المنظومة المعرفية المهيمنة: الحافظ يهزم الفاهم

المدارس المغربية مصبوغة جيداً ومجهزة. لكن، ينقصها شيء ما.. النظام التعليمي مبني على الحفظ والاستظهار وهو لا يتيح الانتقال من التلمذة إلى البحث، من اجترار اليقين إلى الإنتاج..
2017-11-16

محمد بنعزيز

كاتب وسينمائي من المغرب


شارك
أسامة دياب - سوريا

في كتابه الشهير "التشوف إلى رجال التصوف"، يحكي إبن الزيات (التادلي، المتوفي في العام 1230 ميلادية، وهو أديب وقاضي مالكي من المغرب)، أن ولياً صالحاً يُدعى عبد السلام كان يدرس ما يحفظه، فخرج له أبو بكر ومحمد ابني مخلوف، وكانا ممن أخذ عن أبي الفضل النحوي، وكانا ذكيين عالمين بالمناظرة بينما كان عبد السلام مقتصراً على حفظ المسائل، فكانا يعترضان عليه في مجلس تدريسه فدعا الله تعالى عليهما، فماتا معا في جمعة واحدة. هكذا تخلص الصالح من الصوت الطالح.

 هذا عقاب طالب العلم الذي يجادل الشيوخ. وهكذا فالحافظ يسحق الذكي بل يقتله بدعاء مستجاب. إذن فالله في صف الحافظ ضد المجادل. والهدف من سرد الواقعة هو "تبيان آفات المناظرة وما يتولد عنها من مهلكات الأخلاق الإحياء". وبما أن راوي سيرة صلحاء المغرب متأثر بالغزالي، فهو يردد خلفه أن المناظرة مذمومة، فهدفها هو الغلبة والإفحام وإظهار الفضل والتشدق، وهي تجرّ إلى فواحش مثل الكبر والعجب والحسد والمنافسة وتزكية النفس وحب الجاه. هذا ما يقوله أبو حامد الغزالي عن المناظرة، ويضيف أن المُناظِر مرة يَغلب ومرة يُغلب، فإن غلب تكبّر واستهزأ ونافق ليستميل الناس إلى كلامه، أما إن هزم حقد وحسد ونم وتجسس ليتتبع عورات خصومه..

 وبناء عليه، يصل الغزالي إلى ذلك الاستنتاج مِن أن المناظرة آفة وهي من مهلكات الأخلاق. الحل هو سرد صوت واحد، وقد خصص الغزالي وصفاً مذلاً لصفات المتعلم في الإحياء. متعلم قيل له احفظ. وقد أطاع لذا لم يتعلم متوالية: انظُر، لاحِظ، تساءل.

أدب العلم ونعل الشيخ أهم من العلم

وعلى النهج نفسه كتب ابن مفلح المقدسي (وهو من كبار القضاة الحنابلة) في "الآداب الشرعية والمنح المرعية" في 1350: "أما بالنسبة لطالب العلم، فإن عليه أن يميل إلى السكوت أكثر من العامة"! واضح أن العامة لا يسكتون. ويضيف ابن مفلح أن على الطالب أن يتحلّى بآداب الصمت "فأدب العلم أكثر من العلم". ولديه دليل سلفي "فالسلف كانوا يتعلمون من شيوخهم هديهم.. كانوا يتعلمون من الفقيه كل شيء حتى لباسه ونعليه". وعندما نعرف أن المقدسي يتحدث عن نعل معلمه ابن تيمية، تظهر معاني كثيرة...

حتى تسعينيات القرن العشرين كان الأب الذي يذهب بابنه إلى لمدرسة يقول للمعلم: أنت اذبح وأنا أسلخ. العنف يفرض الانقياد. وهذا لم ينقطع!

المطلوب مراقبة نعل الشيخ لا طرح السؤال. هو يتلصص على الماضي، يشم السوسيولوجي البصاص رائحة النعل تعبر القرون لتفرض الصوت الواحد.

