جلس الحسن، المزارع البسيط في قرية بجنوب غرب المغرب على صخرة رخامية، مُلوحاً بعصاه النحيلة نحو أفق الجبال الصلدة المرصعة بشجر الأركان المجعد، متأملاً الوضع بنبرة صوت هادئة، مجيباً على سؤالي: كيف كان حالك مع الماء والأرض؟ "الموسم الفِلاحي الفائت كان صعباً للغاية. لا ماء كاف ولا أمطار تسد عطش أراضينا. لقد تعودنا على هذا الوضع خلال السنين الماضية. لكن حالياً صار الأمر مختلفاً. الجفاف أصبح ضيفاً ثقيلاً علينا".
حال المياه: شحيحة
كانت التساقطات خلال الموسم الفلاحي الفائت قليلة، إذ تراجع معدلها إلى 64 في المئة مقارنة بالموسم العادي. وهو الأدنى منذ 41 عاماً. أما المساحة المغطاة بالثلوج فتقلصت بحوالي 89 في المئة، إذ سجلت 45 ألف كلم مربع سنة 2018، وتراجعت عدد أيام تساقطها بمعدل 65 في المئة، فانتقلت من 41 يوماً سنة 2018 إلى 14 يوماً سنة 2021.
يشير الخبراء المغاربة إلى أن الجفاف في العادة كان يحصل مرة كل عقد من الزمن، لكن صار مؤخراً يحدث كل عامين. لذا انخفضت حصة الفرد من الماء إلى أقل من 650 متراً مكعباً سنوياً مقابل 2500 عام 1960، ومن المتوقع أن تقل الكمية عن 500 متر مكعب بحلول العام 2030، حسب تقرير لـ "المجلس الاقتصادي والاجتماعي بالمغرب".
أنهار المغرب تنبع من قلبه
17-06-2016
المغرب والماء: وفرة الثروة المائية، وخطر النضوب
01-07-2020
المغرب البلد المعروف بمئات السدود منذ سبعينيات القرن الفائت، اعترف على لسان مكتب الكهرباء والماء بعجزه عن تزويد 54 مدينة وإقليماً بمياه الشرب بشكل منتظم، بسبب تسجيله لعجز مهول في الموارد المائية، إذ لم تتجاوز الكمية 1.98 مليار متر مكعب خلال هذه السنة، بانخفاض بلغ ناقص 85 في المئة مقارنة بالمعدل السنوي. الأرقام الرسمية تشير إلى أن جميع السدود سجلت معدل ملء يبلغ 24.8 في المئة فقط وذلك حتى 23 أيلول/ سبتمبر 2022، مقابل 38.8 في المئة قبل سنة. أرقام المياه الجوفية هي الأخرى لا تسر، فمعظم طبقات المياه الجوفية تعرضت للاستغلال المفرط. وبيّنت الإحصائيات الرسمية بأن حجم المياه الجوفية المأخوذة (المستخرجة) في السنة يتجاوز الموارد القابلة للاستغلال، إذ يصل إلى نحو 1.1 مليار متر مكعب في السنة.
حال الزراعة: مُسْتَنْزِفَة
هطلت أمطار الموسم الفِلاحي الماضي لِماماً، تخللتها أشهر طويلة من الانتظار والطلب والرجاء. لكن السماء كانت عنيدة، لم تَجُدْ على المزارعين إلا بقليل من الأمطار، بالكاد تكفي لأساسيات لا تتعدى ري بعض المَزَارع الصغيرة والماشية العطشانة.
كانت التساقطات خلال الموسم الفلاحي الفائت قليلة، إذ تراجع معدلها إلى 64 في المئة مقارنة بالموسم العادي، وهو الأدنى منذ 41 عاماً. ويشير الخبراء المغاربة إلى أن الجفاف في العادة كان يحصل مرة كل عقد من الزمن، لكنه صار مؤخراً يحدث كل عامين.
كسواه من المزارعين البسطاء، يعتمد الحسن بشكل كلي على التساقطات المطرية، إذ لا بديل له عن هذا المعطى بحكم أنه يستقر في منطقة تسجل تساقطات مطرية متوسطة إلى أقل من المتوسط (الجنوب الغربي للمغرب) مقارنة بباقي المناطق.
يقول الحسن: "المياه لم تكن كافية لتروي عطش الأغنام، أما أنا وأفراد أسرتي فنحاول أن نستهلك الماء بحرص وأمانة شديدين. لقد شعرت بإحباط لما حصل خلال الموسم الفائت، لكن أملي يتجدد خلال هذا الموسم الحالي".
