سقوط ''الخضراء'' في بغداد

بغض النّظر عن دلالاته السياسية، فإنّ مشهد اقتحام "المنطقة الخضراء" في 30 نيسان /أبريل كان ثقيلاً برمزيته. هنا، رقعة في وسط بغداد يقدِّر البعض مساحتها بـ10 كلم مربع (من 4555 كلم مربع هي مساحة بغداد)، يقع فيها مبنى البرلمان والمجمّع الحكومي وقصر رئيس الوزراء وكبرى السفارات الأجنبية وبيوت كبار المسؤولين العراقيين.
2016-05-12

حارث حسن

باحث من العراق


شارك
محمود العبيدي - العراق

بغض النّظر عن دلالاته السياسية، فإنّ مشهد اقتحام "المنطقة الخضراء" في 30 نيسان /أبريل كان ثقيلاً برمزيته. هنا، رقعة في وسط بغداد يقدِّر البعض مساحتها بـ10 كلم مربع (من 4555 كلم مربع هي مساحة بغداد)، يقع فيها مبنى البرلمان والمجمّع الحكومي وقصر رئيس الوزراء وكبرى السفارات الأجنبية وبيوت كبار المسؤولين العراقيين. وهي ظلّت لسنوات عديدة مكاناً معزولاً لا يستطيع أحدٌ أن يدخله أو يخرج منه إلّا ببطاقة خاصة، وبعد عبور نقاط تفتيش واحترازات أمنيّة مشدّدة. هي المنطقة الأكثر أمناً في بغداد، حيث كانت السّيّارات المفخخة تنفجر بالقرب من جدرانها أو في الشوارع المحيطة بها، لكن القاطنين داخلها كانوا يكتفون بسماع أصوات تلك الانفجارات دون أن تطالهم شظاياها.

العبور إلى "الخضراء"

في الأصل، كانت المنطقة الخضراء حاجة أمنية لضمان أمن السلطات والمؤسّسات الرئيسية في الدولة من المخاطر التي تشهدها بشكل اعتيادي "المنطقة الحمراء" التي تمثّل كلّ ما تبقى من بغداد. ومثّلت المنطقة الخضراء تجريباً للتفكير النيوليبرالي الذي يفترض أن بإمكان المؤسسات الحكومية العمل بمعزل عن ضغوط واحتياجات محيطها الاجتماعي. لكن ما بدأ كترتيب أمني، تحوّل تدريجياً إلى سياجٍ كبير يفصل بين عالمين: عالم الاستقرار والبحبوحة، حيث تعيش طبقة سياسية ازدادت ترفاً في زمن قياسي، ومعظم رموزها من المنفيين السابقين من عراق ما قبل 2003 وأقاربهم، وآخرين من المغامرين المحظوظين.. وعالم ما وراء السياج، حيث تعيش مجموعات بشرية منهَكة ومفكَّكة وغير آمنة بفعل سنوات طويلة من غياب الإحساس بالأمن والإفقار الموروث، بدءاً من حصار ما قبل 2003، وكل التوجهات والسياسات التي جاءت بعد ذلك، والعشوائية الحضرية وغياب الاستقرار الاجتماعي. تدريجياً، تحولت العزلة الأمنية والسياسية إلى فجوة نفسية، وصار الآخر الساكن وراء الجدران رمزاً تفرغ نحوه كل نوازع الغضب لدى الأقل حظاً، التواقين للانتقام من حرمانهم، الطّامحين بحياة أفضل، والباحثين عن كبش فداء.
ظلت فكرة عبور جدران "الخضراء" تداعب الكثير من سكان المنطقة الحمراء الذين سمعوا كلاماً يشبه الأساطير عمّا يحدث خلف تلك الجدران، عن عالم آخر كان يمكن أن يكون عالمهم هم، لو لم يكن سكّان ما وراء الجدران أنانيين و "فاسدين" ولا يريدون تقاسم بحبوحتهم مع "الشعب". هذا ما يمكن تلمسه بعد التجوال في شوارع "الخضراء" غير المزدحمة، التعرّف على طقوسها والسلوكيات التي تطورت داخلها، وما خلقته العزلة الفيزيائية من فجوة نفسية مع أهل المنطقة الحمراء، فجوة أكملت تلك التي كانت تستحوذ أصلاً على معارضي المنفى السّابقين الذين يمثلون كبار الفاعلين في الطبقة السياسية العراقية. ثم بعد ذلك، عبور الخضراء إلى خارجها، حيث تنتشر جيوب اللّادولة، وحيث تقول لك صور "السيد" الموزعة هنا وهناك، مَن هم سادة "الحمراء".
صار اقتحام الخضراء فجأة في متناول اليد نتيجة الانقسام الشديد داخل طبقة سياسيّة اعتاشت طويلاً على ريع متآكل وبنت مجدها على بحبوحة نفطية زائلة، وبسبب تراكم ونمو النزعة الاحتجاجية مع تصاعد الوعي، ليس فقط بالفجوة بين الخضراء والحمراء، بل وأيضاً بإصرار أهل الخضراء على احتكار السيطرة على ما تبقى من الريع، في بلد تتشكل علاقاته السياسية والاقتصادية في معظمها حول توزيع عوائد النفط. كل ما كان عابرو السياج بانتظاره هو أمر "السيد" الذي جاء في اليوم نفسه، بخطاب احتوى على شيفرة الانطلاق.

