودة الحاكم القوي، علامات لا تطمئن على نضج الفاعلية الديمقراطية.
الحوار، الخدعة، والقناعة
عقب القراءة النقدية للأوضاع التي عايشناها منذ 2011، نقف على محطات مفصلية كانت فيها الدعوة للتوافق شرط ضمان السلم المدني وتقدّم العملية السياسية. فتأسيس "الهيئة العليا المستقلة للانتقال الديمقراطي" بمشاركة واسعة للطيف السياسي والمدني، كانت ممراً للعبور من صدام الساحات المتقابلة إلى الحوار والتوافق. توافقت فعلاً هذه الهيئة على وضع أهم التشريعات الملحة لدمقرطة الحياة السياسية في مجال الإعلام وتكوين الجمعيات والأحزاب والقانون الانتخابي. فكرة العهد الجمهوري كانت بدورها جزءاً من ذلك المعمارالتوافقي (6).
ما دفع "الحوار الوطني" هي أزمة 2013 بعد الاغتيالات السياسية وفشل "حركة النهضة" في قيادة البلاد. فاقتدار رباعي المجتمع المدني (الإتحاد العام التونسي للشغل، اتحاد الصناعة والتجارة، هيئة المحامين، رابطة حقوق الإنسان) الذي مكّن من فض أصعب الإشكالات العالقة حينها وهاجس القوى الدولية لبناء تقارب بين العلمانيين والإسلاميين من جهة أخرى، والخوف من تفكك الدولة واحتقان المجتمع، كان قد صَوّر الحوار التوافقي على أنه طريق الخلاص.
معضلة مطلب الحوار الوطني اليوم أنه لم يعد ممكناً بالصيغة التي كان عليها سنة 2013. فالمهمة عسيرة وربما يتوقف على نجاحها مخرج الحلّ الممكن من العطالة السياسية والأزمة الاقتصادية والاجتماعية. فتقديم البناء النموذجي والمثالي للحوار من قبل كلّ دعاة "الديمقراطية التداولية" على أساس قبول أطراف النزاع السياسي الحوار والتوافق، يبقى غير كافٍ، بناء على الذاكرة القريبة والحية التي خلفتها السنوات الماضية والصورة المنبوذة للسياسيين وللمؤسسات.
من ذلك مثلاً: تمرير قانون المصالحة، وضرب مسار العدالة الانتقالية، والبطء في تعهّد القضاء بملفات الإرهاب وتسفير الشباب التونسي إلى بؤر التوتر والاغتيالات، كلها علامات تؤكد على أن حوار 2013 قاد إلى توافق مصالح بين أصحاب النفوذ، ومن الضروري تفادي ذلك مستقبلاً.
يميل الحركيّون والمغيّبون أو من نسميهم "الجماهير الضعيفة" إلى الحذر من التداول النخبويّ، إذ يعتقدون أنّ الفضاء العموميّ في عالم السياسة الفوقي - حيث تؤثر التفاوتات الهيكلية - يقصي أمثالهم.
شعبوية قيس سعيّد لم تُقْرِن مشروعية الاحتجاج بشرعية الانتخاب الديمقراطي، بل انتقلت من وعود غائمة بالخلاص إلى دولة تسلطية عمادها حكم رجل واحد، يدها اليمنى تعسفية ويدها اليسرى مشدودة إلى إكراهات التقشف.
وحتى لا ينحصر مجال الأفراد المعنيين بالنضال من أجل تحقيق عدالة أكبر في إعطاء الأولوية لأشكال الفعل النقدي من التعبئة والمعارضة الرّاديكالية، بدلاً من محاولة التوصل إلى اتفاقات ملزِمة وعادلة، من الضروري أن يكون الحوار خياراً عميقاً ومهيكلاً وإطاراً قاراً لا يخضع لمنطق الغلبة والقوة والعدد والنفوذ، بل لقواعد المجادلة والمحاججة المشتركة والتفاعلية من أجل استنباط قواعد العيش المشترك. المقصود هنا أن تكون ديمقراطية التداول والحوار مكمِّلة - لا بديلاً - للاحتجاج أو للديمقراطية التمثيلية.
