عندما سينتهي "عهد العزة والكرامة" - وكلّ عهد إلى زوال - لن تكون أبرز ذكرياته مرض عبد العزيز بوتفليقة، (الذي، إن لم يقعده الفراش، فهو أقعده كرسيَّه المزخرف شبهَ غائب عن الوعي أمام ضيوفه الكرام)، ولا تعديلَ الدستور ثلاث مرات، ولا ترويض المؤسسة العسكرية لإفساح الطريق لدولة النهب المدنية، ولا صعود نجم كوكبة من رجال الأعمال يدعون إلى الانفتاح بعد أن استفادوا من ريع البترول أيّما استفادة، ولا حتى ما طبع السنوات الأخيرة – حتى انهيار أسعار النفط في صيف 2014 - من تناقض بين ثراء خزينة البلاد وعجزها عن الإقلاع، لا في إطار الاقتصاد المسير ولا في إطار الاقتصاد المخيّر.
كلّا، ما سيُذكر به "عهد العزة والكرامة" أساساً - عدا سريان الفساد بشكل غير مسبوق في أوصال الدولة والمجتمع - هو ارتباط اسم الرئيس بأسماء حفنة من الفاسدين والشياطين الخرساء الساكتة عن الفساد، حتى ليكاد يُخيّل إلينا أن النظام يباهي بهم الأممَ قائلا: "نحن أيضا معولَمون، ولنا ذكرٌ في كل الفضائح الدولية المجلجلة، من "أونا أويل" إلى "أوراق بنما"، ناهيك عن فضائحنا "الثنائية" كـ"سوناتراك 1" و"سوناتراك 2" (ارتشاء مسؤولين في هذه الشركة البتروغازية العمومية لتسهيل فوز شركات أجنبية بصفقات)، و"الطريق السيار شرق غرب" (ارتشاء مسؤولي مؤسسات حكومية نظير إيلاء صفقات لأطراف بعينها).. بل إن أحدَ أساطين دبلوماسيتنا العابرة للقارات، محمد بجاوي، كان في أوقات فراغه يساعد تاجر السلاح الفرنسي، بيار فالكون، على تقديم عرض باسم شركة صينية في إطار مشروع الطريق السيّار.
هل يمكن وصف ارتباط اسم بوتفليقة بأسماء مقربين منه اشتهروا إن لم يكن برشوة أدينوا بها فباشتداد عُود الفساد تحت إمرتهم - وربما بعلمهم - هل يمكن وصفُه بأنه مؤامرة ضد مؤسسة الرئاسة؟ لا، لأن الرئاسة اليوم، كما في عهد الرئيس هواري بومدين، نواةُ النظام الصلبة والفاعل الرئيسي فيها رغم كل ما يقال من كلام مرسل عن كون العسكر هم حاكمي البلاد الفعليين. هو فقط دليل على لامبالاة النظام بحسن صورته أو سوئها لدى محكوميه، في سياق عالمي يميزه تلطخ سمعة النخب السياسية، بما فيها نخب "الديمقراطيات" العريقة، بفضائح فساد مدوية.
قد تبدّت هذه اللامبالاةُ أكثر من مرة في الأشهر الأخيرة. شكيب خليل، وزير الطاقة السابق الذي ورد اسمُه في قضية رشاوى الشركة الإيطالية سايبام لمسئولي سوناتراك ("سوناتراك 2") عاد إلى أرض الوطن معززا مكرما في نيسان/أبريل الجاري، بل وحظي باستقبال رسمي في مطار وهران. عمار سعيداني، أمين سر جبهة التحرير الوطني (الحزب الحاكم سابقا) الذي استثمر في السوق العقارية الفرنسية أموالا لا قِبَل به بإثبات مصدرها، لا يزال ناطقا شبه رسمي باسم رئيس الجمهورية على الساحة السياسية الحزبية. عبد السلام بوشوارب، زير الصناعة الذي أودع ماله في بنما، في حين تستدرّ الحكومة عطف المواطنين كي يُسهموا في قرض وطني سيمكنها من تمويل بعض المشاريع، قال على الملأ، أمام الصحافة والنواب، إنه خاطب رئيس الجمهورية في اتهامات التهرّب من الضرائب الموجهة إليه وهي، كما أضاف، من فعل "لوبيات" مناهضة لسياسته "الوطنية" في قطاع الصناعة.
