الحركة النسائية المغربية: ثلاثة أجيال وثلاثة وجوه

ثلاثة وجوه نسائية لثلاثة أجيال متتالية، بدءاً من مرحلة الاستقلال إلى اليوم، تَشكّل عبرها المسار التاريخي للحركة النسائية في المغرب: مليكة الفاسي، أمينة المريني الوهابي، سارة سوجار.
2017-04-19

لطيفة البوحسيني

أستاذة جامعية مختصة بقضايا النساء، من المغرب


شارك
نوار حيدر - سوريا

امتد المسار التاريخي للحركة النسائية المغربية عبر ثلاثة أجيال، ارتبطت ارتباطاً وثيقاً بمراحل سياسية وتاريخية مختلفة.

• المرحلة الأولى من منتصف الأربعينات من القرن الماضي حتى نهاية الخمسينات، أي خلال معركة الكفاح من أجل الاستقلال.
• المرحلة الثانية انطلقت مع منتصف الثمانينات من القرن الماضي، وعرفت تدريجياً خفوتاً منذ نهاية العقد الأول للألفية الثالثة. وهي المرحلة التي اشتد فيها الصراع بين الأحزاب السياسية الوطنية ونظام الحكم حول قضية الديمقراطية.
• المرحلة الثالثة لا زالت في خطواتها الأولى، وهي التي بدأت تبرز بالموازاة مع حراك 20 شباط / فبراير، أي منذ سنة  2011 وانطلاق موجات الاحتجاج في سياق ما سمّي "الربيع العربي".

إذا كانت السياقات العامة التي نشأت خلالها هاته الأجيال من الحركة النسائية المغربية قد أثرت في منحاها العام وجعلتها مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالقضايا السياسية الظرفية، خصوصاً وأن مناضلات الحركة نبتن وترعرعن في أحضان مكونات الحركة السياسية العامة، فالقضايا التي طرحتها والرهانات التي ناضلت من أجلها والأشكال التعبيرية التي تبنتها عرفت اختلافاً من جيل لجيل آخر.

هذه ثلاثة وجوه نسائية تجسد الفكرة:

 

مليكة الفاسي
 

 ولدت في19  حزيران / يونيو سنة 1919 بمدينة فاس، في وسط عائلي ينتمي للبورجوازية الفاسية. ترعرعت في أحضان أسرة وطنية تميزت باهتمامها الثقافي وانخراطها في الدفاع عن قضايا الوطن. حرص والدها، الذي كان يزاول مهنة القضاء، على تعليمها مثلها مثل إخوانها الذكور. مكنها تعليمها من مزاولة الصحافة، فكانت تنشر مقالات باسم مستعار، "الفتاة". ثم فيما بعد "باحثة الحاضرة". وكانت مقالاتها تتناول أوضاع المرأة المغربية حينذاك، وتسعى إلى نشر الوعي حول القضايا التي كانت تعتبرها عوائق في وجه تحرر النساء، مثل انتشار الخرافات والعادات الضارة.

مليكة الفاسي

التحقت بصفوف الحركة الوطنية في ريعان شبابها ولعبت أدوار مهمة في إطارها. بحكم أنها امرأة، كانت الحماية الفرنسية تسمح لها بالدخول إلى القصر الملكي بدون كبير عناء، وهو ما ساعدها على ربط الجسور في مرحلة حالكة بين السلطان محمد الخامس وأعضاء الحركة الوطنية، وخصوصا حينما اشتد الخناق على هذه الأخيرة قبل نفي السلطان من طرف سلطات الحماية الفرنسية إلى مدغشقر سنة 1953. أهّلها دورها هذا لأن تكوّن اسماً بارزاً ضمن الأسماء النسائية التي سجلت في تاريخ النضال الوطني ومقاومة المستعمر. كانت المرأة الوحيدة التي وقعت على وثيقة المطالبة باستقلال المغرب التي تم تقديمها سنة 1944، وكانت أبرز القيادات السياسية النسائية طيلة المرحلة التي عاش المغرب خلالها معارك النضال الوطني. زاوجت مليكة الفاسي بين نضالها السياسي وانخراطها في معركة تحرر المرأة، إذ إلى جانب تعبئة النساء للخروج في التظاهرات والمسيرات المنددة بالاحتلال، كانت نشيطة في التنظيم النسائي التابع لحزبها، "حزب الاستقلال" الذي يعتبر أحد المكونات الأساسية للحركة الوطنية المغربية.
وشكلت قضية تعليم الفتيات رهاناً مركزياً في نضال مليكة الفاسي، خصوصاً بالنظر للسياق الاجتماعي العام الذي لم يكن يقبل بعد بهذه الفكرة. فقد سبق وأن طرحها أحد العلماء المغاربة (محمد بن الحسن الحجوي) في بداية العشرينيات من القرن الماضي، وواجهه تيار الفقهاء المحافظين بشراسة وأثنوه عن دفاعه عن قضية لم تكن قد نضجت الشروط بما يكفي لطرحها. مع نخبة الحركة الوطنية، ومن ضمنها مليكة الفاسي، طرحت قضية تعليم الفتيات وحظيت باهتمام السلطان نفسه، الذي لم يكن يخلف أي فرصة للإشارة لهذه القضية، وكان يتنقل شخصياً لتدشين مدارس البنات وبرفقته واحدة من بناته.