"السيد": الكاريزما والإصلاح

لماذا كان جمهور الصدريين هم أول من عبر جدران الخضراء، رغم أن أعضاء كتلتهم البرلمانية ووزراءهم السابقين كانوا أصلاً جزءاً من طبقة الخضراء السياسية؟
سوسيولوجياً، نحن أمام شريحة سكانية تؤلف اليوم ثلث سكان بغداد على أقل تقدير، أغلب عوائلها ينتمون إلى الطّبقات الفقيرة، ومعظم تلك العوائل تنحدر من أصول مناطقية وعشائرية جنوبية، وتتمركز في ضواحي كبرى من بغداد كانت في الأصل أحزمة من العشوائيات. ويمثّل الشباب الفئة العمرية الأكبر بينهم، ومعظمهم إمّا عاطلٌ عن العمل أو يعمل في السوق غير الرسمية التي تمثل أكبر قطاع اقتصادي في المدينة العراقية، وبعض منهم تعلموا ودرسوا في الجامعات ولديهم طموح بتحسين مواقعهم الاجتماعية. حتى الآن، تنطبق تلك الأوصاف على غالبية سكان العراق، والشريحة السكانية الأكبر في معظم الدول العربية غير البترولية، وتنطبق كثيراً على وصف السوسيولوجي في جامعة إلينويز، آصف بيات، للشريحة السكانية المتشظاة وغير المنظمة سياسياً والتي تقضم بشكل بطيء حصة أكبر من المدينة، عبر ما يُسمّيه بـ "التجاوز التدريجي". لكنّ أوجه التشابه تتوقف عندما نصل إلى عامل حاسم اسمه بيت الصدر، وبتحديد أكثر، مقتدى الصدر.
عرفت تلك الشريحة السّكانية أول أشكال التنظيم كحركة اجتماعية - سياسية في ظل صعود نجم محمد محمد صادق الصدر، والد مقتدى، الذي في سياق استيراثه للنهج الديني الحركي ذي الملامح الراديكالية الذي أطّره فكرياً منذ السيتينيات محمد باقر الصدر، وفي سياق مواجهته مع المرجعية الدينية التقليدية وغير الحركية والخاضعة لنفوذ المراجع الإيرانيين، عبّأ تلك الشرائح الأكثر فقراً وصار يُخاطبهم بشكل مباشر ويتعاطى مع همومهم ورغبتهم الجارفة بالحصول على "الاعتراف". ورث مقتدى الصدر عن أبيه تلك الحركة المشبعة بمقولات سياسية راديكالية، وبرغبة تغيير الوضع القائم، وبجنوحٍ نحو تحسين مواقعها الاجتماعية وتحويل قوّتها الديموغرافية قوّة سياسية. لذلك كانت الحركة الصّدرية في أصلها حركة احتجاج، لكنه احتجاج تديره تضامنات محلّية خاصة. ورغم مضمونها الطبقي، إلاّ أنها تتحدث بلغة تمزج الديني بالدنيوي، وتطرح نفسها بما يشبه "الجماعة" القائمة بذاتها، بمروياتها وطقوسها وتصوراتها المتّحدة على طاعة الزعامة الكاريزمية.
دون بيت الصدر، كانت تلك الشريحة تشبه إلى حدٍّ كبير حالة "اللّاحركات الاجتماعية" التي أشار إليها آصف بيات في وصفه لواقع القطاعات الديموغرافية الكبيرة غير المنظمة سياسياً التي شكلت مشهد المدينة العربية عند مشارف نهايات القرن العشرين. لكنّ الصدر هو مَن يبعث في تلك الشريحة ــ بالكاريزما التي ورثها من عائلته ــ قدرة التعبير عن نفسها سياسياً بطريقة منظمة، عبر التجمهر، وعبر شبكات الإدارة الذاتية المحلية، وعبر الميليشيا المسلحة.

