كان الشعب الفلسطيني، على الرغم من كل معاناته، شديد المرونة. وللحصول على معنى أدق، عليكم أن تسألوا أنفسكم هذا السؤال: ماذا في ثقافتنا، أدبنا، فننا، موسيقانا... يمكن أن يدعم هذه المرونة؟ يمكن لأنشطة مثل الرقص الجماعي والغناء وقرع الطبول أن ترفع من طاقة المجموعة حقاً، ولكن في غزة، تحت عنف الحصار والحرب والقيود، ينشأ سؤال آخر حول الفن، وهو يوازي السياسة في مضامينها وفي ذاتها. الأجواء تراجيدية لأن الأعمال ثاقبة وصلبة أمامنا وهي تفوق القدرة على التحمل، ولكن الفنان لم يمت. عثروا عليه تحت الركام، ولم يصب بأي سوء.
ما هي كمجتمع الصفات التي يمكننا تحديدها في الوقت الحاضر وتاريخياً والتي يمكننا الاعتراف بها والاحتفال بها والمحافظة عليها في مواجهة المعاناة والحرمان والاعتداء المستمر؟ إن ذلك ما تحاول الإجابة عنه الأعمال الفنية التي أتيحت للعرض في آخر شهر أيلول/ سبتمبر الفائت لمدة يوم ونصف في "مركز رشاد الشوا الثقافي" بغزة، ضمن معرض "مبني للمعزول"، الذي رعته منظمة الصليب الأحمر الدولية، تحت عنوان: "شباب غزة: حياة عالقة، فرص متلاشية"، وضمّ مشاركاتٍ فنية متعددة، ما بين النحت والرسم والتشكيل والفيديو آرت.
أفصح المعرض عن هوية وانشغالات المشاركين بأعمالهم الفنية. فقد نفذه فنانون وفنانات شباب من مختلف مناطق غزة، لعبت أعمالهم على وتر التجربة الغزية بوضوح، حيث أشارت إلى تقلص مساحة الفن نتيجة الظروف التي يعانيها الأهالي والشباب تحت الحصار والعزلة. وهو أيضاً يحمل مطالبات بوضع الفن في يد الجمهور، عبر استخدام مفردات تشبهه تماماً: صفيح وخردة، أشرطة دواء فارغة، وصفات طبيّة ("روشيتات")، مكانس خشبية مهترئة، قماش تظاهرات سياسية، ملابس قديمة، علب سردين فارغة من تلك التي توزعها وكالة أونروا.. وهذه العناصر استخدمت بشكل مزدوج: في الحياة اليومية وفي الأعمال الفنية.
يعيش أولئك الفنانون ويعملون في سياق يجعل الصدمة ضرورية وأكثر صعوبة في الوقت نفسه. فذلك الوضع المُحزن والصادم هو ما يعيشه أبناء المدينة مع الحصار والضغط والحرمان والبطالة ونقص الإمدادات والتهديد المستمر والمتكرر بوقوع وفيات متعددة. لا يسعنا إلا أن نتخيل تلك المشاعر وربما معها العجز الذي قد يشعر به الكثيرون في ظل وضع لا تظهر فيه أي علامة على التحسن في وقت قريب، وهو مستمر منذ نحو 15 عاماً كموت بطيء لا ينفك يؤلمنا.
عندما تسأل شخصاً ما عما إذا كان يعمل، في ضوء أن أكثر من نصف القوة العاملة في غزة عاطلة عن العمل، غالباً ما يكون جوابه كما يصف الناس أنفسهم: "قاعد"، وهي بالعامية الغزاوية تعني أنا جالس، أي عاطل عن العمل وأجلس في الجوار، في المنزل، في الشارع. على طريق البحر. وهكذا ومن خلال النحت، عبّر الفنان الشاب مصطفى مهنا عن معنى "الجلوس في غزة".
"كما تكون الشجرة يكون ثمرها" (1). ومن الاتساق الذي بدت عليه الأعمال الفنية بجانب بعضها البعض في مساحة العرض المعدّة مؤقتاً داخل قاعة المركز الرئيسية، يبدو هذا الضيق في المساحة كأنه مزجٌ يتردد صداه بين الفنانين والناس والأعمال الفنية، وهو لا بد يمتلك مستويات مختلفة من الطاقة. وهكذا، كلما ارتفع مستوى التماسك بين الناس، زادت احتمالات الشفاء. على سبيل المثال، يكون للرحمة التي تشاركها مجموعة ما، مستوى تماسك أعلى من الكراهية.
صُنع في غزّة
18-08-2022
هناك خللٌ طارئٌ في بنية الحياة التي يعيشها مليونا فلسطيني في غزة، ولكن هل يمكن أن يكون الفنان محايداً؟ لعل الفن في غزة يسعى للتأثير على نحو سياسي، وله من قوة الأدوات الرمزية ما يكفي لتأسيس أسطورة غير مرتبطة بزمان ولا مكان. الفنان في غزة يخلع الموت من أقدامه ويمشي حافياً لقتل الوقت واليأس. أو كما قال غسان كنفاني: لن تجد الشمس في غرفة مغلقة.