شكلت قضية تعليم الفتيات رهاناً مركزياً في نضال مليكة الفاسي، خصوصاً بالنظر للسياق الاجتماعي العام الذي لم يكن يقبل بعد بهذه الفكرة
 

يحسب لمليكة الفاسي كذلك ترافعها من أجل فتح فرع التعليم العالي بجامعة القرويين أمام الشابات، وهي الجامعة التي صنفت من طرف اليونيسكو كأقدم جامعة في العالم، ولا زالت أبوابها مفتوحة إلى اليوم. ويعود إنشاءها إلى السيدة فاطمة بنت محمد الفهري القيرواني سنة 859م. بفضل جهود مليكة الفاسي ومواجهتها لتعنت إدارة الاحتلال ورفضها، نجحت بالضغط، مستغلة قربها العائلي من أحد مسؤولي إدارة الجامعة، ليصبح بإمكان الفتيات متابعة الدراسة للحصول على شهادة "العالمية،" وليتمكن الفوج الأول من المغربيات من التخرج غداة حصول المغرب على استقلاله.  
غداة الاستقلال، سنة 1956، ساهمت مليكة الفاسي في تأسيس عدد من الجمعيات الخيرية. انتبهت بشكل مبكر، وهي تناضل وتجمع المال من أجل بناء أقسام تسمح بولوج الفتيات للمدرسة، إلى ضرورة توفر هذه الأخيرة على مراحيض.. وهو الأمر الذي تبين فيما بعد (مع بداية الألفية) أنه يشكل أحد أسباب الهدر المدرسي الذي يمس الفتيات، خصوصاً في العالم القروي.
في إحدى الحوارات التي أجريت معها قبيل وفاتها، حكت مليكة الفاسي أنها طلبت في إحدى لقاءاتها مع الملك محمد الخامس، أن يتم النص في الدستور على المساواة بين المرأة والرجل في الحقوق السياسية. وهو ما كان، فجاء الفصل الثامن من أول دستور للمغرب في بداية ستينات القرن العشرين واضحاً على هذا المستوى.
اقترح عليها محمد الخامس منصب وزيرة مكلفة بالقضايا الاجتماعية، غير أنها رفضت معللة ذلك بأنها تفضل الاستثمار في محاربة الأمية والاهتمام بالأطفال المحتاجين. وهي توفيت في 12 أيار / مايو 2007.

أمينة المريني الوهابي
 

رأت أمينة النور بمدينة الناضور (شمال المغرب) بتاريخ 14 أيلول / سبتمبر 1952. التحقت وهي بعد تلميذة في الثانوي بـ"حزب التحرر والاشتراكية" (الحزب الشيوعي سابقاً)، وأصبحت فيما بعد عضواً قيادياً في المكتب السياسي للحزب الذي سيصبح اسمه "حزب التقدم والاشتراكية". حينما التحقت بالجامعة، تميّزت بنشاطها كطالبة في صفوف الاتحاد الوطني لطلبة المغرب خلال بداية السبعينات. في إحدى الحوارات التي أجريت معها، تحكي أمينة أن أحداث أيار / مايو 1968 بفرنسا ساهمت في تشكل وعيها بقضية المرأة. أسست بمعية مجموعة من رفيقاتها، "الجمعية الديمقراطية لنساء المغرب" في حزيران / يونيو 1985، وهي أول جمعية رأت النور من الجيل الثاني للحركة النسائية المغربية. وقد تحملت أمينة مسؤولية الرئاسة لقرابة عقدين من الزمن، في ظروف أصبحت فيها قضية المرأة تحتل مكاناً مميزاً ضمن القضايا التي شغلت الساحة المغربية. تعتبر أمينة واحدة من بين القياديات النسائيات اللائي لعبن أدواراً طليعية طيلة مرحلة النضال النسائي الذي غطى أزيد من عقدين. وهي وجه نسائي بارز في مسيرة النضال الديمقراطي والحقوقي والنسائي.