كيف نتجنب مخاطر تواصل اﻷزمة
تبدو الساحة السياسية التونسية خلال شهر كانون الثاني/ يناير من مطلع 2023، متحركة في اتجاهات غير معلومة. وحدها مبادرة المنظمة النقابية – الاتحاد العام التونسي للشغل - والتي أصبحت مبادرة مشتركة مع الهيئة الوطنية للمحامين ورابطة حقوق الانسان والمنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، مطروحة لإدارة حوار وتقديم بدائل إنقاذ قابلة للحياة وإحياء الأمل.
الحدس الشعبي اليقظ ودور الاتحاد العام التونسي للشغل المرتقب والحاسم وصلابة المجتمع المدني والحركات الاجتماعية وتوسّع دائرة الغضب والرفض طبقياً وجغرافياً بسبب الفشل الاقتصادي، هي عوامل مجتمعة لإنهاك سلطة قيس سعيد.
جلي في نظرنا أن ديمقراطية الساحات فاعل حيوي لدخول الجماهير الضعيفة حلبة الفضاء العمومي. حتى لو أقامت أولاً الجسور مع مسارات الانتخاب أي مع الديمقراطية التمثيلية، فإن فاعليتها الديمقراطية تظل قائمة، لأنها حتى من دون أن تكون معنية بأخذ السلطة وممارسة الحكم، تظل سياسية وديمقراطية في جوهرها ويظل أثرها بارزاً.
لقد وفرت طفرة الحرية التي تلت ثورة 2011 فضاءات جغرافية وحركية تجاوزت دلالاتها الحينية والمحلية (7)، حيث إن ما يعتمل في تونس من مخاض تحتي يتجاوز المؤسسات التقليدية. فهي فضاءات تتعهدّ برعاية طاقات باحثة عن بدائل جديدة، وتعزّز قوة الانعتاق من واقع صعب، وتسمح بتقاطع فاعلين اجتماعيين متنوعين. وصم هذه الفضاءات وخنقها هو قتلٌ لطاقة ديمقراطية خلاقة في المجتمع التحتي.
مأزق الديمقراطية التمثيلية من جهته مضاعف، فهي لازمة ولا مفرّ منها وهي غير كافية أيضاً، إذ لم تمنع إنتاج ''دولة قانون أولغارشية'' (8) في صور سريالية أحياناً اجتمع فيها الإمام والمهرب والمثقف العلماني ورجل الأعمال. ويكفي التدقيق في طبيعة الفاعلين السياسيين من المنتخَبين وممن شاركوا في الحكم طوال العقد الماضي لنلحظ ذلك.
من هنا ستكون الديمقراطية التمثيلية على النمط الذي عشناه غير مجدية لبناء مؤسسات مستدامة ومحترمة، أي غير قادرة على تحويل الدّولة إلى دولة ممثِلة للجميع، بل فقط للمستفيدين منها، ولا على تحويلها إلى حقل صراع لتنفيذ سياسات عمومية مختلفة.
تونس: الثورة تنقسم على نفسها
13-01-2022
مثل هذا الإحساس التلقائي بفشل العملية الانتخابية يسير في جسم المجتمع ووعيه الجماعي كالنار في الهشيم ويزيد من عزلة الناخب/ المواطن عن الدولة. وخسارة هذه الثقة في الديمقراطية التمثيلية وفي المؤسسات لا يمس الطبقات الوسطى التي تُعرف بأنها الأكثر حساسية للمطلب الديمقراطي السياسي، بل يطال عموم الناس للحدّ الذي أصبح فيه القبول الطوعي بعودة الحكم القوي معلَناً في الفضاءات الشعبية. وفي استمرار هذا الشعور انتكاسة كبرى للثقافة الديمقراطية.
الثقة في الحوار والتداول كمتغير ثالث هو رهان ثقافي وحضاري عالي القيمة، ولا بد أن يطهَّر مما اكتنفه في تونس من دلالات الخدعة وسيطرة العقلية الانتهازية والمصلحية لدى السياسيين، وأن يستعيد قوته الأخلاقية والسياسية.