 وتأكيداً على تواصل هذا السلوك المعادي للمناظرة، جلس المؤرخ الوفراني لتدريس التفسير بمراكش سنة 1718، فاجتمع عليه طلبة المدينة لأن مجلسه عرف بكثرة البحث والجدال، ورموه بالزندقة وسعوا إلى منعه ورفعوا دعوى ضده إلى باشا مراكش قائلين إن التفسير متى قُرِء بمراكش حل بها الجوع لا محالة. فأمر الباشا الوفراني بترك التفسير والاقتصار على "ما يتعاطاه الناس".

 هكذا على المؤرخ أن يلتزم بنهج الفقيه وأن يلقن ما يرضي العامة فقط. يلتزم بالشائع والمشترك المريح، وكل محاولة لفحصه ترعب. يمنع التلقين الطالب من الشك لأنه يقدم له الجاهز.

والسلطان يحمي الطلبة من الجدل

وللحفاظ على العامة، من البدويين خاصة، أصدر السلطان محمد الثالث مرسوما عام 1778 لإصلاح التعليم بجامعة القرويين، أمر فيه ألاّ يدرس فيها إلا كلام الله وكتاب "دلائل الخيرات" وصحيحي البخاري ومسلم. وأكد السلطان أن "علم الأصول" أمر قد فُرغ منه والفقه قد دُوِّن ولم يبقَ اجتهاد. ومن أراد أن يخوض في "علم الكلام" و"المنطق" و"علوم الفلسفة" فعليه أن يفعل ذلك في داره لكي لا يضلل طلبة البوادي الذين جاؤوا للجامعة..

مقالات ذات صلة

بتدريس ما فُرِغ منه ودُوّن يصير الدرس مونولوجاً طويلاً لا مكان فيه للجدل والسؤال. قال بورخيس "يُمَكّن الحوار من تشعيب الفكر ومن التفسير. وظيفة السؤال هي توسيع مداركنا. هي كسر الدوغمائية. هي زرع الشك في الوثوقية. في الفلسفة تكمن المتعة والفائدة في تعب رحلة البحث عن المعرفة. المتعة في التقدم المستمر وليس في امتلاك الحقيقة. ويقول إفرايم ليسينغ "فالامتلاك يجعل الإنسان ساكناً وكسولاً ومتكبراً".

 بهيمنة الجاهز السائد يغيب السؤال، وتصير طقوس التدريس تلقينية لا حوارية. وكان على الطالب حفظ الجاهز وإظهار الخضوع والتواضع الزائد، أي الذل لشيخه.

كيف تحقق هذا الخنوع؟

حتى تسعينيات القرن العشرين كان الأب الذي يذهب بابنه للمدرسة يقول للمعلم: أنت اذبح وأنا أسلخ. العنف يفرض الانقياد. وهذا لم ينقطع. ففي 2017 صدرت دراسة رسمية تؤكد تعرض 90 في المئة من الأطفال المغاربة للعنف، لذلك حين يحصل أن يدرِّسهم مدرس غير عنيف فهم يسخرون منه. وقد كان المدرسون ورجال الشرطة في المغرب غالباً منحدرين من القرى ولهم مزاج قاس ويعتبرون المجادلة وقاحة. كل جواب يجلب صفعة.
ما هو النسق المعرفي الذي أوصل العرب لما هم عليه اليوم؟ نسق يقدس الاموات. ويبدو أن المغرب متخلف ليس بسبب قلة الموارد ولكن بسبب بنية ذهنية صوفية قدرية متكاسلة..

المقدسي يقول: "السلف كانوا يتعلمون من شيوخهم هديهم.. كانوا يتعلمون من الفقيه كل شيء حتى لباسه ونعليه". وعندما نعرف أن المقدسي يتحدث عن نعل معلمه ابن تيمية، تظهر معاني كثيرة. المطلوب إذاً مراقبة نعل الشيخ لا طرح السؤال..