أمينة المريني الوهابي

لعبت دوراً مركزياً في المحطات الأساسية للترافع حول إصلاح مدونة الأحوال الشخصية، وهو الترافع الذي غطى قرابة عشرين سنة. بذلت جهوداً كبيرة في تقريب الجمعيات النسائية وتجميعها في أهم الشبكات التي قادت معارك ضارية بمواجهة التيار المحافظ المناهض بشراسة لإصلاح قانون الأحوال الشخصية. ترأست قيادة "شبكة دعم الخطة الوطنية لإدماج المرأة في التنمية" التي ضمّت العشرات من الجمعيات، واستطاعت بمعية رفيقاتها من مناضلات الحركة النسائية، قيادة أهم نقاش عمومي شهده المغرب مع بداية الألفية الثالثة.
 

لعبت أمينة المريني الوهابي دوراً مركزياً في المحطات الأساسية للترافع حول إصلاح مدونة الأحوال الشخصية، وهو الترافع الذي غطى قرابة عشرين سنة. بذلت جهوداً كبيرة في تقريب الجمعيات النسائية وتجميعها
 

زاوجت أمينة بين نضالها السياسي من أجل الديمقراطية ونضالها الحقوقي العام، فتحملت المسؤولية في المجلس الوطني للمنظمة المغربية لحقوق الإنسان خلال المرحلة التي طرحت فيها قضية العدالة الانتقالية وتصفية ماضي الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان التي شهدها المغرب خلال ما يعرف بـ"سنوات الرصاص" (من منتصف ستينات القرن العشرين إلى نهاية تسعيناته). وبفضل حنكتها وإصرارها، وبمعية مناضلات أخريات، تمكنت من جعل النضال الحقوقي ينفتح على قضايا التمييز ضد النساء وعلى الإقناع بأن حقوق النساء هي من حقوق الإنسان.

جعلها انتماؤها السياسي تنتبه إلى ضعف حضور النساء في مراكز القرار السياسي، وبعد ذلك السعي إلى وضع هذا الرهان ضمن القضايا التي استأثرت باهتمام الجمعيات النسائية. فكانت الجمعية التي ترأسها رائدة في هذه المعركة واستطاعت، في إطار تحالف جمعوي واسع، أن تقنع البرلمان المغربي بإدماج نظام المناصفة في الميثاق الجماعي الذي يؤطر ويقنن تسيير الشأن الجماعي.   
على الرغم من أنها اختارت في إحدى المراحل الانسحاب من الحياة التنظيمية الحزبية، والتفرغ لنضالها الحقوقي والنسائي، فقد اقترح عليها منصب وزيرة في حكومة عبد الرحمن اليوسفي (1998-2002) ولكنها رفضت.
إلى جانب مساهمتها في تأسيس عدد من الجمعيات، مثل "لجنة دعم تمدرس الفتاة في العالم القروي" (1997)، ومساهمتها في تنظيم وتكوين عدد من الأطر النسائية التي ضخت المغرب بفعل جمعوي نسائي مهم، كان لأمينة إسهام في عدد من الهيئات مثل "الهيئة العليا للتربية والتكوين" (1999) و"المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان" (2002) و"اللجنة الوطنية حول الجهوية الموسعة" (2010).  وفي العام 2012، تم تعيينها رئيسة "الهيئة العليا للسمعي البصري".
تحمل أمينة معولها للدفاع عن قضية المساواة بين الجنسين، وتحرص ببداغوجية عالية على التنبيه لمقاربة النوع الاجتماعي وأهمية إدماجها في البرامج والمشاريع. وعدا مؤهلاتها العلمية وقدراتها المعرفية في مجال الحقوق الإنسانية للنساء، فأمينة شكلت وتشكل نموذجاً نسائياً مميزاً يحظى باحترام الجميع بما في ذلك من تختلف معهم فكرياً أو سياسياً.

