لم يجر تعديل مدونة الأحوال الشخصية إلا بعد مرور عقود على إعدادها، وذلك على الرغم من المقترحات التي كان يتقدم بها بعض البرلمانيين أحياناً. ويعزى فشل هذه المحاولات إلى رفض إعادة النظر في نصٍّ قانونيّ اعتُبر من اختصاص الملك بصفته أميراً للمؤمنين.
خلال تلك السنوات، عرف المجتمع المغربي تحولات كبيرة مست مكانة المرأة داخل الأسرة وفي المجتمع عموماً. كان أهمها الإقبال على تعليم الفتيات الذي تزايد بشكل تدريجي، ثمّ خروج النساء إلى سوق العمل المأجور، بالإضافة إلى تزايد وتيرة مساهمة النساء في الحياة العامة، سواءً من داخل الأحزاب السياسية أو النقابية أو الجمعوية.
شكّل إصلاح مدونة الأحوال الشّخصية إحدى الرّهانات الأساسيّة للحركة النسائية المغربيّة بمختلف مكوّناتها. إذ ومنذ البدايات الأولى لظهورها، ما انفكت تطرح ضرورة إصلاح بعض بنودها. تمّ التركيز في البداية على الموادّ المتعلّقة بالطّلاق والتّطليق الّذي لوحظ أنّ فيه حيفاً كبيراً ضد النّساء، والصعوبات بل العراقيل الّتي تواجه من ترغبن في الحصول عليه. غير أنّ مطلب الإصلاح سيتّسع فيما بعد ليشمل مختلف بنود المدوّنة. ومرّت معركة الإصلاح هذه بمحطّتين أساسيّتين: أولى سنة 1992، وثانية انطلقت سنة 1999 لتحسم سنة 2004.
حملة المليون توقيع
في آذار/ مارس 1992 نظّم "اتحاد العمل النسائي" حملة أطلق عليها آنذاك "عريضة من أجل جمع مليون توقيع لإصلاح مدونة الأحوال الشخصية". شكّلت هذه المبادرة الميلاد العملي والفعلي للحركة النّسائية المغربية، لأنها كانت المرّة الأولى الّتي ستخرج فيها فكرة إصلاح هذا القانون من ردهات المؤسسة البرلمانية ومن مداولات النواب الذين لم يجرؤوا على الحسم فيها. وهذا التخوف، وأساسه مركزية وضع المرأة الدوني أو التابع في النظام الأبوي السائد، أعطى المدونة طابعاً من القدسية.
أعلنت الحملة الأولى هذه ميلاد حركة ترافعية انتقلت في فعلها من الاحتجاج إلى صياغة البدائل والمقترحات ثم المساءلة. وهي لاقت نجاحاً، وواجهت موجة رفض من طرف بعض فصائل الإسلام السياسي المغربي، لدرجة تكفير بعض وجوهها، وإصدار فتاوى في حقّهن ومطالبة الدّولة بالتّدخّل لإيقاف الحملة. ردّة فعل تيارات الإسلام السياسي (حركة التجديد والإصلاح) استفزّت ردود فعل الحركة الحقوقية فأصدرت بيانات تؤكد من خلالها مواقفها الثابتة فيما يتعلق باحترام الحق في التعبير. تواتر ردود الأفعال المختلفة والتغطية الإعلامية الواسعة التي حظيت بها الحملة، جعل قضية إصلاح المدونة تحتل موقعا ًمهمّاً في النّقاش العام، بل دشّن عهداً جديداً لهذا النقاش إذ أصبح مختلف الفاعلين، سياسيين كانوا أم مدنيين، مجبرين على التعبير عن رأيهم وموقفهم.