لتأكيد العداء للمناظرة، يتهم طه عبد الرحمن في "حوارات من أجل المستقبل" ابن رشد بالتجسس على المتصوفة. في الجامعة المغربية حالياً مئات الأستاذة الذي "تدكتروا" بتحقيق كتاب تصوف لم يكتبوا حوله كلمة واحدة. لا تعليق لا تفسير ولا شك.. كتبٌ تبدأ بـ"اعلم" و"اترك" و"افعل"، نصوص يهيمن عليها منطق الدعة، كَتبَ لها المحققون اللغويون تقديماً بلا حس نقدي بل والمعجم نفسه بدون مسافة ولا وجهة نظر تركيبية، بل بسملة وحوقلة.. ومع ذلك وضعوا أسماءهم على أغلفة الكتب. ليس من السهل في نظام تعليمي مبني على الحفظ والاستظهار الانتقال من التلمذة إلى البحث، من اجترار اليقين إلى الإنتاج. لذلك يعاد تدوير معرفة مصبَّرة، معبأة ومشحونة بالمحفوظات لاستظهارها في مواجهة الاسئلة...

 ما مدى تعمق هذا المنظومة المعرفية في الحقل الجامعي المغربي؟

لكي يكون السوسيولوجي البصاص وفيا للوقائع الناطقة، إليكم هذه العينة الموثقة بالمكان والزمان مع حذف اسم الأستاذ: إنها واقعة من سؤال كتابي حرره وطرحه أستاذ جامعي حقوقي على طلبة كلية الحقوق بمدينة سطات في امتحان الدورة الاستدراكية خلال شهر تموز/ يوليو 2017.

 "يوجد في قمة الهرم السياسي المغربي الله عز وجل، ويتبعه الرسول صلى الله وعليه وسلم، ثم في المقام الثالث، سبط الرسول الذي يسوس الأمة ويراقب ممثليها. وإذا كان الله أحد لا شريك له وتتجلى وحدانيته في إيمان ووعي كل مؤمن، فإن حضور الرسول عليه السلام يتم عن طريق خليفته في الأرض جامع السلطات. على ضوء هذه المقولة حلل الصلاحيات السياسية والروحية للملك وفقاً لمقتضيات الدستور المغربي".

 سخر المعلقون من محتوى السؤال لكن الواقع لا يرتفع. وقد شرحت إدارة الجامعة أنه يحق للجنة العلمية في كلية الحقوق أن تتدخل إذا احتج الطلبة.
-    لم يحتج الطلبة.
-    كل شيء بخير!

طلبة يتميزون بالحياء في الحقل العام

يجمع التعليم المغربي بين أهداف وأولويات متناقضة مثل الحشمة والحياء والتحليل. الحياء ليس شعبة من شعب الفلسفة، بل هو شعبة من شعب الايمان.

 في بداية آب/ أغسطس 2017 أعلن الشيخ احمد الريسوني أن "الفساد بدأ ينفجر بشكل خطير.. وخراب الجامعة مرتبط بفساد الأخلاق". المهم هو منع القُبل وليس معالجة ضعف مناهج البحث العلمي. مرة واحدة اخترق الفيلسوف التعليم المغربي، وكان ذلك في حزيران/ يونيو 2017 عندما طُرح نص لمحمد سبيلا عن كثرة مظاهر الحداثة التقنية لدى المغاربة الذي يستهلكون التكنولوجيا مع غياب الحداثة السلوكية لدى المغربي الذي يعيش في منظومة تفكير خرافي في تدبير الزمن والعلاقة بالقانون والتمثلات. وكان السؤال المرافق للنص هو: ما هي مظاهر التفكير الخرافي في المجتمع؟

 كان جواب جل التلاميذ وعظياً يشمل ما حفظوه: نحن مطالبون بالتخلي عن الفكر الخرافي لأنه سيء.
لا وصف ولا تحليل في الجواب. هناك وعظ فقط. هم لا يرون أي خرافة في سلوكهم لكن سيتخلون عنها في المستقبل.

 ما علاقة الفاهم والحافظ في السياق المغربي؟ الأسبقية للحافظ الببغاء. هاكم عينة لجواب التعليم الوعظي الذي يحاكم ويعظ بما "ينبغي" أن يكون. لذلك يردد المغربي "ضع النية ونم مع الحية" (الأفعى)، ويردد: المهم أن يكون الله في عونك لا أن تستيقظ مبكراً.

