كان لافتاً في صيف العام الماضي تخصيص أسبوعين من التظاهرات على التوالي للمُطالبة بإقالة رئيس مجلس القضاء الأعلى العراقي، لاسيما أن أولئك القادمين من أطراف بغداد والذين ينحدرون من أصول عشائرية، لا يعنيهم هذا المطلب كثيراً. علاوة على أنّ الكثير من المتظاهرين لم يكن يعرف شخص القاضي الذي رُفعت الشعارات المنادية بإسقاطه وإبعاده عن منصبه.
بدا ذلك جلّياً في أعداد المتظاهرين واللافتات القليلة التي علَت في الساحات وسط بغداد ضدّ رئيس السلطة القضائية الأعلى في البلاد، بالمقارنة مع الشعارات والمدلولات التي رافقت مطالب أخرى علا صداها في الأمكنة نفسها. كما انعكس ذلك في سخرية عدد لا بأس بهِ من العراقيين على مواقع التواصل الاجتماعي من "ترَف" مطلب إصلاح السلطة القضائية مقارنة بمطالب حلّ الأزمات الكثيرة الأخرى المُلحّة والتي تتعلّق بالكرامة بشكل مباشر، مثل الحق بالعمل والسكن والطبابة، وبالتأكيد القضاء على الفساد وتأمين الأمن الشخصي للمواطنين.
شتيمة.. المجتمع!
أحبطت تلك السخريّة الكثير من المتظاهرين الذين ينحدرون من أيدولوجيات يسارية أو ليبرالية، أو أولئك الفاعلين في "منظمات المجتمع المدني"، ودفعت بعضهم إلى وصم المجتمع العراقيِّ بـ "التخلّف"، إضافة إلى لجوء بعض "المثقفين" إلى الرطانة المعتادة في القول إنه مجتمع لا يستحقّ حتّى الدفاع عنه والخروج من أجله في صيف لاهب!
إلا أنّ معاينة الواقع الاجتماعي الذي أفرز هذا التجاوب الضئيل تجاه السلطة القضائية، من شأنه أن يقدّم تحليلاً مغايراً لهذه الآراء العدميّة والجاهزة، إذ إنه يكشف تطور علاقة العراقيين بالسلطة وإيمانهم بـ "الدولة" وشكل النظام الذي يحكمهم وفاعليته، ويكشف أيضاً جهل العراقيين، أو تجهيلهم، بمسالك آليات الحكم الذي يسيّر شؤون حياتهم ومستقبلهم، وعلى رأسها السلطة القضائية كسلطة يحتكم إليها المجتمع للذود بها من تقصير الدولة أو تعدّي الأفراد على بعضهم. بيد أنّه أوضح كذلك، وبشكل جلي، استغفال الأحزاب السياسيّة للعراقيين بنموذج "الدولة الديموقراطية الوليدة" التي يتغنّى بها جميعهم، والتي من أركانها الأساسية سيادة القانون، والشخص الذي تظاهر الشبّان العراقيون ضدّه، هو المُمسك بميزان هذا القانون.
لكن مَن يطبّق القانون، وهو يُعدُّ الركيزة الأساسية للدولة، في ظلِّ أحزاب سياسيّة ومجموعات مُسلّحة تؤسس قوانينها، ولديها محاكمها الشرعيّة التي تفصل بين الناس؟ وهناك أيضاً انتهاك آخر للقانون يجري بالتواطؤ بين السلطة القضائية والأحزاب المتنفّذّة بالسلطة، وهناك أيضاً المجتمع الذي تسيّره الأعراف والتقاليد ومنطق القوّة..