السياق الذي انطلقت فيه الحملة من أجل المطالبة بإصلاح المدونة كان يعرف في نفس الآن انطلاق التفاوض بين القصر (الحسن الثاني) ومكونات الكتلة الديموقراطية (حزب الاستقلال، الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، حزب التقدم والاشتراكية ومنظمة العمل الديموقراطي الشعبي) من أجل إصلاح دستوري يوفر شروط التناوب السياسي. ولكن، وإذا كانت بعض مكوّنات الكتلة قد عبّرت عن موقف مساند لضرورة إصلاح المدوّنة، فهناك مكوّنات أخرى لم تكن متحمّسة نهائياً بل اعتبرت أن انطلاق الحملة يشوّش على التفاوض حول إصلاح دستوري هو الأولويّة بنظرها. تمّ الضّغط بمختلف الأشكال على اتّحاد العمل النسائي من أجل إيقاف الحملة، غير أنّ هذه الجمعيّة لم تتردّد في فرض إدماج نقاش القضيّة في إطار النقاش الدائر حول الدستور، إذ استغلّت الفرصة لتقديم مقترحات في جوانب أخرى مختلفة، في إطار النّدوات والأيام الدراسية التي كانت الكتلة تقيمها.
التدخّل الملكي
أدّت التّفاعلات المختلفة حول موضوع إصلاح المدوّنة، الّتي امتدت خلال أكثر من خمسة أشهر، إلى التدخل الملكي. فقد انتهز الملك الحسن الثاني مناسبة الخطاب الذي ألقاه يوم 20 آب/اغسطس 1992، ليتناول الموضوع وليوجه دعوة واضحة للنساء بتقديم مطالبهن إليه. كانت فرصته ليذكر ويؤكد بشكل جلي أن موضوع إصلاح المدونة يدخل في اختصاصه وصلاحياته المحددة دستوريا له. وإذا كان الهدف المباشر من التدخل الملكي هو الحسم في الخلاف الذي نشب بين مختلف الفاعلين ونزْع فتيل اشتداد حرارة الخطاب الذي بدأ ينحو إلى نوع من العنف اللفظي أحياناً، فإن الرسائل السياسية المبطنة التي تم توجيهها من طرف الملك كانت تتوخى عدداً من الأهداف:
- إبراز الجرأة في معالجة قضية ذات حساسية بالنسبة للمجتمع مقارنة بالتردد بل وحتى الرفض الذي عبرت عنه أهم مكونات الكتلة الديموقراطية.
- سحب البساط من تحت أقدام حركة التجديد والإصلاح، كأحد مكونات الإسلام السياسي في موضوع أريد له أن تبقى معالجته من خلال مرجعية ومنهجية دينية.
- رفض التعامل مع المنظمات النسائية كحركة وعدم الاعتراف بالبعد السياسي لمعركتها والتعاطي معها بنوع من الأبوية.
"الخطة الوطنية لإدماج المرأة في التنمية"
انتهت المحطة الأولى تلك بإصلاح جزئي أُسندت مهمته للجنة استشارية مكونة من العلماء، ترأّسها عبد الهادي بوطالب وهو أحد العلماء المعروف بفكره المتنور. غير أن هذا الإصلاح لم ترض عنه مكونات الحركة النسائية، واعتبرت أن النقطة الإيجابية الوحيدة التي تحققت هي رفع طابع القدسية عن القانون، كما أكدت عزمها على الاستمرار في الترافع إلى أن تتحقق أهدافها.
انطلقت مجدّداً حملة ترافعية أخرى في سياق مختلف، طبَعه سياسياً وصول حكومة التناوب بعد أن تمّ التوافق على دستور جديد. حكومة مكوّنة من أحزاب الكتلة الدّيموقراطية والتي سهر الوزير المكلّف فيها بالنهوض بأوضاع المرأة على إعداد استراتيجية وطنية سُميت بالخطة الوطنية لإدماج المرأة وحرص في سيرورة إعدادها على إشراك مكونات الحركة النسائية إلى جانب مختلف القطاعات الحكومية. تضمنت هذه الخطة الحكومية ولأول مرة مقترحات لإصلاح مدونة الأحوال الشخصية. غير أنّه ومرة أخرى سيتم التصدي لهذا المشروع وستقوم قائمة الرافضين لأية مراجعة لنص المدونة بذريعة أنّ الأمر يتعلق بنص ذي مرجعية دينية لا يسمح لغير أهل الاختصاص بالمساس به.
