لم تكن نكبة 1948 كارثة سياسية واجتماعية وإنسانية فقط، مع كلّ ما حملتها تلك الأبعاد من مآس ما يزال يعيش تبعاتها يومياً الشّعب الفلسطيني تحت الاحتلال وفي الشتات. مقابل ما سبّبته النّكبة وقيام دولة إسرائيل على 78 في المئة من مساحة فلسطين، من ضياع ودمار وتشرذم في الأرض والشعب والكيان السياسي الوطني الفلسطيني، فإنّ ما لحق بالاقتصاد الفلسطيني الناشئ من تدمير لمركزه الصّناعي والتجاري وتفتيت لقاعدته الزراعية وتشتيت لقواه البشرية كان بمثابة هزيمة للتطلعات التنموية التي حملتها النخب الاقتصادية الفلسطينية آنذاك. كما شكّلت النكبة انتصاراً ساحقاً للقوة المالية والمؤسسية والإنتاجية للاقتصاد اليهودي الصهيوني، الذي ما زال يتمتع بغنائمه من خلال التحكّم بالموارد والمقدرات الطبيعية والبشرية والمالية الفلسطينية. مقابل ذلك، ربما لم يؤدّ ما يزيد عن خمسين عاماً من نضال التحرر الوطني الفلسطيني بكافة وسائله، المسلحة والجماهيرية والسياسية والديبلوماسية..، إلى بلوغ النتائج الملموسة المرجوة، لكنّه لا شك استطاع تثبيت الهويّة والحقوق الوطنية عالمياً، وإبقاء نصف الشعب الفلسطيني داخل حدود فلسطين التاريخية. وهذا ليس إنجازاً يستهان به.
بالأرقام
للوقوف عند حقيقة الخسائر الاقتصادية، وفداحتها، التي انطوى عليها قرن من الاستعمار الاستيطاني الصهيوني وما يقرب من 70 عاماً من الاحتلال الجزئي ثم الكامل لأرض فلسطين، يكفي إبراز بعض الأرقام الأساسية حول حجم الفجوة بين الاقتصاد الإسرائيلي المتوسّع باستمرار وأشلاء الاقتصاد العربي – الذي كان قائماً قبل 1948 – المنتشرة اليوم بين المناطق العربية داخل إسرائيل والقدس والضفة المحتلتين وغزة المحاصرة. في عام 1944، شكّل اليهود 32 في المئة من سكان فلسطين البالغ عددهم وقتها 1.7 مليون، بينما كان الاقتصاد اليهودي ينتج 49 في المئة من الدّخل القومي الإجمالي. بالتالي كان معدل الدّخل القومي للفرد اليهودي ضعف قيمته للفرد العربي. مثل هذه الفجوة ربما كانت طبيعيّة عشية النكبة، بعد مضي أول نصف قرن من المواجهة بين اقتصاد استيطاني قادم من خلفية أوروبية صناعية واقتصاد ريفي ما بعد إقطاعي. بعد طرد 700 ألف فلسطيني عام 1948، ومئات الآلاف الآخرين مع هزيمة 1967، حقق المشروع الصهيوني التفوّق الديموغرافي في فلسطين، وكذلك السيطرة الاقتصاديّة الشّاملة في أرض فلسطين.
عندما نجمع كلّ ما ينتجه الاقتصاد العربي في الأراضي المحتلة وداخل إسرائيل مقابل ما ينتجه الاقتصاد الإسرائيلي اليهودي بحلول عام 2014، يظهر أنّه رغم بلوغ التّوازن السّكاني تقريبا (6.4 مليون يهودي مقابل 6.1 مليون عربي)، فما زالت الفجوة الاقتصادية كبيرة. إذ بات الدّخل القومي الإجمالي الإسرائيلي يفوق الدخل القومي الفلسطيني للأرض المحتلة عام 1967 بحوالي 18 ضعفاً. ويفوق الاقتصاد اليهودي داخل إسرائيل 12 ضعفاً حجم الاقتصاد العربي داخلها. أمّا الفجوة بين معدّل الدخل القومي الإجمالي للفرد اليهودي والعربي الفلسطيني (باحتساب جميع الفلسطينيين في الأرض المحتلّة في 1967 وداخل إسرائيل) فقد زادت خلال الـ70 سنة الماضية من ضعفين إلى 4.5 أضعاف.
السّر هو الطرد!
