"للتي في يديها الشموع الجديدة..
لديمة تكبر في البيت وفي المدرسة"
تقول قصيدة محمد العبدلله
الفتاة خرجت لتوّها من السجن الإسرائيلي، بعد 85 يوماً من الاعتقال.
في الصورة/ اللوحة، زهور عباد الشمس الكبيرة مضمومة في باقة خجولة بين يدي ديمة الواوي، ابنة الأعوام الـ12. تقول الرواية إنها قبل الورود الصفراء، حملت سكيناً، ودخلت به إلى مستوطنة بنيّة طعن مستوطنين. الطفلة "مجرمة" بعيون الإسرائيليين، وتؤكّد إجرامها نظرتها في الصورة: نظرة منفصلة عن فرح لحظة الحرية، عن وجود الأهل والأصحاب، عن حقيقة أن الشمس مشرقة، عن ملمس باقة الأزهار بين يديها. عيناها الحاملتان ثِقلاً لا يُحتمَل، تسرحان في المساحة القاتمة التي لا نراها نحن الذين لم نعش في زنزانة إسرائيلية بسنّ الثانية عشرة. ويصير صعباً علينا أن نفهم لماذا تبدو الطفلة أكبر من سنها بكثير، لماذا لا تبتسم ابتسامة الأبطال المنتصرين، لماذا لا ترفع شارة النصر، لا تتكلّم، لا تتحرّك.. سمعوها تردد فقط "بدي أروح على الدار".
يخطر لي عند رؤية الصورة جملة واحدة: "قلب الحديقة متورّم تحت الشمس" (من قصيدة لفروغ فرخ زاد). تصير الأغنية "لديمة تكبر في البيت، في المدرسة.. في السجن، وفي فم الغول أيضاً".. وديمة في مخيلة العالم شحيح النظر، تحمل سكيناً بيد وزهر عبّاد الشمس بيد، ولدت في بلاد محتلة، ويُطلب منها كلّ يوم أن تعوِّد عينيها المذهلتين على شكل البلاد تحت الاحتلال.
هناك حاليّاً نحو 450 طفلاً فلسطينياً تحت سن 18 في السجون الإسرائيلية، نحو مئة منهم بين 12 و15 عاماً، وهو أكبر رقم مسجّل من احتجازات الأطفال في دولة الاحتلال.
ليس غريباً أن الأطفال هم أكثر الفئات هشاشة أمام التبعات الوحشية للحروب والاحتلال، نفسياً بالدرجة الأولى. لكن المثير للدهشة هو قدرة الأطفال الفلسطينيين، رغم كل هذا، على صناعة واقع بديل يختارونه بأنفسهم، يدفع عنهم الغرق في البشاعات اليومية المترافقة مع العيش في الاحتلال. قد تكون مدرسة غزّة لتعليم الموسيقى للأطفال نموذجاً، عايشت 3 اعتداءات إسرائيلية وحشية منذ عام 2008 وما زال أطفالها يعزفون آلاتهم.
"كانوا عشر أطفال هون ماتوا.. كان فيه أطفال قاعدين عالأرض استشهدوا هون بهالمكان."
فجوة في الرصيف حيث يشير الصبي ــ الطفل نفسه، أحد تلامذة المدرسة، هكذا بنضج موجع.
"في الحرب، كنت آخد الغيتار وأحاول أنسى، وأحاول أخفف عن عيلتي شوي. أنا بعزف ويارا بتغنّي واخواتنا بينبسطوا"، تقول فتاة، كأنها في سنها تشعر بمسؤولية عن كل من هم حولها، للتخفيف عنهم ومواساتهم ومواساة نفسها، وهي لم تتجاوز الثانية عشرة. أطفال يفكرون بدينامية لمتابعة الحياة في عز الحرب، هم بالضرورة أطفال لا يعرفون سوى الحرب منذ ولِدوا..
"بالقصف كنا نحنا نقعد نلعب (موسيقى) هنا. ما كان حدا قادر يعمل إشي، لأن حرب 2014 كانت طويلة، 51 يوم، وكان الخوف بقلوبنا"، يقول آخر.
المدرسة دُمّر مبناها في العدوان، وانتقلت صفوفها إلى مستشفى قديم. هناك تجد فتاة تحب الكلام والابتسامات الكبيرة، تردد "كلّو سلام، كلّو موسيقى، القاعة كلها موسيقى وترومبيت! بحب هالمكان. بحب هالجوّ. هادا مكاني..".
نستعيد صورة ديمة.. إن قلب الحديقة متورم تحت الشمس، لكن الحديقة رغم هذا، تبقى حديقة.