شُح الأمطار بالمغرب: عقابٌ إِلهي أم تغيُّر مناخي؟

على الرغم من انخفاض الاعتماد على الأمطار في الزراعة، فما زال معظم المزارعين الصغار يترقبون بعين فاحصة السماء علَّها تمطر، يتابعون تفاصيل النشرة الجوية، ويأملون بهطول دفعة أخيرة من الأمطار خلال شهر آذار/ مارس، وهي فترة قد تنقذ ولو القليل من محاصيل الحبوب.
2020-03-04

سعيد ولفقير

كاتب وصحافي من المغرب


شارك
نديم كرم - لبنان

"أورِيلَا أْنزَارْ أشْكُو إِݣُوتْ المنكر. نضَالبِ ارْبِي السْلَامْت"، (وهي جملة بالأمازيغية ومعناها: "غابت الأمطار بسبب تزايد المنكر، نسأل الله السلامة").

في جو حار وشبه جاف، لا يليق ببرودة شهر شباط/ فبراير الشتوي، تَحدّث مزارع قروي أمام الركاب داخل بوسطة للنقل العمومي، بلغة أمازيغية محلية تميز جنوب وسط المغرب. كان القلق بادياً على ملامحه، ونبرة صوته توحي بتخوف تجاه موسم فلاحي مهدد بالجفاف.

ليس المزارع ابن القرية لوحده من يربط شح الأمطار بتنامي ما يصفه بـ"المنكر" و"الفحش"، أو حتى انتشار الأوبئة (كوباء كورونا المنتشر حالياً في العالم)، بل معظم المغاربة بما فيهم المتعلمون والمدينيون يفسّرون بشكل سببي حضور مثل هذه الظواهر الطبيعية على أنها "غضبة إلهية"، أكثر من اعتمادهم على تفسير علمي ومنهجي يُقْنع بأن أصل الداء يكمن في تغيرات المناخ وتداعياته على المغرب وعلى العالم بأسره.

أمطارٌ تَهْطل لِماماً

خلال الأشهر القليلة الماضية، تهاطلت – بالكاد - بضع قطرات من الأمطار في معظم المناطق المغربية، وهي عموماً شحيحة. الإحصاءات الرسمية تفيد بأن المُعدل التراكمي للتساقطات المطرية سجل تراجعاً. فإلى غاية 20 كانون الثاني/ يناير الفائت، وصل المعدل إلى 136.9 ملم، في حين عرفت الفترة نفسها من العام الماضي معدلاً مطرياً قدره 220.9 ملم.

و تضيف التقارير الرسمية بأن"هذا العجز المُسجل في تساقط الأمطار في بداية الموسم الحالي عمَّ غالبية جهات المملكة، وهو ما أدى إلى نسبة ملء للسدود المُخصصة للاستعمال الفلاحي في حدود 47.6 في المئة مقابل 60.02 في المئة قبل سنة"، وهذا يمثل انخفاضاً بنسبة 13.6 في المئة قياساً مع المعدل المسجّل في السنوات الخمس الفائتة.

يعتمد المغرب بشكل أساسي على الفلاحة (تمثل ما بين 15 إلى 20 في المئة من الناتج الداخلي الخام)، وحالياً قَلَّصَ اعتماده على الزراعات المرتبطة بالمطر، وهو ما أكده رئيس الحكومة بأن "الارتباط بالتساقطات المطرية على المستوى الاقتصادي، وكذا على مستوى الناتج الداخلي الخام أصبح يقل".

معظم المغاربة، بما فيهم المتعلمون والمدينيون، يفسّرون شح الأمطار على أنها "غضبة إلهية" ترتبط بتنامي ما يصفونه بـ"المنكر" و"الفحش".

وما زال معظم المزارعين الصغار يترقبون بعين فاحصة السماء علَّها تمطر، يتابعون تفاصيل النشرات الجوية، ويأملون بهطول دفعة أخيرة من الأمطار خلال شهر آذار/ مارس، وهي فترة قد تنقذ ولو القليل من محاصيل الحبوب. لكن إذا لم يحصل ذلك، فمصير الموسم الفلاحي هو الخسارة لا محالة. فأراضي الزراعات التقليدية (المعيشية) تحتاج إلى امتصاص التساقطات المطرية مرة كل شهر(وفق خبراء زراعيين).

التغير المناخي هو السبب

يُعْزى انحباس المطر وشحه إلى التغير المناخي في العالم، وما ينتج من ظواهر كـ"الاحتباس الحراري". هذا الكلام أكده – مؤخراً - خبراء صندوق النقد الدولي، إذ أفادوا بأن المغرب يتموقع في الخطوط الأمامية لخطر تغير المناخ. والشاهد على ذلك ما يسجله عدد من مناطق الخط الساحلي الشمالي للمملكة من تآكل حاد بمعدل متر واحد سنوياً. إضافة إلى أن البلد يشهد العديد من تأثيرات تغير المناخ، مثل ارتفاع درجة الحرارة، وانخفاض التساقطات المطرية، وندرة المياه، وزحف رمال الصحراء على الواحات، والنظم الإيكولوجية الهشة.