هنا نستعرض التجارب الفنية لخمسة من الشباب والصبايا الذين شاركوا في المعرض، وهي تحكي قصصاً خاصة لأصحابها، من خلال السياق العام للعالم المغلق الذي عاشوا فيه سنوات الحصار في غزة، والتي تمثل الجزء الأكبر من أعمارهم.
"ننتظر رداً من البحر"
"لنا نحن الغرقى في القاع حكايات مشتركة وصور بالأبيض والأسود. كل ليلة نخلق محاولات ونتساءل بحثاً عن الهداية إلى شواطئ غير مسحورة، تعيد لنا الحياة في المكان والزمان الصحيحين". تصف الفنانة الشابة آلاء الشوّا عملها الفني الذي يعالج مفهوم الهروب من المعلوم إلى المجهول، ويحاكي تجربة المعاناة التي يعيشها جيل الشباب النازح من وطنه هرباً من الفقر والبطالة.
يعيش أولئك الفنانون ويعملون في سياق يجعل الصدمة ضرورية وأكثر صعوبة في الوقت نفسه. فذلك الوضع المُحزن والصادم هو ما يعيشه أبناء المدينة مع الحصار والضغط والحرمان والبطالة ونقص الإمدادات والتهديد المستمر والمتكرر بوقوع وفيات متعددة.
يسعى الفن في غزة للتأثير على نحو سياسي، وله من قوة الأدوات الرمزية ما يكفي لتأسيس أسطورة غير مرتبطة بزمان ولا مكان. الفنان في غزة يخلع الموت من أقدامه ويمشي حافياً لقتل الوقت واليأس.
العمل مستوحى من صور أحد القوارب الغارقة جنوب شرق مالطا عام 2014، وكانت تنقل شباباً مهاجرين في البحر الأبيض المتوسط. قاربٌ يحمل عشرات الفلسطينيين من ضمنهم عائلات بأكملها. يصف العمل ما يدور بأذهان الأهالي من تساؤلات: "لماذا نحن مفقودون" و"أين أولادنا؟" وغيرها الكثير.
أرادت الفنانة آلاء من خلال هذا العمل إيصال رسالة للعالم عن مدى خطورة هذه الظاهرة وانتشارها في الآونة الأخيرة، وهي لم تقتصر فقط على فئة الشباب، بل نال الأطفال نصيبهم منها أيضاً. العمل عبارة عن لوحة مكونة من أقمشة بما يتناسب مع الفكرة، حيث تمثل حالة موج البحر ملونةً بألوانٍ ذات دلالات محددة. وترسم القوارب التي تغرق في بحار العجز، في حين لا تهدأ حركة الأمواج.
"هَش"
باستخدام مجموعة مختلفة من أشرطة الدواء الفارغة التي تتسم بالهشاشة وتحمل دلالة الألم والقلق الذي أصبح قاسماً مشتركاً بين سكان العالم في وقتنا الحالي، يستعرض المشروع الفني "هش"، للفنان محمود الحاج، تأثيرات الإغلاق والعزلة التي يسببها الاحتلال، مُضافاً إليها الإجراءات الاحترازية الناجمة عن جائحة كورونا، التي فرضت بدورها على العالم أجمع العيش بأسلوب حياة مشابه لأسلوب حياة الفلسطيني الذي يعيش حالة حجر عسكري ممتد منذ عقود.
"لنا نحن الغرقى في القاع حكايات مشتركة وصور بالأبيض والأسود. كل ليلة نخلق محاولات ونتساءل بحثاً عن الهداية إلى شواطئ غير مسحورة، تعيد لنا الحياة في المكان والزمان الصحيحين"، بحسب الفنانة الشابة ألاء الشوّا فترسم القوارب التي تغرق في بحار العجز، في حين لا تهدأ حركة الأمواج.
بعد أن تحولت أعين المهتمين بالفنون من صالات عرض الأعمال الفنية لمتابعة آخر ما توصلت إليه شركات الأدوية العملاقة، بدأ الفنان محمود الحاج بالاعتماد على استخدام عنصر "شريط الدواء الفارغ" لإنتاج الأعمال الفنية في إطار هذا المشروع. جمع ما يمكن جمعه من الأشخاص المقربين ومن ثم أخضع صور تلك الأشرطة لعملية تقطيع وإعادة تركيب تشبه عملية بناء حضري، إذ تتراكب الصور مع أجزاء المباني السكنية المقتبسة من صور أرشيفية لمدينة غزة.
يمثّل العمل الفني، من ناحية، تجربة حية للمرونة النفسية للفنان، ويعكس الألم والقلق المتجذر والمتراكم في المراكز الحضرية التي مزّقتها الحروب المتتالية، عبر إعادة إنشاء تكوينات بصرية باستخدام مجموعة من المواد البديلة المتاحة. وهو من ناحية أخرى يسلّط الضوء على الاستخدام الكثيف للأدوية عند الأشخاص الذين يعانون من ضائقة مستمرة بسبب الإغلاق والحجر الصحي العسكري والعنف الناتج عن الاحتلال، في إشارة إلى الحاجة العاجلة للاعتناء بالصحة النفسية والبدنية.