 

سارة سوجار
 

ولدت سارة بمدينة الدار البيضاء بتاريخ 2 حزيران/ يونيو 1988. حاصلة على الإجازة في القانون العام وتحضر حالياً شهادة الماجستير في العلاقات الدولية. ساهم نادي حقوق الإنسان بالثانوية التي كانت تدرس بها في إيقاظ وعيها السياسي. انخرطت بداية في النضال السياسي عند التحاقها بالجامعة وانتمت إلى إحدى مكونات اليسار المغربي ("حزب الطليعة الديمقراطي الاشتراكي")، ثم فيما بعد التحقت بـ"الجمعية المغربية لحقوق الإنسان"، وترأست فرعها بإحدى أحياء الدار البيضاء الكبرى وسنها لم يتجاوز 19عاماً.
 

لا تتردد سارة سوجار في التأكيد على أن نضالها الأساسي هو نضال نسائي. ولكنها تتشبث بضرورة ربط النضال النسائي بالنضال الديمقراطي، بل هي تعتبر أن عزل قضية المرأة عن القضايا العامة لا يخدمها بل يساهم في تحريف النضال العام للمجتمع
 

ساهمت إلى جانب صديقاتها، مناضلات "الرابطة الديمقراطية لحقوق المرأة" بمدينة المحمدية في تنظيم عدد من الأنشطة حول قضية المرأة بالجامعة، في الوقت الذي كان التيار الإسلامي هو المهيمن.

سارة سوجار

أصبح اسم سارة سوجار متداولاً بشكل كبير مع انطلاق حركة 20 شباط / فبراير 2011، التي أصبحت إحدى أيقوناتها. تؤكد سارة أن انخراطها القوي في هذه الحركة يستمد مبرره من المطالب التي رفعتها، والتي كان يوجد في القلب منها مطلب المساواة بين الجنسين، وتعتبر أن قوة الحركة تكمن في كون قراراتها كانت جماعية تتخذ بعد نقاش مستفيض في الجمعيات العامة. وسارة كانت صوتاً مميزاً في تلك الجمعيات، يصدح عالياً بعد كل مسيرة من المسيرات التي جابت شوارع الدار البيضاء خلال 2011.  وفي العام 2015، أسست سارة مع عدد من رفيقاتها، إطاراً جديداً أطلق عليه اسم "نساء شابات من أجل الديمقراطية". تعتبر هذه المجموعة نفسها امتداداً لجيل الحركة النسائية السابق، مع محاولة تجديد طرق وأساليب العمل بما يسمح باستقطاب الشابات.  
لا تتردد سارة في التأكيد على أن نضالها الأساسي هو نضال نسائي. ولكنها تتشبث بضرورة ربط النضال النسائي بالنضال الديمقراطي، بل هي تعتبر أن عزل قضية المرأة عن القضايا العامة لا يخدمها بل يساهم في تحريف النضال العام للمجتمع. تنتمي سارة للجيل الجديد من المناضلات النسائيات اللائي برزن في سياق سياسي عادت فيه المطالب الاجتماعية الكبرى إلى الواجهة.

ثلاثة أجيال مختلفة من النسائيات تُبيِّن بالملموس أن المجتمعات التي لم تلتحق بعد بنادي الدول الديمقراطية، تفرض ضرورة الربط بين السياسي العام والنسائي. فحتى وإن كان مطلب الحرية حاضراً في نقاشات مختلف الأجيال، فالملاحظ هو أن مطلب المساواة ومناهضة مختلف أشكال التمييز هو الذي يحظى بالأهمية الأكبر.

مقالات من المغرب

الناجح: لا أحد

نحتار ونحن نَطّلع على مؤشرات التعليم في المغرب خلال العقدين الأخيرين، بين مستوى المدارس والتعليم حسبَ ما نعاينه فعلياً من جهة، وما تقوله من جهة ثانية الإحصاءات الدّولية حول التعليم،...

للكاتب نفسه