هذه الهوّة المزمنة والمتّسعة عبر التّاريخ كانت جوهر القوة والسيطرة الإسرائيلية في كل المراحل، وهي ليست، كما يشاع أحيانا، وليدة "إهمال" الدّولة لمواطنيها ولا نتيجة "سوء حوكمة" من قبل السلطة الفلسطينية. ولا هي عبارة عن التّقدم والقدرات "الطبيعية" لليهود القادمين من الغرب الصّناعي مقابل "تخلّف" المجتمع الفلّاحي القبلي الفلسطيني الشرقي. فكما تشهد كتب التاريخ، فإن المكاسب الاقتصادية التي حققتها دولة إسرائيل منذ إقامتها (بل من قبل ذلك) لم تكن ممكنة دون طردها للسّكان الأصليّين واستبدالهم بمستوطنين والاستيلاء على الممتلكات والأرض والمياه والموارد الطبيعية كلّها، ناهيك عن تمويل ألمانيا والولايات المتحدة والجاليات اليهودية العالميّة المتواصل للتنمية الاقتصادية والاجتماعية اليهودية في إسرائيل، على شكل تعويضات ومعونات وتبرعات...إذا احتسب ما جنته دولة إسرائيل من غنائم النكبة فقط، فتقدّر قيمة الممتلكات والعقارات والأراضي الفلسطينية الّتي استولت عليها إسرائيل عام 1948 (دون الخسائر البشرية) بحوالي 290 مليار دولار (بأسعار 2014)، بحسب دراسة مميزة حول الخسائر الفلسطينية جراء النّكبة لعاطف قبرصي وسامي هداوي.
بالإضافة، هناك تقديرات عديدة للكلفة الاقتصادية للاحتلال الطويل والخسائر المتكررة في البنية الإنتاجية جراء المصادرة والهدم والعدوان العسكري وغيرها من التأثيرات الاقتصادية المتواصلة للنكبة. على سبيل المثال لا الحصر، فإن البنك الدولي قدر الكلفة الاقتصادية لسيطرة الاحتلال مباشرة على 60 في المئة من الضفة الغربية (مناطق "ج") بـ 3.4 مليار دولار سنويا، وقدّرت كلٌّ من منظمة الأونكتاد والبنك الدولي خسائر الخزينة الفلسطينية من الإيرادات الضريبيّة التّجارية المسرّبة للخزينة الإسرائيلية بسبب العمل باتفاقية باريس الاقتصادية بما مجموعه أكثر من نصف مليار دولار سنويا. مقابل هذه التقديرات للخسائر الفلسطينية، عادة ما تكون هناك استفادة أو مكاسب إسرائيلية، إما مالية مباشِرة أو اقتصادية غير مباشِرة، أو أمنية/سياسية. في كلّ الأحوال، من شأن إبقاء الفلسطيني بأضعف وأصعب الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية إشغاله بملاحقة لقمة العيش بدلاً من مطاردة المحتل. هذه السّياسة الإسرائيلية بتوظيف مختلف أشكال الاستغلال أو الاستخراج للموارد الفلسطينية (الطبيعية والبشرية والمالية)، وجعل ذلك "مصفوفة سيطرة"، تؤكّد أنّ عمليّة الاستعمار الاستيطاني والتحكّم بالشّعوب المحتلّة "ليست بمثابة علم الذرة" كما يقال، بل تتبع منهجية، وهي بسيطة.
مقابل الوزن الإسرائيلي الثّقيل في ميزان الصراع الاقتصادي مع الاستعمار، فإنّ السّجل النّضالي الفلسطيني ليس حافلا بالنجاحات التخطيطية أو السياساتية أو الاستثمارية. لكنّ المشهد الفلسطيني طوال مراحل الصّراع لم يخلُ من مساعٍ لبلورة رؤى تنموية، أو لإقامة حملات مقاطعة للاقتصاد الإسرائيلي، أو بناء قواعد إنتاجية ثورية، أو إطلاق خطط استثمارية كبرى، وغيرها من الجهود الجزئيّة والعشوائية، وأحياناً غير الواقعيّة، غالباً كردّة فعل وليس كمبادرة مخطَّطة ومموَّلة ومحسوبة التكلفة والنتائج.
الرّؤية
لم تفتقر الحركة الوطنيّة أبداً لرؤية تنموية مناسبة لحجم المواجهة مع العدو، حيث أصدرت "الجمعية الفلسطينية لمقاومة الصهيونية"، عام 1919، دراسة رائدة شاركت بإعدادها نخبة من المفكرين القوميين بعنوان "فلسطين وتجديد حياتها"، احتوت على فصول عديدة حول مختلف القطاعات والتحديات الاقتصادية والاجتماعية الّتي كانت تواجه الشعب العربيّ الفلسطينيّ في أوّل أيّام صراعه مع الاستعمار البريطاني والحركة الصهيونية القادمة من الغرب. بعد 70 عاماً على ذلك، وفي مسار التراث الفكري الوطني التحرّري نفسه، أصدرت منظمة التحرير الفلسطينية عام 1993 "البرنامج الوطني لإنماء الاقتصاد الفلسطيني" الذي أعدّه عشرات الخبراء الفلسطينيين بقيادة المفكّر الاقتصادي الكبير د. يوسف صائغ. شكّل البرنامج نظرة علميّة سياسية تنمويّة شاملة لاقتصاد الدولة الفلسطينية التي كان يعتقد العديد في حينه أنّها "على مرمى حجر"، كما كان يردّد الرئيس الراحل ياسر عرفات.