لكن ليست كل الزراعات على حد سواء، فزارعة الحسن معيشية وبورية تعتمد على المطر، على عكس معظم الزراعات التسويقية التي تتسبب في استنزاف الموارد المائية، الجوفية منها والسطحية، ولعل أبرزها زراعة الحوامض والبطيخ والأفوكادو.
وكانت الحكومة المغربية قررت زيادة إنتاج زراعة الأفوكادو من حوالي 2000 طن سنوياً سنة 2010، إلى نحو 30 ألف طن خلال عام 2019. وهكذا تنامت الأراضي المزروعة بأزيد من 150 في المئة بحلول العام 2021، وبلغ حجم الإنتاج 32 ألفاً و800 طن عند بداية أيار/مايو 2021. لم يكن هذا الإنتاج غير المسبوق ليحصل إلا بعد أن فُتِح البلد على مصراعيه لاستثمارات إسرائيلية في إطار التطبيع الحاصل بين البلدين والذي بدأ منذ كانون الأول/ ديسمبر 2020، وطُبِقَ في شقه الزراعي من خلال إبرام شراكة مع شركة "مهادرين" الإسرائيلية خلال العام الماضي، إذ ضخت استثماراً ضخماً وصل إلى نحو 9 ملايين دولار، بغية إنتاج 10 آلاف طن من هذه الفاكهة الغالية.
المغرب البلد المعروف بمئات السدود منذ سبعينيات القرن الفائت، اعترف بعجزه عن تزويد 54 مدينة وإقليماً بمياه الشرب بشكل منتظم، بسبب تسجيله لنقص مهول في الموارد المائية
وعلى الرغم من أن هذه الفاكهة تدر أموالاً طائلة من العملة الصعبة، إلا أنها مستنزِفة، إذ أن كيلوغراماً واحداً من الأفوكادو يستهلك نحو 1200 ليتراً من الماء. أما البطيخ فهو شقيق الأفوكادو من حيث الاستنزاف المائي، إذ يستهلك آلاف الأمتار المكعبة من المياه الجوفية والباطنية لآبار من المفروض أن توجّه مياهها لصنابير المنازل. والإشكال هنا يكمن في أنه يُزرع في مناطق صحراوية وشبه صحراوية تئن من العطش، كمنطقتي زاكورة وطاطا (الجنوب الشرقي للبلاد).
السلطات من جهتها تؤكد بأنها ستفرض حزمة من الإجراءات للتقليل من استنزاف هذه الفاكهة للموارد المائية. مصادر صحافية محلية أكدت بأن وزارة الداخلية اقترحت على مجموعة من المتدخلين في هذا المجال "التوقف المؤقت لمدة سنة عن زراعة البطيخ الأحمر، في انتظار تحسن الحالة الهيدرولوجية الاستثنائية التي تمرّ بها البلاد بصفة عامة، ومنطقة زاكورة بصفة خاصة". وينصّ مقترح وزارة الداخلية على تخفيض الأراضي المزروعة بـ "البطيخ الأحمر" من 5000 هكتار إلى 2000 هكتار فقط خلال الموسم المقبل، ويوازي هذا الإجراء ضبط الموارد المائية المستعملة والتقيد بها في ري هذه الفاكهة على طول الموسم الفلاحي، وتقنين زراعتها عوض إلغائها. ومبرر السلطات يكمن في أن البطيخ الأحمر يظل مصدراً مهماً لعيش الكثير من العائلات، وفي حال تمّ منع هذه الزراعة سيتسبب "في هجرة الآلاف نحو المدن الكبرى".
بالموازاة، فرضت السلطات في منطقة شيشاوة (جنوب غرب البلاد)، بدءاً من شهر شباط/فبراير الماضي مجموعة من القرارات، تجلت في تحديد المساحة المغروسة بالبطيخ بنوعيه في خمسة هكتارات للبئر الواحدة، والطماطم في هكتار واحد، كحد أقصى لا يجب تجاوزه. وتمّ تحديد نهاية آذار/مارس كموعد أقصى لعملية غرس البطيخ والطماطم بغية تجنب الري في الأشهر الحارة، علاوة على إجبارية مستعملي هذه المياه بتجهيز آبارهم بالعدادات.