"انتظار"
تلك الوجوه المليئة بالرغبات والأحلام التي رسمتها الفنانة بيان أبو نحلة لا يمكنها إخفاء القلق والخوف والتناحر الداخلي، الناتج عن صدمات الحرب والحصار والتخلف الاجتماعي في غزة. تتسم ثيمتها الرئيسية بملامح الصدمة وتكرارها، والانتظار الطويل الذي يقف كجدار بين دواخل الإنسان ومحيطه الخارجي.
الوجوه ذات الإيماءات الثقيلة تتلون بدرجات الأحمر الدموي والزيتي والرمادي القاتم، تلك الآثار ليست آثار الحملات العسكرية الإسرائيلية فحسب، وإنما هي الأسئلة الضرورية للإنسان الطبيعي في وقت الأزمة.
تستخدم الفنانة الشابة الورقة البيضاء كأنها دفتر مذكرات لأنه "لا يوجد خيار آخر"، بينما تجسد رسومها كيوميات تدونها بالرسم. ينقل المشروع الفني الخاص بالفنانة أبو نحلة سجلاً لمشاهد متكررة من الحياة اليومية وكأنها "كليشيهات" أو مشاهد مبتذلة، تتضمن الأبطال أنفسهم والمواضيع والزوايا نفسها، بينما يقف الوقت ثابتاً كالشمس التي استقرت في وسط السماء، وثبتت الظلال معه، وبالكاد يمكن تمييز الاختلافات.
"انتظار بلا هدف"
عندما تسأل شخصاً ما عما إذا كان يعمل، في ضوء أن أكثر من نصف القوة العاملة في غزة عاطلة عن العمل، غالباً ما يكون جوابه كما يصف الناس أنفسهم: "قاعد". وهي بالعامية الغزاوية تعني: أنا جالس، أي عاطل عن العمل وأجلس في الجوار، في المنزل، في الشارع. على طريق البحر.
من خلال النحت، عبّر الفنان الشاب مصطفى مهنا عن معنى "الجلوس في غزة"، والذي أصبح جزءاً لا يتجزأ من عملية انتظار طويلة، ولكنها بلا هدف. العمل الفني هو منحوتة لجسد شابٍ محبَط يجلس محاطاً بالتناقضات دون رحمة، بحثاً عن الأمل في ثنايا الخيبات. كان الانتظار ضمن طوابير البطالة هو ما دفع الفنان الشاب للاتجاه نحو اكتشاف موهبته في فن النحت، حيث يقتل الوقت واليأس معاً، وقد بقي لسنوات دون الحصول على فرصة عمل في مجال اختصاصه في هندسة التصميم الداخلي.
"فرضت بدورها جائحة كورونا على العالم أجمع العيش بأسلوب حياة مشابه لأسلوب حياة الفلسطيني الذي يعيش حالة حجر عسكري ممتد منذ عقود"، وفق المشروع الفني "هش"، للفنان محمود الحاج.
الجلوس في غزة له معنى مختلف عن غيره في أي بقعة أخرى من العالم، لأنه يحمل في طياته كل أنواع الانتظار: انتظار الفرصة المناسبة، انتظار اللحظة الحاسمة، انتظار شروق الشمس، انتظار مرور الغيمة... وهكذا، دائماً ما يصنع الناس في غزة شيئاً من لا شيء عبر الانتظار. إنها ضرورة للبقاء على قيد الحياة لسنوات الحرب والحصار والقمع الذي خلق وضعاً أشبه بالفراغ الداخلي لطنجرة ضغط معبأة من الأشخاص أنفسهم والأحداث والآلام والآمال والصدمات مراراً وتكراراً.
"ضربة حظ"
على الرغم من أن فن "الفيديو آرت" لا يزال نوعاً مستجداً ونادراً من الفنون في غزة، إلا أن الفنان الشاب آدم مغاري، تجاسر على استخدام هذا النوع من الفنون المعتمِد على الصوت والحركة والصورة، لتمثيل المشاعر العلائقية التي تعاني منها غالبية الشباب هنا الذين، وفقاً لاستطلاعٍ حديث، يشعر 9 منهم من بين كل 10 شبان، أنهم يعيشون حياة غير طبيعية.
آثار غزة: الخراب ككتاب تاريخٍ صامت
08-10-2022
يتحدث العمل الفني عن الأهداف والأحلام والطموحات داخل المكان المحاصَر بإطباق. الفشل في تحقيق الأهداف والأحلام يترك أثراً سلبياً في نفوس الشباب، ما بين القلق والتوتر والعجز. في هذا العمل، ينام شخص ما في مكان ما في غزة، بينما يقفز داخل أحلامه نحو الأهداف ذاتها والطموحات، كضربة حظ باحثة عن الأمل والحياة والحق في العيش بسلام.
1- حسب قول الناقد الادبي والكاتب الفرنسي سانت بوف