كما انطوت تجربة "مؤسسة صامد" التي شكّلت النّواة الإنتاجية للثورة الفلسطينيّة في لبنان لغاية 1982، على قيم مجتمعية ونماذج شبه اشتراكية لدور فعّال "للدّولة" في العملية الاقتصادية المرتبطة بعمل اجتماعي وبرنامج وطني نضالي. واستطاعت السلطة الفلسطينية، حتى في سياق الصلاحيات المحدودة الممنوحة لها ضمن أطر أوسلو وباريس، انتهاج سياسة تجارية "ذاتية" حققت إنجازات ملفتة، وذلك بتخفيف هيمنة الإنتاج الإسرائيلي على قطاع التجارة الخارجية الفلسطينية، من كونه مصدِّراً لـ 70 في المئة من المنتجات الفلسطينية قبل 10 سنوات إلى نسبة تقدر بـ50 في المئة فقط في 2015 (مع بقاء التحكّم الإسرائيلي بانسياب كامل التجارة الفلسطينية العابرة للموانئ والمعابر الإسرائيلية).
بالتالي، فإن التحكم الاقتصادي الإسرائيلي ليس مطلقاً أو غير قابل للانحسار، وأدوات مواجهة إسرائيل لم تنْفذ بعد. كما أن التشابك الاقتصادي والتجاري المتنامي بين الجزء العربي في إسرائيل والشعب الفلسطيني في الضفة الغربية أصبح ظاهرة لا رجعة فيها، وتنبئ بتكوين كتل اقتصادية ومصالح مالية مشتركة بين مختلف أجزاء الاقتصاد العربي في فلسطين، و "استراتيجيات التكييف" التي يظهرها اقتصاد مدينة القدس العربية المحتلة للإبقاء على علاقته العضوية بمحيطه الفلسطيني في الضفة الغربية، وإصرار الصمود الذي يحافظ على فلسطينية مناطق الأغوار المحتلة رغم تزايد عدد وكثافة المستعمرات الإسرائيلية فيها، تعتبر مجتمِعة عناصر تدعو للأمل وتضيء "النفق المظلم" الذي دخلت فيه الحركة الوطنية الفلسطينية المهزومة رسمياً، والمنقسمة جغرافياً والمستهلَكة عقائدياً.
في أواخر ثمانينات القرن الماضي، كٌلفتُ من قبل عدة مؤسسات فلسطينية بإعداد سلسلة أوراق استشارية اقتصادية حول آفاق تعبئة الموارد الاقتصادية العربية في إسرائيل في سياق إستراتيجية لتعزيز انسجام ووحدة المناطق العربية أمام سياسات تهويد الجليل وتمييز الدولة المنهجي ضد المواطنين العرب واحتياجاتهم وحقوقهم الاجتماعية والاقتصادية. من أبرز التوصيات "لصنّاع القرار" الفلسطينيين حينذاك كان ــ وما زال ــ أهمّيّة التّعامل التخطيطي والاستثماري مع تلك المناطق والموارد والطاقات الكامنة على أساس أنّها جزءٌ لا يتجزأ من اقتصاد عربي فلسطيني واحد في مواجهة اقتصاد يهودي إسرائيلي مهيمن. وبما أنّ برنامج "دولتان لشعبين" لم يعد يظهر اليوم بأنه حلٌ قابل للتحقيق أو مرغوب به كما كان عليه قبل 30 عاماً، فإنّ مثل هذه الرؤية الشّاملة للصراع على الأرض والموارد والحقوق في طول فلسطين وعرضها باتت واقعية بل حتمية، بغض النظر عن التطور أو التراجع الممكن في "العملية السلمية".
إنّ عمليّة حشد الطّاقات والموارد العربيّة في فلسطين تتطلب مساعي عابرة للخط الأخضر الوهمي الذي يفصل بين فلسطيني "إسرائيلي" وفلسطيني "سلطة" وفلسطيني "هوية قدس" وفلسطيني "غزي". فالمخططات الإسرائيلية تتعامل مع كامل خارطة فلسطين من النهر إلى البحر عندما تبنى شبكات الطرقات والكهرباء والاتصالات والاستيطان إلخ.. دون اكتراث "للخط الأخضر" أو "جدار الفصل"، بينما المخطط والمستثمر الفلسطيني مقيد بحدود مناطق "أ" و "ب" والمنتشرة في أرخبيل الأراضي الفلسطينية المحتلة.
انطلاقاً من هكذا استدراك، تبدأ عملية الاسترداد التدريجي للثقل الاقتصادي الفلسطيني في ميزان الصراع مع الاستعمار وتضييق الفجوة الاقتصادية معه، في سياق رؤية فلسطينية اقتصادية نهضوية، بعيدة عن سياسات العقود الماضية الخاطئة والمستندة إلى نظريّات اقتصادية فاشلة وافتراضات سياسية ساذجة. وهنا فقط يكمن سر النجاح الممكن في التّصدي للآثار الاقتصادية والاجتماعية الفتاكة للنكبة التي تتواصل دون أن يكون ذلك حتمياً إذا توفّرت القناعة بأنّه لن نجد نقطة الضعف الإسرائيلية في الأمن أو السياسة أو الديبلوماسية، بل في جوهر قوتها الاقتصادية المتحكّمة بمصير الشعب الفلسطيني. وهذه هي البشرى السارة من فلسطين!