والحال، فإن ديباجة الدستور العراقي، في خطابها المضمَر، تبيّن أن التعامل مع سكّان البلاد، منذ تأسيس "العمليّة السياسية" في نيسان / أبريل 2003، كان يسير وفق منطق "دعوة" المجتمع لـ "الزحف" إلى الشيء، لا القيام بفعله أو المشاركة فيه عن قناعة، كونه قراراً يحدد له مصائره. فالديباجة تشير إلى أنّ العراقيين استجابوا لدعوة "قِياداتِنَا الدِينيةِ وَقِوانَا الوَطَنِيةِ وَإصْرَارِ مَراجِعنا العظام وزُعمائنا وَسِياسِيينَا" من أجل "زحفنا" إلى صناديق الاقتراع والتصويت عليه لتسيير شؤون البلاد. وعلى الرغم من أن هذه الديباجة، المليئة بالإنشاء، قد لا تكشف الكثير من منطق تعامل السلطة مع العراقيين، إلا أن الأحداث التي تلت تمريرها، إلى جانب الدستور، تؤكد بشكل واضح أن القانون لا يعني شيئاً في عراق اليوم، كما في عراق الأمس، سوى واحد من استثمارات الأحزاب للبقاء في مناصبها، والتحايل من أجل الإفلات منه في كلِّ مرّة تُثار فيها قضيّة خرق في الشارع العراقي ضد سياسي أو حزب بعينه.
القانون سياسياً!
لا يُمكن حصر الأحداث الكثيرة التي أدّت إلى تواطؤ القضاء مع السلطة الحاكمة وقادت، والحال هذه، إلى تخريب بُنية النظام، الذي هو أساساً فضفاض وصُنع له دستور بمواد مُلغّمة على عُجالة، وتضاربت فيه قوانين الحاكم المدني الأميركي للعراق وقتها، بول بريمر، مع القوانين التي شرّعتها الأحزاب العراقية، مضافاً إليها قوانين النظام السابق. وبُنية الخراب في النظام السياسي صارت أرضيّة مناسبة استغلّتها الأحزاب السياسية لتمرير قوانين وإعادة تأويل أخرى لتتماشى مع آلية النهب القائمة لموارد الدولة، فضلاً عن التمسّك بالسلطة. وكان رئيس مجلس الوزراء السابق نوري المالكي، بحكم بقائه في منصبه لنحو ثمانية أعوام، أكثر من استغلّ هذا الأمر، إذ هيأ أجواءً وظروفاً لحزبه، على رأسها العودة إلى منصب رئيس مجلس الوزراء لثلاث مرّات، عن استطاعته تجاوز القانون في كل انتخابات دون أن يُحاسَب، وذلك من خلال إغراء المواطنين بتوزيع قطع الأراضي والوظائف عليهم، وهي صفقات زبائنية تزامنت تماماً مع فترات الصمت الانتخابي ولم يُحرِّك القضاء ساكناً تجاهها.
كما أن القضاء "أَوّل" في عام 2010 قضيّة الكتلة الأكبر التي عليها تشكيل الحكومة بجعلها المؤتلَفة داخل البرلمان وليس تلك الفائزة من خلال صناديق الاقتراع، وهو ما عبَّد الطريق أمام مشاركة جميع الأحزاب في السلطة باتفاق نفعيٍّ بينها. وأرسى هذا التأويل مبدأ المحاصصة الطائفية وجعل مواجهتها هباء وقبض ريح. وشمل التلاعب في تأويل القوانين من قبل المحكمة الاتحادية (وهي بلا قانون إلى الآن) بأن تنزع عن النظام البرلماني الذي بُني عليه عراق ما بعد الكولونيالية سلطة اقتراح أو تقديم مشاريع قوانين، إذ تمّ حصر هذه المهمّة بيد مجلس الوزراء. يُضاف إلى ذلك حصر الإشراف على الهيئات المُستقلة وتسييرها من خلال مجلس الوزراء وليس البرلمان.
وإذا كان كل هذا التواطؤ بين القضاء والسلطة يندرج في خانة تأويل القوانين، فإن قضايا أخرى كانت كفيلة بأن تحوِّل القانون جزءاً من السلطة، وليس حكَم فصل بين الناس والسلطة، بل صيّرته مُحافظاً على فسادها ووجودها مهما اقترفت، حيث سيمرُّ على نتائج تحقيق البرلمان بقضيّة سقوط الموصل نحو عام، وبالرغم من أن اللجان البرلمانية طالبت بأن يُحقّق القضاء مع أكثر من 30 شخصيّة عسكرية وسياسية، باعتبار أنّها وجدت إهمال وتواطؤ من قبل بعضها في دخول "داعش" إلى المدينة. إلا أن شيئاً لم يحصل.. وكأن شيئاً لم يكن.