الصدر والاحتجاج

ظل الصدر يراوح بين نزعة الاحتجاج والتمرد التي تتصف بها قاعدته الاجتماعية، وبين الاعتدال والواقعية بعد مواجهات عسكرية وسياسية مع الاحتلال وحكومتي علاوي والمالكي.عاش الصدر صراعاً بين نسقين قيميين، الأوّل يدفعه إلى التمرد واستدعاء النزعة الثورية والمقولات الجذرية المؤسِّسة للتيار الصدري الحركي، وآخر يدفعه إلى الانسجام مع الواقع والقبول بمقعد في الطاولة المستديرة التي لطالما دعا إليها المجلس الأعلى الّذي تقوده عائلة الحكيم، غريمة بيت الصدر، والتي يرى فيها البعض ممثلاً سياسياً للأرستقراطية الدينية الشيعية، والتي تحوّلت شريكاً للصّدر زمن تقارب العائلتين لمواجهة نفوذ المالكي.
مؤخّراً، ومع تنامي النزعة الاحتجاجية في الشّارع الشيعي، وتصاعد الفجوة النفسية بين المنطقة الخضراء ومحيطها الأحمر، ومع تراجع الموارد واحتدام التنافس داخل (وبين) الشبكات التوزيعية المنظِّمة لعلاقة السلطة بالمال في العراق، وجد الصدر أنّ مقعداً واحداً في الطّاولة المستديرة مع بقيّة الزعماء السياسيين لن يكون كافياً لاستيعاب الجَيَشَان الاحتجاجي في الشارع الذي يعده بسلطة من نوع آخر غير الوزارات والمقاعد البرلمانية، وهو الوحيد القادر على إخراج عشرات الآلاف إلى الشّارع وإعادتهم منه ليلاً. كان ذلك المقعد صغيراً جداً أمام ما استشعره الصدر من تحدٍ تمثله ميزانية متآكلة، وأيضاً من فرصة للعودة إلى لغة الثورة، المكان الذي يرتاح فيه ويجد أنّه أقرب لقابلياته ولكاريزما أسرته من الجلوس مع "سياسيين" (الشحنة السلبية لكلمة "سياسي" في العراق تصاعدت كثيراً في السنوات الأخيرة)، في وقت يزداد فيه الشّارع الشيعي غير الصدري اقتراباً من روح "الانتفاضة".
كاريزما الصدر، هي ما يُخرج جمهوره الكبير إلى الشّارع ليترجم خروجه في ما بعد إلى قوّة سياسية، بينما يفتقر الآخرون لتلك القوة، لأن عوالم الخضراء قولبت سلوكياتهم وعلّمتهم أنّ "المال السياسي" هو الطريق الأسهل لمراكمة السّلطة، حيث تصبح رشوة الجمهور طريقتهم لصناعة قواعد الدّعم الانتخابية المؤقتة التي تترجم مقاعدَ في البرلمان، ثم بعد ذلك يحتمون بشرعيتهم البرلمانية لمواجهة "شوارعية" الاحتجاج.
الشارع في مواجهة الدّستور، الكاريزما بمواجهة المال السياسي، الشعبوية بمواجهة النخبوية. تلك هي الثّنائيات التي أعيد إنتاجها لتلتقي مع ثنائية الخضراء ــ الحمراء. لا تحمل تلك الثنائيات حلّاً حقيقيّاً، لكنّها تمارس تزييفاً مستمرّاً للواقع ولتحدياته الكبرى. فلا طقوس الخضراء بقادرة اليوم على فهم كيفية التعامل مع السّخط الاجتماعي المتفاقم والذي يعد بالمزيد مع صيف حار آخر وإفلاس محتمَل، ولا كاريزما المنقذ ولغته الشعبوية بقادرة على التنبّؤ بلحظة ما بعد "إسقاط الفاسدين". يتحدّث الصّدر في خطابه عن "الثورة" و "الانتفاضة" لينسجم مع المشاعر الشعبيّة، لكنّه خطاب يخلو من خطّة واضحة ويحفل بـ "قدريّات" قد تغفل عن إدراك خطورة الحلّ الراديكالي (رغم أنّ الصّدر أوضح أنّه ليس بصدد الذهاب لتلك الحلول على مستوى الفعل، وإنْ كان يبقيها كممكن على مستوى الخطاب).