وتبقى "حالة شكيب خليل"، دون منازع، أبلغ الحالات الثلاثة مثالا على عدم اكتراث النظام الجزائري بصورته العامة أو على الأقل عدم تقديره لدرجة تهالكها. في الماضي، كان عندما تفتضح قضية رشوة يُخْمدها بالتضحية بصغار المتورطين فيها ككباش فداء، بل وكان، من حين لآخر، يطلق حملةَ "أيادٍ نظيفة" وسخةً ذرا للرماد في العيون وغسلا ليديه من تهمة السكوت عن الراشين والمرتشين. كل هذا أصبح في خبر كان، فهو لم يكتف بحماية شكيب خليل وتسهيل هروبه إلى الخارج في آذار/ مارس 2013. بل سمح له بالرجوع إلى الجزائر اليوم. وأمَر وسائل الإعلام الرسمية وشبه الرسمية بإقناع الرأي العام ببراءته، بل وأقيل النائب العام الذي كان طلب تعاون أنتربول لاعتقاله، ولم يشفع له إلغاء هذا الأمر أشهرا قليلة بعد إصداره. وهناك من يقول إن سحب سلطة التحقيق القضائي في القضايا الاقتصادية من الاستخبارات العسكرية (ما كان إحدى مراحل إضعافها قبل حلها شبه التام) استهدف "آنيا" سحب ملف شكيب خليل من أدراجها. حتى تفجير قضية "أونا أويل" أياما بعد عودة شكيب خليل الميمونة إلى الديار لم يقنع حكام البلاد باتخاذ بعض المسافة منه، مع أن أوراقها تقول بوضوح إنّ عهدَه شهد، عدا الفضائح المذكورة أعلاه، فضيحتين أخريين: فوز الشركة الكورية هيونداي، مقابل رشاوَى، بصفقة تجديد مصفاة للبترول في أرزيو (الغرب)، وفوز مواطنتها سامسونج، مقابل رشاوى أيضا، بصفقة تحديث مصفاة أخرى، في سكيكدة (الشرق).
وقد يقول قائل إن شكيب خليل لم يُدَن في الجزائر في "سوناتراك 1"، ولم يُستدع للتحقيق في إيطاليا في "سوناتراك 2"، وأن المتهم بريء إلى أن تثبت إدانته. لكن، أليس توالي اكتشافات قضايا رشوة حصلت في عهده كافيا لـ "ركنه" سياسيا إنْ تعسرت محاسبته قضائيا على مسؤوليته المعنوية عنها؟ وإن لم تكن القرائن المتواترة عن مسؤوليته مقنعة بما فيه الكفاية، ماذا عن عواقب سياسته "الإنتاجوية"، وما اسفرت عنها من إنهاك لآبار البترول والغاز بما يهدد مصير الإنتاج الجزائري على المدى المتوسط؟ ألا تستحق أن يُحاسَب عليها، على الأقل بحرمانه من استقبال والي وهران له في المطار؟
ما سرُّ الإصرار على تبرئة من أصبح في نظر كثير من الجزائريين رمزا لتبديد الثروات الوطنية؟ أهي الروابط الشخصية التي تجمع الرئيس به منذ أواخر خمسينيات القرن الماضي؟ أم سرُّه يا تُرى - كما ألمح إلى ذلك مرارا الخبير البترولي حسين مالطي - وجود ضغوط أمريكية لإعادة الاعتبار إلى رجل بيّن أنه أحسن حام لمصالح الولايات المتحدة في الجزائر، منذ أن عدّل قانونَ المحروقات بما يسهل الاستثمار الأجنبي (وهو تعديل تراجع عنه رئيس الجمهورية بعد طول تأمل، وكلف الخزينة العمومية، بطبيعة الحال)؟
هناك من يجزم بأن شكيب خليل عاد إلى الجزائر ليحضّر نفسَه، من الداخل، لخلافة صديقه المريض غير المتعافي. صحيح أن نظرية المؤامرة لا تثبت أمام العقل، لكن هل من "نظرية المؤامرة" أن يفكر النظام في مستقبله، أي في حماية نفسه دوليا، بإيلاء مقاليده إلى شخصية عرفت بقربها من بعض أعضاء "الإستابليشمنت" الأمريكي، خاصة وأن نضوبَ موارد النفط المالية يضع الاقتصاد الجزائري - وقطاع البترول على وجه الخصوص - تحت رحمة المستثمرين الأجانب؟ هذه الفرضيةُ، على صعوبة إثباتها، أكثر واقعية من تلك التي ترى رجوعَ وزير الطاقة السابق إلى الجزائر محض نكاية في عمار زغلامي (النائب العام المقال) والجنرال محمد مدين (رئيس الاستخبارات العسكرية المُقال هو الآخر)، ومُجمل خصوم عبد العزيز بوتفليقة المفترضين. وهي أيضا، على طابعها المرعب، تثير من الهلع أقل مما تثيرُه الفرضية الثانية التي تعني، باختصار، أن من يحكم البلاد مراهقون سياسيّون، يلعبون بالنار لا لشيء سوى أن يشفوا غليل الانتقام، غير مبالين بأن النارَ تهدد البيت وكلَّ ساكنيه، محكومين وحاكمين.