بالمقابل، حوّل القضاء البلاد أمام المسؤولين إلى جنّة للإفلات من العقاب، إذ تتحوّل قضايا "الفساد" إلى "الإهمال"، وهو ما خفّض الأحكام على مسؤولين متورطين بتهريب أموال وإنشاء مشاريع وهميّة إلى الحبس لأشهر (هناك محبس في وسط بغداد مخصص لهؤلاء يستقبلون فيه ضيوفهم على مدار الساعة)، وهذا إذا ما تمّ أساساً سجنهم، حيث تحول الصفقات السياسية بين الأحزاب دون محاسبة هؤلاء.
إزاء هذا الواقع، لا يبدو مستغرباً أن عدد القضاة في جميع محاكم العراق نحو 1585 قاضياً يديرون شؤون بلد تعمّه الفوضى وهو الذي يعاني تضخّماً بيروقراطياً في جميع الوظائف. إلا أن هذا الأمر يعني أن القضاء والقانون تحوّلا جزءاً من أزمة "الدولة".
القانون اجتماعياً
نتيجة تدّني منطق الدولة وتواطؤ القانون مع السلطة، لا بدَّ للأعراف الاجتماعية أن تحلّ بدلاً عن سلطة القانون. إلا أنّ هناك ما يُشير إلى صعود السلطة الدينية أيضاً لتشكّل تعاضداً جديداً بين الأعراف العشائرية والشرائع الدينية، وليؤسّسا بذلك منظومة معزولة عن الدولة لا تلجأ في حلِّ خلافاتها أو تسيير حياتها إلى القانون بوصفه قاعدة تحكم سلوك الأفراد ضمن الجماعة.
ولا ينطبق الاغتراب عن القانون على الريف فحسب، وإنما ينسحب إلى العاصمة بغداد أيضاً، إذ تبدو واحدة من أكثر المُدن التي تلجأ إلى الأعراف والشرائع الدينية لتنظيم حياتها. سجّل العراق في عام 2015 نحو 27 ألف حالة زواج خارج نطاق المحاكم، وسجّلت بغداد وحدها أكثر من 5 آلاف حالة، ولا تشمل هذه الإحصائية إقليم كردستان. علاوة على ذلك، أخذت العشائر تتدخّل في الشؤون الماليّة لأفرادها، بعد أن كان لها سُنن في العقود السابقة تمنعها من التدخّل في حل الخلافات التجارية، وهذا الوضع حوّل الصكوك التي بلا رصيد إلى أمرٍ لا يستدعي الخوف أو السجن بالقدر الذي يعني وثيقة أمام العشائر وليس القانون، لإثبات أحقيّة الدائن والمَدين. وفي كل هذه النزاعات يستعين شيخ العشيرة بأحّد أبناء سلالة "النبي" من "السادة" من أجل تهدئة الأجواء في الجلسات العشائرية المتوتّرة، وليحث الأخير، عبر حكايات عن الأولياء الصالحين، إلى الوصول لاتفاق لحل النزاع.
في مقابل كل هذا هل يمكن اعتبار القضاء حاضراً في المجتمع العراقي اليوم؟ وأيّ إسقاطات يترك انسحاب القانون والجهاز القضائي من مجتمع يطالب بتعديل شخوص وزارية لتمكين سلطته التنفيذية، لكن من دون أن يلتفت إلى السلطة التي من شأنها أن تكون كابحاً في وجه فساد وكساد باقي السلطات؟ بكلمات أخرى، لماذا لا يرى المجتمع انحسار القضاء من حياته كعضو آخر تآكل بفعل فساد السلطة في العراق؟ إذا ما كان احتلال العراق في نيسان /ابريل عام 2003 ليس إلا إرساءً لأسس الديموقراطية وتنويره بأهم منابعها، أي سلطة القانون، فكيف يمكن للعراق اليوم الذي يحاول أن يلفظ المحاصصة - وذلك نبذاً لإرث الاحتلال بالمقام الأول - ألّا يعيد تصويب المجتمع، ساسة وعامة، نحو القانون والقضاء كوجهة أساسية للتخلص من الفساد؟