في المقابل، ظلّت علاقة نخبة الخضراء بالمنطقة الحمراء موسمية، غايتها تحويل الرصيد الديموغرافي للحمراء إلى مقاعد انتخابية ووزارية لأهل الخضراء، وهي علاقة ركّبت سلوك القوى السياسية وجعلتها غير مدركة لخطورة الوضع ولا لكيفية الخروج منه. كان الانفصال المتزايد بين تلك النخبة والنَّاس سببا في تحول المزاج الشعبي بشكل حاد ضد النخبة. ومع غياب تنظيمات طوعية حديثة ومنظَّمة قادرة على تعبئة السخط الاجتماعي وتوجيهه نحو تغيير العملية السياسية من الداخل، فإنّ الرّوابط التقليدية المشكَّلة على أساس الدين والكاريزما تملأ الفراغ. وهذا ما سهّل تدريجياً للشعبوية الصدرية أن تطرح نفسها كقائدة للاحتجاج.
بعد أسبوعٍ من اقتحام الخضراء، نصبت القوّات الأمنية حواجز إسمنتية ضخمة على بعض جسور بغداد، إشارة إلى أن "أهل الخضراء" قرروا الركون إلى الإحساس الزائف بالأمن الذي تمنحهم إياه الجدران والعزلة المتأتية معها. لكن ما لم تتم مغادرة "ثقافة" المنطقة الخضراء نحو إجراءات حقيقية لفتح النظام السياسي ولقبول صعود قوى جديدة تحمل الهمّ الاجتماعي وتجدد شرعية النّظام المتآكلة، ابتداءً عبر تغيير قواعد اللعبة الانتخابية، ومن ثَمّ قبول الخسارات المؤلمة للقوى المهيمنة، فإنّ إجراءات ضيقة الأفق من قبيل بناء مزيد من الجدران بين الخضراء والحمراء، ستدفع إلى مزيد من العزلة في الأولى، ومزيد من الراديكالية في الثانية، وإلى تقريب لحظة الانفجار.


وسوم: العدد 192

مقالات من العراق

فتاة كقصبة ال"بامبو"

فؤاد الحسن 2024-09-29

"فاطمة" لم تستطع نيل موتها، على الرغم من دنو الموت، وتنفسه الثقيل الملتصق بتراب الأرض. فقد اختُطِفت مِن قِبل عناصر تنظيم "داعش"، على الرغم من سنواتها التسع، التي لم تنضج...

للكاتب نفسه

عن فهم "داعش" والراديكالية

حارث حسن 2016-06-23

بعد كل هجوم مفاجئ ينفذه تنظيم "داعش" (الذي يطلق على نفسه اسم "الدولة الإسلامية")، يسري في الجسدين الإعلامي والأكاديمي نزوع طاغٍ نحو محاولة فهم هذا التنظيم "الغرائبي"، القادم بيوتوبيا الخلافة...

عن الفساد والفاسدين في العراق..

حارث حسن 2016-04-07

"كل واحد منا له دور في الفساد، نحن في لجنة النزاهة نفتح ملفات ويأتون ويعطوننا رشوة فنغلقها"، تلك كانت كلمات النائب المثير للجدل في البرلمان العراقي، مشعان الجبوري، في حوار...