 نحن شعب "إن شاء الله"، ولا يقتصر هذا على الشيوخ. ففي العطل يرجع شباب المدينة للقرية لصلة الرحم والانخراط في "الجماعة" وتقديم مساهمتهم في شراء ذبيحة لضريح الولي الصالح. وهنا يطرح سؤال: هل فشلت المدرسة المغربية في أن تكون قاطرة للتحديث؟ الجواب السهل هو نعم. لكن ما القول حين المهندس قد تعلم في الغرب ورجع للمغرب يبحث عن الطمأنينة في الضريح؟ هل يجوز حينها اتهام المدرسة؟

هذا العام قالت المعلمة لتلاميذ المستوى الإعدادي أن من يشرب الخمر في الدنيا لن يشرب خمر الجنة. لذا يجب تجنب كل ما قد يغلق مائدة الجنة.

 في شرح مقدمة معلقة عمرو ابن كلثوم، بيّن الأستاذ أن الشاعر يفتخر بشرب أجود أنواع الخمر "أَلاَ هُبِّي بِصَحْنِكِ فَاصْبَحِيْنَـا - وَلاَ تُبْقِي خُمُـوْرَ الأَنْدَرِيْنَـا". وفسر الأستاذ ذلك بالسياق حين أكد على مكانة الخمر في العصر الجاهلي وفي بداية العصر الإسلامي حين كان الخمر حلالاً. وقف التلاميذ محتجين لأن الخمر أصلاً حرام. ذكر الأستاذ الآية الدليل والتي ينهى الله فيها المؤمنين عن فعل الصلاة في حال السكر. أي أن على المسلمين أن يفصلوا زمنياً بين السكر والصلاة. اندلعت فوضى في الفصل الدراسي وردد أربعون تلميذاً "الخمر حرام"، وأعلنوا أنهم سيسألون استاذ التربية الإسلامية..

 في شعر الإسلام، يرد شعراء الرسول على قصائد الكفار دون ذكر هذه القصائد. صوت الآخر مغيب. في "الوحي عفتهم"، يرد حسان ابن ثابت على الخصوم، لكن لا مكان للنص المردود عليه. نعرف اعتذار كعب بن زهير في "بانت سعاد"، لكن لم نعرف أبدا القصيدة التي كان سيقتل بسببها.

 سأل التلاميذ أهم أستاذ في الثانوية. قال لهم نعم ولكن الخمر حُرِّم. خصص ثانيتين لنعم وربع ساعة للكن.
في حصة أخرى قال التلاميذ لأستاذ الفلسفة بأنهم سيسألون أستاذ التربية الإسلامية: هل الفلسفة حلال أم حرام؟

 الجواب يوجد لدى الأستاذ الأهم في الثانوية. فهو المرجع الذي يُسأل. هل يختلف أستاذ مادة العلوم عن الفقيه؟ إليكم هذه الواقعة: ضبط استاذ العلوم تلميذاً يقبل تلميذة في فصل دراسي فحرر تقريراً وطردا. بالمناسبة فالمغرب يشهد في هذه الأيام معركة شرسة دفاعاً عن البخاري مدد الله مجده.

 صحيح ان المدارس المغربية هذه الأيام مصبوغة جيداً، ومجهزة أفضل، وفيها العدد الكافي من الأطر. لكن ينقص شيء ما...

مقالات من المغرب

أنا وليالي الضّوء في الغابات

لم أتوقف عن الرسم، لأنني تعلّمتُ نقش الحناء بسرعة بعدها، لوجود جمهور متحمس، مع إمكانية الاختراع، وانجذاباً إلى رائحة الحناء، وتدرجات اللون البني على الأصابع والراحات والأكفّ. كنتُ أخترع بنفسي...

الحرّية للصحافيين والسّجن للصحافة

الصّحافيون الثلاثة الأشهر الذين أُفرج عنهم، أُدخلوا السّجن بتهم جنسية، لا بتهم متعلقة بحرّية الصّحافة أو الرأي، كما هو الواقع. وهي استراتيجية مباشِرة إلى درجة تثير السخرية، لكنها أيضاً لئيمة...

للكاتب نفسه

حكي الفقر.. تحليل الفقر

الأدب هو خبرة الإنسان في العالم منذ الخلق إلى الآن. علم الإجتماع يعرّي، يحلل، يفسر.. الادب يلتقط المشاعر التي تفرزها المصائب، تلك التي جرتها السياسات والأنظمة على الافراد..