عنوان الثقة المنهارة في وعود الساّسة وفي العملية الانتخابية هو تراجع الإقبال على مكاتب الاقتراع من 41 في المئة سنة 2011 إلى 11 في المئة سنة 2022، وتراجع شعبية الرئيس نفسه. العزوف عن التصويت وحرق الدستور على قارعة الطريق ووصم السياسيين، وتبرير عودة الحاكم القوي، علامات لا تطمئن على نضج الفاعلية الديمقراطية.
الإحساس التلقائي بفشل العملية الانتخابية يسير في جسم المجتمع ووعيه الجماعي كالنار في الهشيم ويزيد من عزلة الناخب/ المواطن عن الدولة. وخسارة هذه الثقة في الديمقراطية التمثيلية وفي المؤسسات لا يمس الطبقات الوسطى التي تُعرف بأنها الأكثر حساسية للمطلب الديمقراطي السياسي، بل يطال عموم الناس للحدّ الذي أصبح فيه القبول الطوعي بعودة الحكم القوي معلَناً في الفضاءات الشعبية.
ما عشناه على مدى أكثر من عقد من مدٍّ نحو البناء الديمقراطي الجذري ومن جزرٍ نحو الأسلمة والأولغارشية الريعية والشعبوية التسلطية، كان في أعماقه فينا وفي مجتمعنا قبل الثورة. فذاكرة المقاومة والانعتاق عميقة حقاً، وكذلك فينا ما فينا من عوامل الخنوع والتعصب ورفض الآخر. ولعل أصدق الثوار هو من يقبل النظر إلى وجهه في المرآة ويفكر ضدّ نفسه ولا يستمرّ في السلوك نفسه الذي يعيد الانتكاسات نفسها.
الثورة كفعل يومي في تونس أو قوة المستضعفين
04-02-2021
لذلك نظل نؤمن أن القطع بين الفاعلية الديمقراطية والفاعلية الثورية هو ادعاء غير ممكن، إذ ليس للثورة بمعناها السياسي أفق غير الدولة وتغيير السياسات العمومية. ولا الفاعلية الديمقراطية ممكنة إن بقيت تحت نفوذ نخب المال والإعلام والمعرفة، فمرئية الناس العاديين ومطالبهم وصوتهم لازمة لدمقرطة الفضاء العمومي.
1 - للاطلاع على إحصائيات التحركات الاحتجاجية الشهرية والسنوية: https://ftdes.net/ar/observatoire/
2 - Élections et territoires en Tunisie. Enseignements des scrutins post-révolution (2011-2014) de Alia Gana et Gilles Van Hamme (dir).
3 - كمال الجندوبي، "تونس تنتخب"، شهادة مناضل من قلب المعركة، نشر دار نيرفانا، تونس، 2022.
4 - حزب سياسي علماني وسطي تأسس سنة 2012 بروافد ليبرالية ويسارية ونقابية للتصدي لهيمنة الإسلاميين، وتفكك بعد 2014 واندثر نهائيا بعد 2019.
5 - صراع الزعامات وطموحات نجل الرئيس الباجي في خلافة والده وصعود الخلافات حول طبيعة العلاقة مع الإسلاميين عوامل فككت الحزب إلى أحزاب صغيرة وجعلته يدخل انتخابات 2019 النيابية والرئاسية بصفوف متفرقة.
6 - للمزيد من التفاصيل حول تجربة الحوار الوطني في تونس: "الحوار الوطني" الجمعية التونسية للدراسات السياسية، مؤلف جماعي ( إشراف حاتم مراد)، دار نشر "نيرفانا " تونس 2015.
7 - لتتحوّل إلى ما يمكن أن نسميه، اقتباساً من ميشال فوكو، des hétéropies
8 - جاك رانسيير "كراهية الديمقراطية" ترجمة أحمد حسان دار التنوير، القاهرة، 2012.