مقالات ذات صلة

أما التقارير الرسمية، فتدق ناقوس الخطر حيال تداعيات الاحتباس الحراري على المدى القصير والمتوسط والطويل بالمغرب، وتؤكد بأن البلد "مهدد بشكل خطير بسبب تغير المناخ، مما يؤدي إلى انخفاض محصول الحبوب من 50 في المئة إلى 75 في المئة في السنة الجافة، و10 في المئة في العام العادي". كما أن التغيرات المناخية تُهدِّد بـ"انخفاض في خصوبة التربة بسبب نضوبها من المواد العضوية، وكذلك انخفاض إنتاج الثروة الحيوانية المتدهورة، في ارتباط مع الآثار السلبية على إنتاج المحاصيل".

في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، شَكّلَ المطر بالنسبة إلى المخزن (الدولة المركزية) أمراً غير مرغوب فيه. ففي الوقت الذي يعتبره المغاربة فأل خير ومؤشراً على النعمة ورضا الله، كانت تراه السلطة الحاكمة سخطاً من السماء لأنه سيغذي ثورات القبائل المتمردة، "السائبة" عليها. كانت السلطة تتمنى الجفاف لتلك المناطق الثائرة حتى تضعف ليتم تطويعها واحتوائها.

بدورها، أرجعت مديرية الأرصاد الجوية بالمغرب تأخر الأمطار إلى تأثر البلد بظاهرة الاحتباس الحراري. وبينت دراسة قامت بها هذه المؤسسة أن المغرب يخسر 11 يوماً من أيام البرودة كل 45 سنة، وهذا يدل على أن فترات الحرارة ستطول قياساً بفترات البرودة التي ستتقلص.

"الذنوب هي السبب"

لا يُقنع التفسير العلمي لشح وانحباس المطر قطاعاً مهماً من المغاربة، إذ يرون في تجدد مثل هذه الظاهرة الطبيعية "عقاباً" إلهياً ل"كثرة الذنوب والخطايا" و"استفحالها" و"نشر الفضائح"، والتطبيع مع "الإباحيات"، وغيرها مما يعتبرونه "منكراً" و"فساداً" أخلاقياً يستوجب "التوبة".

في العام المنصرم مثلاً، فَسَّرَ معلقون على وسائل التواصل الاجتماعي مسألة غياب الأمطار بشكل ظرفي خلال كانون الأول/ديسمبر 2018 بانتشار جرائم دموية من قبيل قتل سائحتين من طرف أربعة متطرفين، وجريمة نحر سيدة مطلّقة بمنطقة إفران، وظهور مثلي جنسي بمراكش بلباس أنثوي.

تساهم الخطابات الدينية المعتمِدة على نصوص جامدة وقروسطية في تكريس مثل هذه الذهنيات والاستنتاجات. كما أن حاملي مثل هذا الخطاب لديهم شرعية وقبول لدى معظم المغاربة، إذ يربطون الأحداث بممارسات وأخلاقيات تُقيَّم بثنائية العقاب والثواب الإلهيين.

والأوبئة أيضاً..

"إِغُورِيلَا أنْزَارْ أَتِيلِي تَمَاضُونْتْ"("إذا غابت الأمطار، تحضر الأمراض والأوبئة"). يشاطر معظم المغاربة كلام المزارع القروي، وهو تأكيد ليس وليد اللحظة، بل نتاج ذاكرة جمعية ترسَّخت في الوعي الجمعي إثر أحداث متكررة عصفت بهم لقرون مضت. حين عاش المغاربة فصولاً متتابعة من سنوات الجفاف، سجّل القرن التاسع عشر أبرزها، مثل جفاف عام 1850 وأيضاً جفاف عام 1867، وهي السنة التي تلاها استفحال وباء الكوليرا. وسجل التاريخ أيضاً تعرّض البلاد للجفاف عام 1880، ومجاعة سنة 1890 التي تلتها مجدداً الكوليرا في عام 1895، وقضى أكثر من 250 ألف شخص نحبهم، وشهدت المدن الكبرى مثل فاس ومراكش وطنجة وفيات قُدّرت بما بين 4 و5 آلاف شخص.

المطر كوسيلة للحكم و تعزيز الشرعية

"عام ورَا عام ياك نص قرن هذا واحنايا نْتْسْنَاوْ فْ الشْتَا"("سنة وراء سنة، نصف قرن مضى، ونحن ما زلنا ننتظر المطر")، هكذا تعلِّق إحدى الأغاني المغربية الشبابية (1) على ارتباط المغرب بالمطر بشكل وثيق ومتجذر وصل إلى حد أنْ استثمرته ووظفته السلطة السياسية كآلية للحكم وتعزيز شرعيتها الدينية والسياسية.