ما الحل إذاً؟
على مستوى الإمكانات، يتوفر المغرب على 149 سداً كبيراً تخزّن حوالي 19 مليون متر مكعب من الماء. وقد أكمل بناء 4 سدود كبرى بقيمة تصل إلى 3 مليارات و580 مليون درهم (حوالي 358 مليون دولار) خلال عام 2021. ويستمر العمل في تشييد 15 سداً كبيراً خلال عام 2022، بسعة تخزينية تبلغ نحو 5 مليارات متر مكعب، وبقيمة مالية تصل إلى 21 ملياراً و460 مليون درهم (حوالي 2 مليارو146 مليون دولار). ويوجد في البلد 9 محطات تحلية لمياه البحر تنتج 147 مليون مكعب سنوياً، علاوة على آلاف الآبار لاستخراج المياه الجوفية.
ليست كل الزراعات على حد سواء، فالزارعة المعيشية والبورية تعتمد على المطر،على عكس معظم الزراعات التسويقية التي تتسبب في استنزاف الموارد المائية، الجوفية منها والسطحية، ولعل أبرزها زراعة الحوامض والبطيخ والأفوكادو.
أما على مستوى الحلول، فاعتمد المغرب مجموعة من الإجراءات العملية والاستراتيجية للتخفيف أو سعياً منه للحيلولة دون تفاقم أزمة شح المياه، لعل أبرزها يكمن في اعتماد قيود في استعمال مياه الشرب للمستهلكين، وحظر توظيف مياه الشرب لغسل السيارات، وملء برك السباحة، وري ملاعب الغولف والمساحات الخضراء.
عملياً، تؤكد الحكومة بأنها قامت بشراء 706 شاحنات صهريجية لتوفير المياه لما يزيد عن 2.7 مليون نسمة بالوسط القروي على مستوى 75 إقليماً ومنطقة حضرية، واقتناء 26 محطة متنقلة لتحلية مياه البحر، بغية ضمان تزويد 26 إقليماً بالماء الصالح للشرب، علاوة على برمجة إنجاز 129 سداً صغيراً وبحيرة ما بين 2022 و2024. كما أنها خصصت أكثر من مليار دولار لمساعدة الفلاحين الذين يعانون من مشاكل الجفاف.
قررت الحكومة زيادة إنتاج الأفوكادو من 2000 طن سنوياً سنة 2010، إلى نحو 30 ألف طن خلال عام 2019. وهكذا تنامت الأراضي المزروعة بأزيد من 150 في المئة بحلول العام 2021. ولم يكن هذا الإنتاج غير المسبوق ليحصل إلا بعد أن فتح البلد مصراعيه لاستثمارات إسرائيلية في إطار التطبيع الحاصل بين البلدين والذي بدأ منذ كانون الأول/ ديسمبر
على المدى البعيد، يخطط المغرب لمواصلة وتسريع إنجاز برنامج السدود الكبرى والصغرى، بغية زيادة الطاقة التخزينية إلى 24 مليار متر مكعب في أفق عام 2030. كما اعتمد برنامجاً للتزود بالمياه لأغراض الشرب والري للفترة بين 2020 و2027، بقيمة مالية تصل إلى 115 مليار درهم (حوالي 11 مليار دولار أمريكي)، إضافة إلى توقيع اتفاقيات تسعى إلى نقل المياه من الأحواض الفائضة إلى الخزانات التي تعاني من العجز، وهي تتمثل في أحواض مائية منتشرة في البلاد كـ "ملوية" في الأطلس الأوسط و"تانسيفت" في الشمال الغربي و"أم الربيع" الذي ينبع في الأطلس الأوسط و"درعة تافيلالت" في الجنوب الشرقي للبلاد.
وهل سيخرج المغرب من هذه الأزمة؟
صحيح أن المغرب أقدم على تنفيد الكثير من الإجراءات الاستباقية لاحتواء أو - على الأقل - للتخفيف من هذه الأزمة، إلا أنها ليست كافية لكي تجيب على هذا السؤال بشكل حاسم. ولا تؤشر الحلول المقدمة نظرياً والمعتمدة عملياً من قبل الحكومة على أن الأمور كلها تمام التمام. إذ ما زال البلد مهدداً كسواه من دول شمال إفريقيا والشرق الأوسط بأزمة عطش حادة تلوح في الأفق، لن تُعَالَج إلا بمقاربة صارمة وسياسات مرنة تدوم لعقود وليس بشكل ظرفي.
في المقابل، وأمام هذا الوضع الصعب، لا يرى الحسن وسواه من المزارعين البسطاء جواباً شافياً على هذا السؤال إلا في هذا الدعاء المتداول: "الله اجيب الشتا"،عسى أن تجود السماء هذا الموسم بأمطار غزيرة، بدون عناد...