مرّة أخرى قام حزب العدالة والتّنمية الإسلامي بتعبئة كل طاقاته للتعبير عن رفضه لمقترح الإصلاح وجنّد كل فروعه للانخراط في حملة واسعة مقابل التعبئة التي نظمتها الحركة النسائية. تعبئة أعادت إلى الأذهان ما سبق وعاشه المجتمع المغربي في إطار المرحلة الأولى، ولكنْ في سياق مختلف جداً هذه المرة. إذ يتعلق الأمر من جهة بوصول الملك محمد السادس إلى العرش بعد وفاة والده في تموز/ يوليو 1999، ومن جهة أخرى بتقديم مشروع لحكومة تضم في صفوفها أهم مكونات الحركة الديموقراطية واليسارية التي يعتبرها الحزب الإسلامي خصمه الرئيسي، خصوصاً في قضايا المجتمع وفي القلب منها قضية المرأة.
استمر التدافع بين الاتجاهين لقرابة ستة أشهر، شهد خلالها المغرب نقاشاً عمومياً واسعاً سمح لكلا التيارين بتقديم حججه من أجل الدفاع عن رأيه.
التدخل الملكي مرة أخرى
في إطار احتدام السّجال القوي بين هذين التيارين المختلفين، صمتت الحكومة في البداية، إذا استثنينا دفاع الوزير المعني بالمشروع الذي أشرف عليه، ولم تتحرك إلّا بعد أن انتهى السجال بتنظيم مسيرتين شهيرتين (12 آذار/ مارس 2000) ، واحدة بالرباط من طرف الحركة النسائية وحلفائها، والثانية بالدار البيضاء من طرف "الهيئة الوطنية لحماية الأسرة المغربية" التي ضمت أساساً أعضاء العدالة والتنمية، والتحقت بالمسيرة جماعة العدل والإحسان الإسلامية وعدد من أحزاب اليمين. مباشرة بعد ذلك، قامت الحكومة بتشكيل لجنة للنظر في الموضوع، وهي اللجنة التي لم يكتب لها أن تجتمع ولو مرة واحدة. لن يعود الموضوع إلى الواجهة إلا بعد أن استقبل الملك عدداً من وجوه الحركة النسائية بعد عام من ذلك، في آذار/ مارس 2001، حيث بدا واضحاً رغبة التدخل تحت غطاء طلب التحكيم الملكي. تشكلت فيما بعد لجنة ملكية استشارية احتاجت لأكثر من سنة من الاشتغال ليحسم الأمر، ويتم الإعلان من طرف الملك في تشرين الأول/ أكتوبر 2003 عن مدونة جديدة سميت "مدونة الأسرة"، جاءت عموماً مستجيبة لمبدأ المساواة الذي طالبت به الحركة النسائية.
الجديد في التعاطي مع هذا القانون تمثّل في القرار الملكي بإحالته من أجل البت فيه من طرف البرلمان. شكّل ذلك خطوة ذات دلالة عميقة بالنظر لكونه اعتبر في السابق ضمن صلاحيات أمير المؤمنين، وهو ما جعل عدداً من المتتبعين يرون فيه تغييراً في المنهجية التي اعتمدت سابقاً، من خلال إخضاعه انطلاقاً من ذلك التاريخ، مثله مثل كل القوانين الأخرى، لإطار المؤسسة التشريعية بمنطق التصويت الديموقراطي. وهو ما يستفاد منه أن المنحى الذي ستتخذه المراجعات التي يمكن أن تمسه في المستقبل، ستخضع لموازين القوة السياسية التي من المفروض أن تعكس تجاذب تيارات الرأي داخل المجتمع.