مقالات ذات صلة

في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، شَكّلَ المطر بالنسبة إلى المخزن (الدولة المركزية) أمراً غير مرغوب فيه. ففي الوقت الذي يعتبره المغاربة فأل خير ومؤشراً على النعمة ورضا الله، كانت تراه السلطة الحاكمة سخطاً من السماء لأن الأمر سيغذي ثورات القبائل المتمردة. فهو عامل قوة لهذه المجموعات "السائبة" عليها. لذا كان من صالح السلطة أن يشمل الجفاف تلك المناطق الثائرة حتى تضعف ليتم تطويعها واحتوائها.

أما المستعمر الفرنسي فاعتبر المطر ضَامناً للبقاء والاستقرار خلال العقود الأولى من القرن الفائت، إذ أدرك بأن غياب الأمطار والجفاف وما يتبع ذلك من كوارث طبيعية وأوبئة سيكون عاملاً في تأجيج واندلاع الانتفاضات. لذا كان لزاماً عليه أن يتبنى استراتيجية تتمثل في رصد الأحوال الجوية، من خلال إنشاء معهد للأرصاد الجوية كان تحت نظر ورقابة أجهزة المخابرات والجهات الأمنية، لا سيما مديرية الشؤون السياسية.

استعان الملك الراحل الحسن الثاني بالاستمطار الصناعي خلال ثمانينات القرن الفائت، فأطلق عملية "غيث" بغية استمطار الغيوم بواسطة طائرات القوات المسلحة الملكية المغربية. هذه التكنولوجيا الدقيقة والمتطورة، المقدمة من الولايات المتحدة الأمريكية، لم تمنع الملك بصفته أميراً للمؤمنين من الدعوة إلى إقامة صلاة الاستسقاء.

ولقرون طويلة، فطنت السلطة السياسية لأهمية المطر في حياة المغاربة، لذلك لجأت خلال العقود الأخيرة إلى العلم، وتنبؤات الأرصاد الجوية مشفوعة بصلاة الاستسقاء. وكان الملك الراحل الحسن الثاني قد استعان بالاستمطار الصناعي خلال ثمانينات القرن الفائت، إذ أطلق عملية"غيث" بغية استمطار الغيوم بواسطة طائرات القوات المسلحة الملكية المغربية. هذه التكنولوجيا الدقيقة والمتطورة، المقدمة من الولايات المتحدة الأمريكية، لم تمنع الملك بصفته أميراً للمؤمنين من الدعوة إلى إقامة صلاة الاستسقاء، ما دام المغاربة يؤمنون بشكل يقيني بـ"إعجازية" الصلاة، حتى وإن كانوا على علم مسبق بما ستتنبأ به مديرية الأرصاد الجوية، لأنهم ينظرون إلى مسألة الغيث باعتبارها اختصاصاً إلهياً. وإن لم تسقط الأمطار فالخلل يكمن حسبهم في "ذنوب العباد وخطاياهم".

تاريخياً، اعتبر المغاربة إقامة صلاة الاستسقاء على أنها "لا تعني تساقط المطر كنتيجة حتمية. فإذا لم يسقط المطر فذلك يعني أن الأمة لم تكفّر عن كل ذنوبها" (2) . وإلى وقتنا الراهن، ما زال معظم المغاربة يعتقدون بجدوى صلاة الاستسقاء، خصوصاً إذا جاء بعدها "الغيث" من السماء. البعض يعزو الأمر إلى "استجابة من الله لطلب أمير المؤمنين والعباد المخلصين"، في حين يرى آخرون أن الأمر مشكوك فيه ما دامت إقامة صلاة الاستسقاء غالباً ما تتزامن مع تنبؤات الأرصاد الجوية التي تفيد بهطول الأمطار.

وعلى مدار قرون مضت، كان معظم السلاطين يتحاشون ترؤس مراسم صلاة الاستسقاء مخافة أن يتبع ذلك جفاف قد يطول لسنوات، ما يفقدهم شرعيتهم فوق الطبيعية والميثافيزيقية، في ما يعرف بـ"البركة" المقترنة بنسب الحاكم الشريف العائد إلى آل بيت الرسول. وكان المغاربة يرون السلطان "مُسقطاً للمطر نظراً لما يتمتع به من بركة تجعل دعاءه مستجاباً"، وبشكل ضمني كانوا يضعون "بركته" على محك الاختبار، "فإذا كانت سنواته الأولى عجافاً وشحيحة المطر تَشاءموا، وإذا عرفت البلاد أمطاراً وأثمر الزرع اعتبروا السلطان ذا بركة وخير" (3).

______________

1-أغنية 60 بالمئة لفرقة هوبا هوبا سبيريت.
2-محمد الطوزي، "الملكية والإسلام السياسي في المغرب ".
3-وفق تصريح للمؤرخ المغربي المعطي منجب لأحد المواقع المحلية.

مقالات من المغرب

الناجح: لا أحد

نحتار ونحن نَطّلع على مؤشرات التعليم في المغرب خلال العقدين الأخيرين، بين مستوى المدارس والتعليم حسبَ ما نعاينه فعلياً من جهة، وما تقوله من جهة ثانية الإحصاءات الدّولية حول التعليم،...

للكاتب نفسه